موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الخامِسُ: البُحْتُريُّ


هو أبو عُبادةَ، الوَليدُ بنُ عُبَيدِ بنِ يَحْيى الطَّائِيُّ، البُحْتُريُّ، غَلَبَ عليه اسمُ البُحْتُريِّ نِسبةً إلى عَشيرتِه الطَّائيَّةِ بُحْتُرٍ.
وقد نَشَأَ البُحْتُريُّ في باديةِ قَوْمِه يَتَغذَّى مِن فَصاحتِها؛ فصارَ فَصيحًا قَوِيَّ اللَّفْظِ واللَّهْجةِ، واخْتَلَفَ إلى حَلَقاتِ العِلمِ يَنهَلُ منها اللُّغةَ والنَّحْوَ وشيئًا مِن الفِقْهِ والتَّفْسيرِ والحَديثِ وعِلمِ الكَلامِ. وقد اتَّجَهَ إلى أبي تَمَّامٍ فأُعْجِبَ بمَوْهبتِه، وعَلَّمَه بعضَ المَبادِئِ في صَنْعةِ الشِّعْرِ ونَظْمِه، يقولُ البُحْتُريُّ: "كنْتُ في حَداثتي أرومُ الشِّعْرَ، وكنْتُ أرْجِعُ إلى طَبْعٍ، ولم أكنْ أقِفُ على تَسْهيلِ مَأخَذِه ... حتَّى قَصَدْتُ أبا تَمَّامٍ، فانْقَطَعْتُ فيه إليه، واتَّكَلْتُ في تَعْريفِه عليه، فكانَ أوَّلُ ما قال لي: يا أبا عُبادةَ تَخيَّرِ الأوْقاتَ وأنت قَليلُ الهُمومِ، صِفْرٌ مِن الغُمومِ، واعْلَمْ أنَّ العادةَ في الأوْقاتِ أن يَقصِدَ الإنْسانُ لتَأليفِ شيءٍ أو حِفْظِه في وَقْتِ السَّحَرِ، وذلك أنَّ النَّفْسَ قد أخَذَتْ حَظَّها مِن الرَّاحةِ، وقِسْطَها مِن النَّوْمِ، فإذا أرَدْتَ النَّسيبَ فاجْعَلِ اللَّفْظَ رَقيقًا والمَعْنى رَشيقًا، وأكْثِرْ فيه مِن بَيانِ الصَّبابةِ، وتَوجُّعِ الكآبةِ، وقَلَقِ الأشْواقِ، ولَوْعةِ الفِراقِ، وإذا أخَذْتَ في مَدْحِ سَيِّدٍ ذي أيادٍ، فأشْهِرْ مَناقِبَه، وأظْهِرْ مَناسِبَه، وأَبِنْ مَعالِمَه، وشَرِّفْ مَقامَه، وتَقاصَّ المَعانيَ، واحْذَرِ المَجْهولَ مِنها، وإيَّاك أن تَشينَ شِعْرَك بالألْفاظِ الزَّرِيَّةِ، وكُنْ كأنَّك خَيَّاطٌ يَقطَعُ الثِّيابَ على مَقاديرِ الأجْسامِ، وإذا عارَضَك الضَّجَرُ فأرِحْ نفْسَك، ولا تَعمَلْ إلَّا وأنت فارِغُ القَلْبِ، واجْعَلْ شَهْوتَك إلى قَوْلِ الشِّعْرِ الذَّريعةَ إلى حُسْنِ نَظْمِه؛ فإنَّ الشَّهْوةَ نِعْمَ المُعينُ، وجُملةُ الحالِ أن تَعْتبِرَ شِعْرَك بما سَلَفَ مِن شِعْرِ الماضينَ، فما اسْتَحْسَنَه العُلَماءُ فاقْصِدْه، وما تَرَكوه فاجْتَنِبْه، تَرْشُدْ إن شاءَ اللهُ تعالى" [611] ((شرح مقامات الحريري)) للشريشي (1/71). .
وقد أخَذَ البُحْتُريُّ بهذه النَّصيحةِ، وبَدَأَ حَياتَه العَمليَّةَ بمَدْحِ الأشْرافِ والأُمَراءِ والوُجَهاءِ، بلْ قيلَ: إنَّه كانَ يَمدَحُ في قَوْمِه بائِعي البَصَلِ والباذنْجانِ، ثُمَّ تَرقَّى في شِعْرِه حتَّى صارَ شاعِرًا للبَلاطِ زَمانَ المُتوَكِّلِ، فأكْثَرَ مِن مَدْحِه ومَدْحِ وَزيرِه الفَتْحِ بنِ خاقانَ الَّذي وَضَعَ له كِتابَه "الحَماسة" مُحاكاةً لحَماسةِ أبي تَمَّامٍ.
ولم يكنِ الكِتابُ وَحْدَه دَليلًا على مُحاكاةِ البُحْتُريِّ لأبي تَمَّامٍ؛ فقدْ كانَ يُحاكيه في مَوْضوعاتِه ومَعانيه، حتَّى انْتَقدَه عليها كَثيرٌ مِن الأُدَباءِ والشُّعَراءِ [612] ينظر: ((الفن ومذاهبه في الشِّعْر العربي)) لشوقي ضيف (ص:189). .
وظَلَّ البُحْتُريُّ مُلازِمًا للمُتوَكِّلِ طيلةَ حَياتِه، يَمدَحُه ويَذكُرُ مَناقِبَه ويُشيدُ بأعْمالِه، ولمَّا قُتِلَ المُتوَكِّلُ رَثاه رِثاءً حارًّا، ولم يَطِبْ له العَيْشُ في بَغْدادَ فانْصَرفَ عنها إلى المَدائِنِ، ورَأى إيوانَ كِسْرى، ووَصَفَه هنالك بما اشْتَهرَ في سينيَّتِه المَشْهورةِ، وذَكَرَ حالَ الفُرْسِ وما نَزَلَ بهم مِن ذُلٍّ بعْدَ عِزٍّ، وكأنَّه يُلَمِّحُ ببَني العَبَّاسِ وبالخِلافةِ، أو أنَّه اتَّخَذَ الإيوانَ مُعادِلًا مَوْضوعيًّا لنفْسِه.
ثُمَّ بعْدَ ذلك رَجَعَ إلى بَغْدادَ مَرَّةً أخرى فمَدَحَ المُنْتصِرَ، واسْتَمرَّ شاعِرًا للبَلاطِ في زَمانِ الخُلَفاءِ المُسْتَعينِ والمُعْتَزِّ والمُهْتَدي والمُعْتَمِدِ.
وعلى هذا النَّحْوِ ظَلَّ أكْثَرَ مِن أرْبَعينَ عامًا الشَّاعِرَ الرَّسْميَّ للخُلَفاءِ العبَّاسيِّينَ يُدوِّنُ أعْمالَهم وما يُشَيِّدونَه مِن قُصورٍ، كما يُدوِّنُ حُروبَهم معَ الثَّائِرينَ عليهم في الدَّاخِلِ والخارِجِ [613] ينظر: ((الفن ومذاهبه في الشِّعْر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 189). .
ثُمَّ يَدفَعُه شِعْرُه تلك المَرَّةَ إلى مُغادَرةِ بَغْدادَ مِن جَديدٍ، وذلك أنَّ النَّاسَ اتَّهَموه بالثَّنويَّةِ -القَولِ بوُجودِ إلهينِ للوُجودِ: إلهِ الظَّلامِ وإلهِ النُّورِ- حينَ قالَ:
تَراها عِيانًا وهي صَنْعةُ واحِدٍ
فتَحسَبُها صُنْعَيْ حَكيمٍ وأخْرَقِ [614] ((ديوان البحتري)) (ص: 1553).
فخَرَجَ مِن بَغْدادَ فارًّا بنفْسِه، فذَهَبَ إلى بَلْدتِه، الَّتي لم يَطُلْ فيها مُقامُه؛ حيثُ وافَتْه المَنيَّةُ هناك سَنَةَ 284ه [615] ينظر: ((الأمالي)) للمرتضى (2/229)، ((الوافي بالوفيات)) لصلاح الدين الصفدي (27/276). .
وقدْ جَعَلَه كَثيرٌ مِن الأُدَباءِ شاعِرَ عَصْرِه، ومِنهم مَن جَعَلَه يَفوقُ المُتَنبِّي وأبا تَمَّامٍ؛ فقدْ سُئِلَ أبو العَلاءِ المَعَرِّيِّ: أيُّ الثَّلاثةِ أشْعَرُ؟ فقالَ: حَكيمانِ، والشَّاعِرُ البُحْتُريُّ.
ولمَّا أنْشَدَ البُحْتُريُّ إحدى قَصائِدِه لأبي تَمَّامٍ، بَكى وقالَ له: لقد نَعَيْتَ إليَّ نفْسي، أنت أميرُ الشِّعْرِ بَعْدي.
وكانَ المُبَرِّدُ يقولُ: أنْشَدَنا شاعِرُ دَهْرِه ونَسيجُ وَحْدِه: أبو عُبادةَ البُحْتُريُّ [616] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (15/ 620)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (13/ 486). .
ضَرَبَ البُحْتُريُّ بسَهْمٍ نافِذٍ في جَميعِ الأغْراضِ الشِّعْريَّةِ؛ فتَناوَلَ شِعْرُه كلَّ المَوْضوعاتِ مِن غَزَلٍ وهِجاءٍ وفَخْرٍ ورِثاءٍ ووَصْفٍ ومَدْحٍ، إلَّا أنَّ جَوْدةَ شِعْرِه في هذه الأغْراضِ قد اختَلَفَتْ ضَعْفًا وقُوَّةً، فجاءَ شِعْرُ الهِجاءِ عنْدَه رَقيقًا ضَعيفًا، لم يَبلُغْ فيه مَبلَغَ بعضِ شُعَراءِ عَصْرِه مِثلِ ابنِ الرُّوميِّ ودِعْبِلٍ الخُزاعيِّ، ويقالُ: إنَّه أمَرَ ابنَه أن يُحرِقَ أشْعارَه فيه حينَ حَضَرَتْه الوَفاةُ.
ورُبَّما كانَ أرْوعُ مَوْضوعٍ عنْدَه هو الوَصْفَ، فقدْ كانَ يُجيدُ وَصْفَ القُصورِ والبِرَكِ والحَيَواناتِ وغيْرِها، وأفْضَلُ ما في هذا البابِ وَصْفُه لبِرْكةِ المُتوَكِّلِ بقَوْلِه:
يا مَن رأى البِرْكةَ الحَسْناءَ رُؤْيتَها
والآنِساتِ إذا لاحَتْ مَغانيها
تَحسَبُها أنَّها في فَضْلِ زينتِها
تُعَدُّ واحِدةً والبَحْرُ ثانيها
ما بالُ دِجْلةَ كالغَيْرى تُنافِسُها
في الحُسْنِ طَوْرًا وأطْوارًا تُباهيها
أمَا رأتْ كالِئَ الإسلامَ يَكلَؤُها
مِن أن تُعابَ وباني المَجْدِ يَبْنيها
كأنَّ جِنَّ سُلَيْمانَ الَّذين وَلُوا
إبْداعَها وأدَقُّوا في مَعانيها
فلو تَمُرُّ بها بِلْقيسُ عن عَرَضٍ
قالَتْ هي الصَّرْحُ تَمْثيلًا وتَشْبيها
تَنحَطُّ فيها وُفودُ الماءِ مُعْجَلةً
كالخَيْلِ خارِجةً مِن حَبْلِ مُجْريها
إذا عَلَتْها الصَّبا أبْدَتْ لها حُبُكًا
مِثلَ الجَواشِنِ مَصْقولًا حَواشيها
فرَوْنقُ الشَّمْسِ أحْيانًا يُضاحِكُها
ورَيِّقُ الغَيْثِ أحْيانًا يُباكيها
إذا النُّجومُ تَراءَتْ في جَوانِحِها
لَيلًا حَسِبْتَ سَماءً رُكِّبَتْ فيها
لا يَبلُغُ السَّمَكُ المَحْصورُ غايتَها
لبُعْدِ ما بَيْنَ قاصيها ودانيها
يَعُمْنَ فيها بأسْواطٍ مُجَنَّحةٍ
كالطَّيْرِ تَنقُضُ في جَوٍّ خَوافيها
لهنَّ صَحْنٌ رَحيبٌ في أسافِلِها
إذا انْحَطَطْنَ وبَهْوٌ في أعاليها
صورٌ إلى صورةِ الدُّلْفينِ يُؤْنِسُها
مِنهُ وَفاءٌ بعَيْنَيهِ يُناجيها
تَغْنى بساتينُها القُصْوى برُؤْيتِها
عنِ السَّحائِبِ مُنْهلًّا عَزاليها
كأنَّها حينَ لَجَّتْ في تَدَفُّقِها
يَدُ الخَليفةِ لمَّا سالَ واديها
وزادَها زِينةً مِن بَعْدِ زينتِها
أنَّ اسمَه يَوْمَ يُدْعى مِن أساميها
مَحْفوفةٌ برِياضٍ لا تَزالُ تَرى
رِيشَ الطَّواويسِ تَحْكيه ويَحْكيها [617] ((ديوان البحتري)) (ص: 2414).

انظر أيضا: