موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: بَشَّارُ بنُ بُرْدٍ


بَشَّارُ بنُ بُرْدٍ العُقَيليُّ بالوَلاءِ [591] جَدُّه يرجوخُ مِن طخارستان ممَّن سباهم المُهَلَّبُ بنُ أبي صُفرةَ والي خُراسان، ومِن أجْلِ ذلك نشأ ابنُه بُرْدٌ على الرِّقِّ، وكان أوَّلًا في عِدادِ رقيقِ خيرةَ القُشَيريَّةِ امرأةِ المُهَلَّبِ، ثمَّ وهبَتْه لامرأةٍ مِن بني عقيلٍ، وفي مِلْكِها وُلِدَ له بشارٌ على الرِّقِّ، ولم تلبَثِ العُقيليَّةُ أن أعتَقَت بُرْدًا، ومن أجل ذلك نُسِبَ هو وبنوه إلى بني عُقَيلٍ بالوَلاءِ. ، أبو مُعاذٍ، أشْعَرُ المُولَّدينَ على الإطْلاقِ.
نَشَأَ في بَني عُقَيلٍ، فوَرِثَ الفَصاحةَ وقُوَّةَ اللَّفْظِ والمَنطِقِ، ثُمَّ انْتَقلَ بعْدَها إلى البادِيةِ فتَمكَّنَ لِسانُه مِن اللُّغةِ والشِّعْرِ؛ ولِهذا كانَ أبْعَدَ النَّاسِ عن اللَّحْنِ في شِعْرِه، حتَّى إنَّ بعضَ النَّاسِ قالَ له: ليس لأحَدٍ مِن شُعَراءِ العَربِ شِعْرٌ إلَّا وقدْ قالَ فيه شيئًا اسْتَنْكَرَتْه العَربُ مِن ألْفاظِهم وشُكَّ فيه، وإنَّه ليس في شِعْرِك ما يُشَكُّ فيه! قالَ: ومِن أين يَأتيني الخَطَأُ؟! وُلِدْتُ هاهنا، ونَشَأْتُ في ‌حُجورِ ‌ثَمانينَ ‌شَيْخًا ‌مِن ‌فُصَحاءِ بَني عُقَيلٍ، ما فيهم أحَدٌ يَعرِفُ كَلِمةً مِن الخَطَأِ، وإن دَخَلْتُ إلى نِسائِهم فنِساؤُهم أفْصَحُ مِنهم، وأيْفَعْتُ فأبْدَيْتُ إلى أن أدْرَكْتُ، فمِن أين يَأتيني الخَطَأُ؟ [592] ينظر: ((الأغاني)) للأصفهاني (3/149). .
وُلِدَ بَشَّارٌ كَفيفًا، وفي ذلك يقولُ:
عَميْتُ جَنينًا والذَّكاءُ مِن العَمى
فجِئْتُ عَجيبَ الظَّنِّ للعِلمِ مَوْئِلا [593] ((ديوان بشار بن برد)) (ص: 180).
حَدَّتْ إعاقتُه مِن نَشاطِه فلم يَلْهُ لَهْوَ الصِّبْيانِ، ولكنْ لم تَحُدَّ مِن ذَكائِه وهِمَّتِه؛ فاتَّجَهَ إلى المَساجِدِ وإلى مِربَدِ البَصْرةِ يَنهَلُ مِن حَلَقاتِ العِلمِ والشِّعْرِ، وأعانَتْه نَشْأتُه في بَني عُقَيلٍ على أن يَتَمثَّلَ السَّليقةَ العَربيَّةَ، ولم يَكَدْ يَبلُغُ العاشِرةَ حتَّى أخَذَ يَنْبوعُ الشِّعْرِ يَسيلُ على لِسانِه، فبَدَأَ يَنظِمُ الشِّعْرَ، وأوَّلُ غَرَضٍ رَمى بسَهْمِه فيه هو الهِجاءُ، فكانَ يَتَعرَّضُ للنَّاسِ بلِسانِه فيَهْجوهم، فكانوا يَشْكونَ لأبيه بُرْدٍ، فكانَ يُبْرِحُه ضَرْبًا فما يَزيدُه الضَّرْبُ إلَّا عُتُوًّا واسْتِمرارًا، فلمَّا ضَجِرَ بَشَّارٌ مِن الضَّرْبِ قالَ لأبيه: عنْدَما يَشْكو إليك أحَدٌ مِن النَّاسِ فقلْ له: ألَمْ تَسمَعْ قَوْلَ اللهِ تعالى: لَيْسَ ‌عَلَى ‌الْأَعْمى حَرَجٌ [النور: 61] ، فكُلَّما اشْتَكى إليه أحَدٌ يَقولُ له كما لقَّنَه بَشَّارٌ، فكانَ النَّاسُ يَنْصرِفونَ وهم يقولونَ: فِقْهُ بُرْدٍ أغْيَظُ لنا مِن شِعْرِ بَشَّارٍ.
وقد كانَ بَشَّارٌ مِن أهْلِ بَلاطِ الخَليفةِ المَهْديِّ؛ حيثُ كانَ يَدخُلُ عليه فيُنْشِدُه شِعْرَه، وكانَ المَهْديُّ يُغدِقُ عليه الأمْوالَ والجَوائِزَ، غيْرَ أنَّ بَشَّارًا تَحَوَّلَ إلى شِعْرِ المُجونِ واللَّهْوِ، وكانَ في المَهْديِّ أثَرةٌ مِن دينٍ وغَيْرةٍ، فنَهاه عمَّا هو فيه فلم يَنْتَهِ، فطَرَدَه مِن القَصْرِ وحَبَسَ عنه الأُعْطياتِ.
وبعْدَ ذلك يُصدِرُ المَهْديُّ ديوانَ الزَّنْدقةِ ويَقتُلُ كلَّ مَن تَزَنْدَقَ، ويَفِرُّ بَشَّارٌ إلى البَصْرةِ خَوْفًا على نفْسِه، غيْرَ أنَّه لم يَسْتطِعْ كَبْحَ جِماحِ لِسانِه، فهَجا المَهْديَّ ووَزيرَه، وأنْشَدَ شِعْرًا في رِثاءِ القَتْلى مِن الزَّنادِقةِ الَّذين قَتَلَهم المَهْديُّ، ويَشهَدُ على بَشَّارٍ شُهودٌ أنَّه زِنْديقٌ، فيَأمُرُ المَهْديُّ بقَتْلِه فيُقتَلُ.
وحُكِيَ أنَّ المَهْديَّ لمَّا قَتَلَ بَشَّارًا نَدِمَ على قَتْلِه، وأحَبَّ أن يَجِدَ شيئًا يَتعَلَّقُ به، فبَعَثَ إلى كُتُبِه، فأحْضَرَها وأمَرَ بتَفْتيشِها طَمَعًا في أن يَجِدَ فيها شيئًا ممَّا حَزَبَه عليه، فلم يَجِدْ مِن ذلك شيئًا، ومَرَّ بطومارٍ مَخْتومٍ، فظَنَّ أنَّ فيه شيئًا، فأمَرَ بنَشْرِه، فإذا فيه: "بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، إنِّي أرَدْتُ أن أهْجُوَ آلَ سُلَيْمانَ بنِ عليِّ بنِ عبْدِ اللهِ بنِ العَبَّاسِ، فذَكَرْتُ قَرابتَهم مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وآلِه، فمَنَعَني ذلك مِن هَجْوِهم، ووَهَبْتُ جُرْمَهم للهِ عزَّ وجَلَّ، وقد قلْتُ بيَتْيَنِ لم أذْكُرْ فيهما عِرْضًا ولم أقْدَحْ في دينٍ، وهما:
دينارُ آلِ سُلَيْمانٍ ودِرْهَمُهم
كالبابلِيَّيْنِ شُدَّا بالعَفاريتِ
لا يُوجَدانِ ولا يُرْجى لِقاؤُهما
كما سَمِعْتَ بهاروتٍ وماروتِ [594] ((ديوان بشار)) (ص: 53).
فقالَ: الآنَ واللهِ صَحَّ النَّدَمُ [595] ينظر: ((طبقات الشُّعَراء)) لابن لمعتز (ص: 21)، ((الشِّعْر والشُّعَراء)) لابن قتيبة (2/745). .
ومِن أشْهَرِ أشْعارِه:
جَفا جَفْوةً فازْوَرَّ إذ مَلَّ صاحِبُه
وأزْرى به أن لا يَزالُ يُصاحِبُه
خَليليَّ لا تَسْتَكْثِرا لَوْعةَ الهَوى
ولا لَوْعةَ المَحْزونِ شَطَّتْ حَبائِبُه
شَفى النَّفْسَ ما يَلْقى بعَبْدةَ مُغْرمًا
وما كانَ يَلْقى قَلْبُه وضَرائِبُه
فأقْصِرَ عن داعي الفُؤادِ وإنَّما
يَميلُ به أمْسُ الهَوى ويُطالِبُه
إذا كانَ ذَوَّاقًا أخوك مِن الهَوى
تُوَجِّهُه في كلِّ أوْبٍ رَكائِبُه
فخَلِّ له وَجْهَ الطَّريقِ ولا تكُنْ
مَطيَّةَ رَحَّالٍ كَثيرٍ مَذاهِبُه
أخوك الَّذي إن رِبْتَه قالَ إنَّما
أرَبْتُ وإن عاتَبْتَه لانَ جانِبُه
إذا كنْتَ في كُلِّ الأمورِ مُعاتِبًا
أخًا لك لم تَلْقَ الَّذي لا تُعاتِبُه
فعِشْ واحِدًا أو صِلْ أخاك فإنَّهُ
مُقارِفُ ذَنْبٍ مَرَّةً ومُجانِبُه
إذا أنت لم تَشرَبْ مِرارًا على القَذى
ظَمِئْتَ وأيُّ النَّاسِ تَصْفو مَشارِبُه؟
مِن الحَيِّ قَيْسٍ قَيْسِ عَيْلانَ إنَّها
عُيونُ النَّدى مِنها تُرَوَّى سَحائِبُه
وما زالَ مِنها مُمسِكٌ بمَدينةٍ
يُراقِبُ أو ثَغْرٍ تُخافُ مَرازِبُه
إذا المَلِكُ الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ
مَشَينا إليهِ بالسُّيوفِ نُعاتِبُه
وكنَّا إذا دَبَّ العَدُوُّ لسُخْطِنا
وراقَبَنا في ظاهِرٍ لا نُراقِبُه
غَدَوْنا له جَهْرًا بكلِّ مُثقَّفٍ
وأبيضَ تَسْتَسقي الدِّماءَ مَضارِبُه
كأنَّ مَثارَ النَّقْعِ فوقَ رُؤوسِنا
وأسْيافَنا لَيلٌ تهَاوَتْ كَواكِبُه
وأرْعَنَ يَغْشى الشَّمْسَ لَوْنُ حَديدِهِ
وتَخلِسُ أبْصارَ الكُماةِ كَتائِبُه
تَغَصُّ به الأرْضُ الفَضاءُ إذا غَدا
تُزاحِمُ أرْكانَ الجِبالِ مَناكِبُه
تَرَكْنا به كَلبًا وقَحْطانَ تَبْتَغي
مُجيرًا مِن الهَبْلِ المُطِلِّ مغالِبُه [596] ((ديوان بشار بن برد)) (ص: 43).
ومِن خَبيثِ هِجائِه قَوْلُه:
ولا تَبْخَلا بُخلَ ابنِ قَزعةَ إنَّهُ
مَخافةَ أن يُرْجى نَداه حَزينُ
إذا جِئْتَه للعُرِفْ أغْلَقَ بابَهُ
فلم تَلْقَه إلَّا وأنتَ كَمينُ
فقلْ لأبي يَحْيى متى تَبلُغُ العُلا
وفي كلِّ مَعْروفٍ عليك يَمينُ [597] ((ديوان بشار بن برد)) (ص: 220).

انظر أيضا: