موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ التَّاسِعُ: العِتابُ


عَرَفَ الشِّعْرُ العبَّاسيُّ رِقَّةً في الفِكْرِ وعُذوبةً في المَعاني، اسْتَبْدلوه بجِلْفةِ الطَّبْعِ وقَسْوةِ القَلْبِ، وما ذاك إلَّا لتَرَفِ العَيْشِ ونُعومةِ الحَياةِ؛ لِهذا عَرَفَ شِعْرُهم غَرَضًا جَديدًا يَتَمثَّلُ في عِتابِ الشَّاعِرِ لصَديقِه أو أخيه أو مَحْبوبتِه، حينَ يَجِدُ مِنهم أمْرًا يُنكِرُه، كأنْ يَتَغيَّرَ العَهْدُ بهم، أو يُفسِدَ الوُشاةُ ما بيْنَهم مِن الوُدِّ، وهو لَوْنٌ لم يَعرِفْه الشِّعْرُ العَربيُّ مِن قَديمٍ، إلَّا ما يُشبِهُه مِن اعْتِذارِ النَّابِغةِ الذُّبْيانيِّ للنُّعْمانِ بنِ المُنذِرِ، وبَيْنَهما بَوْنٌ كَبيرٌ وفَرْقٌ شاسِعٌ؛ فالنَّابِغةُ كانَ قد أخْطَأَ في حَقِّ النُّعْماِن -أو بَلَغَ النُّعْمانَ ما يُغضِبُه عليه- فلاذَ النَّابِغةُ بالهَرَبِ، ثُمَّ عادَ يُريدُ أن يَمْحوَ آثارَ ذلك، ويَعْتذِرَ عمَّا بَدَرَ مِنه. أمَّا العِتابُ فإنَّما يكونُ على العَكْسِ حينَ يُبادِرُ الشَّاعِرُ فيَلومُ المُخْطِئَ في حَقِّه، ويُعاتِبُ مَن فَرَّطَ في صَداقتِه.
فيَصدُرُ هذا الشِّعْرُ عن مَوْجِدةٍ وَجَدَها الشَّاعِرُ في نفْسِه تِجاهَ أحَدٍ مِن إخْوانِه أو شَخْصٍ قَريبٍ مِن قَلْبِه، يُحاوِلُ أن يُصلِحَ بعِتابِه ما اضْطَرَبَ مِن الأمورِ، مِن أجْلِ المُحافَظةِ على الوُدِّ واسْتِمرارِ الصُّحْبةِ، ولا يكونُ العِتابُ إلَّا مِن نفْسٍ صادِقةٍ فيها بَقيَّةُ إخْلاصٍ وصِدْقُ مَودَّةٍ، ولِذلك قالَ الشَّاعِرُ:
‌إذا ‌ذَهَبَ ‌العِتابُ ‌فليس ‌وُدٌّ
ويَبْقى الوُدُّ ما بَقيَ العِتابُ [584] ينظر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/163).
ومِن أشْهَرِ ما جاءَ في هذا البابِ قَصيدةُ أبي الطَّيِّبِ المُتَنبِّي الَّتي عاتَبَ فيها سَيْفَ الدَّوْلةِ الحَمْدانيَّ لمَّا قَبِلَ فيه قَوْلَ الوُشاةِ وتَغيَّرَ عليه، فقالَ:
وا حَرَّ قَلْباهُ ‌مِمَّن ‌قَلْبُه ‌شَبِمُ
ومَن بجِسْمي وحالي عنْدَه سَقَمُ
ما لي أُكَتِّمُ حُبًّا قد بَرى جَسَدي
وتَدَّعي حُبَّ سَيْفِ الدَّوْلةِ الأُمَمُ
إن كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لغُرَّتِه
فليت أنَّا بقَدْرِ الحُبِّ نَقْتسِمُ
قد زُرْتُه وسُيوفُ الهِنْدِ مُغْمَدةٌ
وقد نَظَرْتُ إليهِ والسُّيوفُ دَمُ
فكانَ أحْسَنَ خَلْقِ اللهِ كلِّهمِ
وكانَ أحْسَنَ ما في الأحْسَنِ الشِّيَمُ
وفيها:
يا أعْدَلَ النَّاسِ إلَّا في مُعامَلتي
فيك الخِصامُ وأنت الخَصْمُ والحَكَمُ
أُعيذُها نَظَراتٍ مِنك صادِقةً
أن تَحسَبَ الشَّحْمَ فيمَن شَحْمُه وَرَمُ
وما انْتِفاعُ أخي الدُّنيا بناظِرِهِ
إذا اسْتَوتْ عنْدَه الأنْوارُ والظُّلَمُ
أنا الَّذي نَظَرَ الأعْمى إلى أدَبي
وأسْمَعَتْ كَلِماتي مَن بهِ صَمَمُ
أنامُ مِلءَ جُفوني عن شَوارِدِها
ويَسهَرُ الخَلْقُ جَرَّاها ويَخْتَصِمُ
الخَيْلُ واللَّيلُ والبَيْداءُ تَعرِفُني
والحَرْبُ والضَّرْبُ والقِرْطاسُ والقَلَمُ
يا مَن يَعِزُّ علينا أن نُفارِقَهم
وِجْدانُنا كُلَّ شيءٍ بعْدَكم عَدَمُ
ما كانَ أخْلَقَنا مِنكم بتَكْرِمةٍ
لو أنَّ أمْرَكمُ مِن أمْرِنا أَمَمُ
إن كانَ سرَّكمُ ما قالَ حاسِدُنا
فما لجُرْحٍ إذا أرْضاكمُ ألَمُ
وبَيْنَنا لو رَعَيْتُم ذاك مَعْرفةٌ
إنَّ المَعارِفَ في أهْلِ النُّهى ذِمَمُ
كم تَطلُبونَ لنا عَيْبًا فيُعجِزُكم
ويَكرَهُ اللهُ ما تَأتونَ والكَرَمُ [585] ((ديوان المتنبي)) (ص: 331).

انظر أيضا: