موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الخامِسُ: الزُّهْدُ والتَّصوُّفُ


كما انْتَشَرَ المُجونُ والفِسقُ واللَّهْوُ والعَبَثُ في أرْجاءِ دَوْلةِ بَني العبَّاسِ، انَتَشرَ كذلك تيَّارُ الزُّهْدِ والوَرَعِ والتَّقْوى، وفَرَّ كَثيرٌ مِن النَّاسِ بدينِهم مِن فِتَنِ الحَياةِ، ورَكَنوا إلى رُكْنِ اللهِ الرَّكينِ، وجَعَلوا حَياتَهم وَقْفًا على طاعةِ اللهِ ومَرْضاتِه؛ فقدْ كانتِ المَساجِدُ مُكْتظَّةً بالوُعَّاظِ والنُّسَّاكِ وأهْلِ الحَديثِ والفِقْهِ والوَرَعِ، ومِن حَوْلِهم العامَّةُ تُتْلى على مَسامِعِهم آياتُ اللهِ، ويَتَردَّدُ صَدى صَوْتِ الوُعَّاظِ في قُلوبِهم؛ فتَأثَّرَ كَثيرٌ مِن الشُّعَراءِ بالوَعْظِ، وتَرَكوا مَتاعَ الحَياةِ، وزَهِدوا عمَّا عنْدَ النَّاسِ، فجاءَ شِعْرُهم يَشِفُّ عن شُعورِهم ومُعْتقداتِهم ورَغَباتِهم [559] ينظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (3/399). .
ومِثالُ ذلك قَوْلُ مالِكِ بنِ دينارٍ:
أتَيْتُ القُبورَ فنادَيْتُه‍نْ
نَ أين المُعظَّمُ والمُحْتقَرْ
وأين المُدِلُّ بسُلْطانِهِ
وأين المُزكَّى إذا ما افْتَخَرْ
تَفانَوا جَميعًا فما مُخْبِرٌ
وماتوا جَميعًا وماتَ الخَبَرْ
تَروحُ وتَغْدو بَناتُ الثَّرى
فتَمْحو مَحاسِنَ تلك الصُّوَرْ
فيا سائِلي عن أُناسٍ مَضَوا
أمَا لك فيما تَرى مُعْتبَرْ [560] ((عيون الاخبار)) لابن قتيبة (2/326).
وقالَ عبْدُ اللهِ بنُ المُبارَكِ:
رأيْتُ الذُّنوبَ تُميتُ القُلوبَ
ويُتْبِعُها الذُّلَّ إدْمانُها
وتَرْكُ الذُّنوبِ حَياةُ القُلوبِ
وخَيْرٌ لنفْسِك عِصيانُها
وهل بَدَّلَ الدِّينَ إلَّا المُلوكُ
وأحْبارُ سوءٍ ورُهْبانُها
وباعوا النُّفوسَ فلم يَرْبَحوا
ولم تَغْلُ في البَيْعِ أثْمانُها
لقد رَتَعَ القَوْمُ في جيفةٍ
يَبينُ لذي العَقْلِ إنْتانُها [561] ((ديوان الإمام عبدالله بن المبارك)) (ص: 29).
حتَّى إنَّ كَثيرًا مِن الشُّعَراءِ الَّذين شُهِروا بَيْنَ النَّاسِ بالفِسْقِ والمُجونِ رَجَعَوا إلى اللهِ وتابوا، وصارَ شِعْرُهم يَنُمُّ عن تَوْبتِهم وزُهْدِهم، فهذا مُحمَّدُ بنُ حازِمٍ اشْتَهرَ باللَّهْوِ والمُجونِ، فلمَّا بَلَغَ الخَمْسينَ مِن عُمُرِه تابَ وأنابَ إلى اللهِ تعالى، وأنْشَدَ:
‌ومُنْتظِرٌ ‌للمَوْتِ ‌في ‌كلِّ ‌ساعةٍ
يَشيدُ ويَبْني دائِبًا ويُحصِّنُ
له حينَ تَبْلوهُ حَقيقةُ موقِنٍ
وأفْعالُهُ أفْعالُ مَن ليس يوقِنُ
عَيانٌ كإنْكارٍ، وكالجَهْلِ عِلمُهُ
يَشُكُّ به في كلِّ ما يُتَيقَّنُ [562] يُنظر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/158)، ((موارد الظمآن)) لعبد العزيز السلمان (2/435).
وقالَ أيضًا:
اضْرَعْ إلى اللهِ لا تَضْرَعْ إلى النَّاسِ
واقْنَعْ بيَأسٍ فإنَّ العِزَّ في الياسِ
واسْتَغْنِ عن كُلِّ ذي قُرْبى وذي رَحِمٍ
إنَّ الغَنيَّ مَن اسْتَغْنى عن النَّاسِ [563] ينظر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/158).
وهذا أبو نُواسٍ إمامُ الماجِنينَ وصاحِبُ لِواءِ شُعَراءِ الخُمورِ، يُرْوى عنه أنَّه وُجِدَ تحتَ الفِراشِ الَّذي ماتَ عليه رُقْعةٌ فيها:
‌يا ‌ربِّ ‌إن ‌عَظُمَتْ ذُنوبي كَثْرةً
فلقد عَلِمْتُ بأنَّ عَفْوَك أعْظَمُ
إن كانَ لا يَرْجوك إلَّا مُحسِنٌ
فبمَن يَلوذُ ويَسْتَجيرُ المُجرِمُ
أدْعوك ربِّ كما أمَرْتَ تَضرُّعًا
فإذا رَدَدْتَ يَدي فمَن ذا يَرحَمُ
ما لي إليك وَسيلةٌ إلَّا الرَّجا
وجَميلُ عَفْوِك ثُمَّ أنِّي مُسلِمُ [564] ((ديوان أبي نواس)) (587).
على أنَّ ذلك اللَّوْنَ مِن الشِّعْرِ الدِّينيِّ تَحوَّلَ بعْدَ ذلك إلى خُطوةٍ أُخرى، وهي شِعْرُ التَّصوُّفِ، فظَهَرَتْ أشْعارُ الحُبِّ الإلهيِّ، وبَيانِ دَرَجاتِ الصُّوفيَّةِ والمَعْرفةِ القَلْبيَّةِ الَّتي فيها تَنْجلي الحُجُبُ، كما فعَلَتْ رابِعةُ العَدويَّةُ في أشْعارِها، كقَوْلِها:
أحِبُّك حُبَّينِ: حُبَّ الهَوى
وحُبًّا لأنَّك أهْلٌ لِذاكا
فأمَّا الَّذي هو حُبُّ الهَوى
فشُغْلي بذِكْرِك عمَّن سِواكا
وأمَّا الَّذي أنت أهْلٌ لهُ
فكَشْفُك لي الحُجْبَ حتَّى أراكا
فلا الحَمْدُ في ذا ولا ذاك لي
ولكنْ لك الحَمْدُ في ذا وذاكا [565] يُنظر: ((قوت القلوب في معاملة المحبوب ووَصْف طَريق المريد إلى مقام التوحيد)) لأبي طالب المكي (2/ 94).
ومِنه أيضًا قَوْلُ ذي النُّونِ المِصْريِّ [566] وهو أوَّلُ من تكَلَّم عن المعرفةِ الصُّوفيَّةِ مُفَرِّقًا بينها وبين المعرفةِ العِلْميَّةِ والفلسفيَّةِ التي تقومُ على الفِكْرِ والمنطِقِ، على حينِ تقومُ المعرفةُ الصُّوفيَّةُ على القَلبِ والكَشْفِ والمشاهَدةِ، فهي معرفةٌ باطنةٌ تقومُ على الإدراكِ الحَدْسيِّ، ولها أحوالٌ ومقاماتٌ. يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (4/475). مُخاطِبًا رَبَّه:
أموتُ وما ماتَتْ إليك صَبابتي
ولا قُضِيَتْ مِن صِدْقِ حُبِّك أوْطاري
تَحمَّلَ قَلْبي فيك ما لا أبُثُّه
وإن طالَ سُقْمي فيك أو طالَ إضْراري [567] ينظر: ((طبقات الصوفية)) لأبي عبد الرحمن السلمي (ص:31).
ثُمَّ دَخَل الشِّعْرُ الصُّوفيُّ في مَرْحلةٍ جَديدةٍ، لم يُكْتَفَ فيها بادِّعاءِ رُؤْيةِ اللهِ تعالى أو المَعْرفةِ القَلْبيَّةِ أو نَحْوِ ذلك مِن الخُرافاتِ الَّتي تُخالِفُ النَّهْجَ القَويمَ وسُنَّةَ النَّبيِّ الكَريمِ، بلْ وَصَلوا إلى الكُفْرِ واعْتِقادِ الحُلولِ والاتِّحادِ، وهو اعْتِقادُ أنَّ اللهَ تعالى يَحُلُّ في جَسَدِ الإنْسانِ، فيكونُ الإنْسانُ هو الخالِقَ والمَخْلوقَ في آنٍ واحِدٍ، تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كَبيرًا!
وقد اتَّقدَتْ تلك العَقيدةُ في أشْعارِ الحَلَّاجِ وابنِ الفارِضِ وغَيْرِهما.
ومِن ذلك قَوْلُ الحَلَّاجِ:
سُبْحانَ مَن أظْهَرَ ناسوتُهُ
سِرَّ سَنا لاهوتِهِ الثَّاقِبِ
ثُمَّ بَدا لخَلْقِه ظاهِرًا
في صورةِ الآكِلِ والشَّارِبِ
حتَّى لقد عايَنَه خَلْقُهُ
كلَحْظةِ الحاجِبِ بالحاجِبِ [568] ((ديوان الحلاج)) (ص:123).
ويقولُ مُخاطِبًا اللهَ -تعالى اللهُ عن قَوْلِه-:
مُزِجَتْ روحُك في روحي كما
تُمزَجُ الخَمْرةُ بالماءِ الزُّلالِ
فإذا مَسَّك شيءٌ مَسَّني
فإذا أنت أنا في كلِّ حالِ [569] ((ديوان الحلاج)) (ص:152).
وقَوْلُه:
أنا مَن أهْوى ومَن أهْوى أنا
نحن روحانِ حَلَلْنا بَدَنا
فإذا أبْصَرْتَني أبْصَرْتَه
وإذا أبْصَرْتَه أبْصَرْتَنا [570] ((ديوان الحلاج)) (ص: 18).
ولابنِ الفارِضِ قَصيدةٌ تُسمَّى "نَظْمَ السُّلوكِ" تَرْبو على سَبْعِمِئةِ بَيْتٍ، أفْصَحَ فيها ببَيانِ مَذهَبِه في الاتِّحادِ، يقولُ الذَّهَبيُّ في تَرْجمتِه: (فإن لم يكنْ في هذه القَصيدةِ صَريحُ الاتِّحادِ الَّذي لا حيلةَ في وُجودِه، فما في العالَمِ زَنْدقةٌ ولا ضَلالٌ!) [571] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (22/ 368). .

انظر أيضا: