موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّالثُ: الوَصْفُ


أبْدَعَ شُعَراءُ هذا العَصْرِ في الوَصْفِ، وتَفَنَّنوا فيه، فوَصَفوا المَظاهِرَ الطَّبيعيَّةَ مِن جِبالٍ وأنْهارٍ، وأوْديةٍ وسُهولٍ، وزُروعٍ وأشْجارٍ، كما بَرَعوا في وَصْفِ مَظاهِرِ الحَياةِ الحَضاريَّةِ الجَديدةِ، فمِن الأوَّلِ قَوْلُ أبي تَمَّامٍ في وَصْفِ الرَّبيعِ:
رَقَّتْ حَواشي الدَّهْرِ فهْي تَمَرْمَرُ
وغَدا الثَّرى في حَلْيِهِ يَتَكَسَّرُ
نَزَلَتْ مُقدَّمةُ المَصيفِ حَميدةً
ويَدُ الشِّتاءِ جَديدةٌ لا تُكفَرُ
لولا الَّذي غَرَسَ الشِّتاءُ بكَفِّهِ
قاسى المَصيفُ هَشائِمًا لا تُثمِرُ
‌كمْ ليلةٍ آسى البِلادَ بنفْسِهِ
فيها ويَوْمٍ وَبلُهُ مُثْعَنْجِرُ
مَطَرٌ ‌يَذوبُ ‌الصَّحْوُ مِنه وبعْدَهُ
صَحْوٌ يكادُ مِن الغَضارةِ يُمطِرُ
غَيْثانِ فالأنْواءُ غَيْثٌ ظاهِرٌ
لك وَجْهُه والصَّحْوُ غَيْثٌ مُضمَرُ
ونَدًى إذا ادَّهَنَتْ به لِمَمُ الثَّرى
خِلْتَ السَّحابَ أتاه وهو مُعذِّرُ
يا صاحبيَّ تَقَصَّيا نَظَرَيكما
تَرَيا وُجوهَ الأرْضِ كيف تُصوَّرُ
تَرَيا نَهارًا مُشْمِسًا قد شابَهُ
زَهْرُ الرُّبا فكأنَّما هو مُقمِرُ
دُنْيا مَعاشٌ للوَرى حتَّى إذا
جُلِيَ الرَّبيعُ فإنَّما هي مَنظَرُ
أضْحَتْ تَصوغُ بُطونُها لظُهورِها
نَوْرًا تَكادُ له القُلوبُ تُنَوِّرُ
مِن كلِّ زاهِرةٍ تَرَقرَقُ بالنَّدى
فكأنَّها عَيْنٌ عليهِ تَحَدَّرُ
تَبْدو ويَحجُبُها الجَميمُ كأنَّها
عَذْراءُ تَبْدو تارةً وتَخَفَّرُ
حتَّى غَدَتْ وَهَداتُها ونِجادُها
فِئتَينِ في خِلَعِ الرَّبيعِ تَبَختَرُ
مُصْفَرَّةً مُحْمَرَّةً فكأنَّها
عُصَبٌ تَيَمَّنُ في الوَغى وتَمَضَّرُ
مِن فاقِعٍ غَضِّ النَّباتِ كأنَّهُ
دُرٌّ يُشَقَّقُ قبْلُ ثُمَّ يُزَعْفَرُ
أو ساطِعٍ في حُمْرةٍ فكأنَّ ما
يَدْنو إليهِ مِنَ الهَواءِ مُعَصْفَرُ [552] ((ديوان أبي تمام)) (ص: 156).
ومِنه وَصْفُ البُحْتُريِّ للمَدائِنِ في سينيَّتِه المَشْهورةِ بقَوْلِه:
حَضَرَتْ رَحليَ الهُمومُ فوَجَّهْ
تُ إلى أبيَضِ المَدائِنِ عَنْسي
أتَسَلَّى عنِ الحُظوظِ وآسى
لِمَحَلٍّ مِن آلِ ساسانَ دَرْسِ
ذَكَّرَتْنيهمُ الخُطوبُ التَّوالي
ولقد تُذكِرُ الخُطوبُ وتُنسي
وهُمُ خافِضونَ في ظِلِّ عالٍ
مُشرِفٍ يَحسِرُ العُيونَ ويُخْسي
مُغلَقٌ بابُه على جَبَلِ القَبْ
قِ إلى دارتيْ خِلاطَ ومُكْسِ
حِلَلٌ لم تكُنْ كأطْلالِ سُعْدى
في قِفارٍ مِن البَسابِسِ مُلْسِ
ومَساعٍ لولا المُحاباةُ منِّي
لم تُطِقْها مَسعاةُ عَنْسٍ وعَبْسِ
ليس يُدْرى: أصُنْعُ إنْسٍ لجِنٍّ
سَكَنوهُ أمْ صُنعُ جِنٍّ لإنْسِ
غيْرَ أنِّي أراه يَشهَدُ أن لم
يَكُ بانيه في المُلوكِ بنِكْسِ
فكأنِّي أرى المَراتِبَ والقَوْ
مَ إذا ما بَلَغْتُ آخِرَ حِسِّي
وكأنَّ الوُفودَ ضاحينَ حَسْرى
مِن وُقوفٍ خَلْفَ الزِّحامِ وخُنْسِ
وكأنَّ القِيَانَ وَسْطَ المَقاصي
رِ يُرجِّعنَ بَيْنَ حُوٍّ ولُعْسِ
وكأنَّ اللِّقاءَ أوَّلَ مِن أمْ
سِ ووَشْكَ الفِراقِ أوَّلَ أمْسِ
وكأنَّ الَّذي يُريدُ اتِّباعًا
طامِعٌ في لُحوقِهم صُبْحَ خَمْسِ
عُمِّرَتْ للسُّرورِ دَهْرًا فصارَتْ
للتَّعزِّي رِباعُهم والتَّأسِّي
فلها أنْ أُعينَها بدُموعٍ
مُوقَفاتٍ على الصَّبابةِ حُبْسِ
ذاكَ عندي وليستِ الدَّارُ داري
باقْتِرابٍ مِنها ولا الجِنْسُ جِنْسي
غيْرَ نُعْمى لأهْلِها عنْدَ أهلي
غَرَسوا مِنْ زَكائِها خَيْرَ غَرْسِ
أيَّدوا مُلْكَنا وشدُّوا قُواهُ
بكُماةٍ تحتَ السِّنورِ حُمْسِ
وأعانوا على كَتائِبِ أرْيا
طَ بطَعْنٍ على النُّحورِ ودَعْسِ [553] ((ديوان البحتري)) (ص: 1154).
وقد ازْدَهَرَ لَوْنٌ آخَرُ مِن الوَصْفِ على الشُّعَراءِ، وهو وَصْفُ رِحْلاتِ الصَّيْدِ وما فيها؛ فقد شُغِفَ الخُلَفاءُ والوُزَراءُ برِحْلاتِ الصَّيْدِ والطَّرْدِ شَغَفًا شَديدًا، وأنْفَقوا في ذلك كَثيرًا مِن أوْقاتِهم وأمْوالِهم، ومِن أكْثَرِ الخُلَفاءِ شَغَفًا في هذا الأمْرِ الخَليفةُ المُتوَكِّلُ؛ إذ كانَ يولَعُ بالفُهودِ والصَّيْدِ بها كما كانَ يولَعُ بالشِّباكِ وأدَواتِ الصَّيْدِ، وهذه كانت سُنَّةَ الخُلَفاءِ وعادتَهم، ولعلَّ خَليفةً في العَصْرِ لم يَشغَفْ بالصَّيْدِ كما شُغِفَ المُعْتضِدُ؛ فكانَ يَخرُجُ لصَيْدِ الأسودِ، ويقالُ: إنَّه كانَ يَتَقدَّمُ لها وَحْدَه، ويُذكَرُ أنَّه كانَ يُنفِقُ يَوميًّا سِبْعينَ دينارًا لأصْحابِ الصَّيْدِ مِن البازياريِّينَ والفَهَّادينَ والكَلَّابينَ، ووَرِثَ ابنُه المُكْتَفي عنه هذه الهوايةَ، فكانَ يولَعُ بالفُهودِ والعُقْبانِ، والصَّيْدِ بهما، وكانَ المُعْتَزُّ مِثلَهما يَخرُجُ للصَّيْدِ في مَواكِبَ حافِلةٍ، وانْتَشَرَ ذلك بَيْنَ ذَوي الوَجاهةِ انْتِشارًا واسِعًا.
وكانَ الخَليفةُ أو الأميرُ يَصطَحِبُ معَه حاشيتَه وشاعِرَه، فكانَتْ هذه المَواقِفُ تُثيرُ مَلَكةَ الشُّعَراءِ وتُؤجِّجُ شاعِريَّتَهم، فما كانوا يَسْتَطيعونَ أن يَكبَحوا أزِمَّةَ ألْسِنتِهم، فهَدَرَت شَقاشِقُهم بما يُصوِّرُ المَوقِفَ ويَصِفُ الحالَ الَّتي هم فيها، فيَذكُرونَ الرِّحْلةَ وما أصابَهم فيها مِن شِدَّةٍ وعَناءٍ، ويَصِفونَ الطَّائِرَ أو الحَيَوانَ الَّذي يَصيدونَ به، ويَتَفنَّنونَ في وَصْفِ آلاتِ الصَّيْدِ الَّتي معَهم، ولم يَتْركوا ضارِيًا مِن ضَواري الصَّيْدِ إلَّا وَصَفوه، ولا جارِحًا مِن جَوارِحِه إلا نَعَتوه، ثُمَّ تَراهم يَنتَقِلونَ إلى وَصْفِ الحَيَوانِ الَّذي يُريدونَ صَيْدَه، فيَصِفونَ قُوَّتَه وسُرعتَه، ورُبَّما وَصَفوا جَمالَ صورتِه وحُسْنَ قَدِّه إن كانَ غَزالًا أو نَحْوَهما، ممَّا يُستَملَحُ في أشْعارِهم، وهكذا حتَّى كأنَّك أمامَ صورةٍ حيَّةٍ لتلك الرِّحْلةِ المَشُوقةِ.
فمِن ذلك أنَّ عليَّ بنَ الجَهْمِ خَرَجَ معَ طاهِرِ بنِ عبْدِ اللهِ بنِ طاهِرٍ -أميرِ خُراسانَ- إلى الصَّيْدِ، واتَّفَقَ لهما في مَرْجٍ للزَّعْفرانِ كَثيرٌ مِن الطَّيْرِ والوَحْشِ، فاصْطادا مِنهما كَثيرًا بالطُّيورِ المُعَلَّمةِ والكِلابِ، فقالَ ابنُ الجَهْمِ:
وطِئْنا رِياضَ الزَّعْفرانِ وأمْسَكَتْ
علينا البُزاةُ البيضُ حُمْرَ الدَّرارِجِ
ولم تَحْمِها الأدْغالُ منَّا وإنَّما
أبَحْنا حِماها بالكِلابِ النَّوابِجِ
بمُسْتَرْوِحاتٍ سابِحاتٍ بُطونُها
على الأرْضِ أمْثالُ السِّهامِ الزَّوالِجِ
ومُسْتَشْرِفاتٍ بالهَوادي كأنَّها
وما عَقَفَتْ مِنها رُؤوسُ الصَّوالِجِ
ومِن دالِعاتٍ ألْسُنًا فكأنَّها
لِحًى مِن رِجالٍ خاضِعينَ كَواسِجِ
فَلَيْنا بها الغيطانَ فَلْيًا كأنَّها
أنامِلُ إحدى الغانِياتِ الحَوالِجِ
قَرَنَّا بُزاةً بالصُّقورِ وحَوَّمَتْ
شَواهينُنا مِن بعْدِ صَيْدِ الزَّمامجِ [554] البُزاةُ: الصُّقورُ، والدَّرارِجُ: جمعُ دُرَّاجٍ، وهو طيرٌ جميلٌ ملوَّنُ الرِّيشِ، والنَّوابجُ: النَّوابحُ، مُستَروِحات: استروح الشَّيءَ، أي: تشمَّمه، سابِحات: سَريعات، زوالجُ: سريعةٌ. الهوادي: الأعناقُ، عقَفَت: عَطَفت وعوَّجَت، والصَّوالجُ: جمعُ صَولَجانٍ. دالعاتٍ: مُخرِجاتٍ، كواسِج: جمعُ كوسَجٍ، وهو الذي لا شَعرَ له على عارِضَيه. حوالجُ: الحالجةُ: التي تَندِفُ القُطنَ حتى يخرُجَ الحبُّ منه. يُنظر: ((ديوان علي بن الجهم)) (ص: 120).
وقولُ ابنِ المُعتَزِّ في وَصْفِ بازٍ مِن بُزاتِه:
ذو مُقْلةٍ تَهتِكُ أسْتارَ الحُجُبْ
كأنَّها في الرَّأسِ مِسْمارُ ذَهَبْ
يَعْلو الشِّمالَ كالأميرِ المُنْتصِبْ
أمْكَنَه الجودُ فأعْطى ووَهَبْ
ذو مِنسَرٍ مِثلِ السِّنانِ المُخْتَضِبْ
وذَنَبٍ كالذَّيلِ رَيَّانِ القَصَبْ [555] ((ديوان عبد الله بن المعتز)) (ص: 114).

انظر أيضا: