موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الأوَّلُ: المُقدِّمةُ


كانَ الجاهِليُّونَ يَلتزِمونَ في قَصائِدِهم تَقاليدَ وعاداتٍ مَعْهودةً فيما بيْنَهم، فكانوا يَبْدَؤونَ القَصيدةَ بمُقدِّمةٍ ثُمَّ يَخلُصونَ مِنها إلى غَرَضِهم الرَّئيسِ، وكانت هذه المُقدِّمةُ عادةً ما تكونُ طَلَليَّةً أو غَزَليَّةً، يَبْكي فيها الشَّاعِرُ الدِّيارَ ويَذكُرُ أهْلَها الظَّاعِنينَ، ويَصِفُ تَفتُّتَ قَلْبِه لرَحيلِ أحِبَّتِه ويَصِفُ مَحْبوبتَه، ويَذكُرُ صَباباتِ الحُبِّ وعَذاباتِ الهَوى، أو يَذكُرُ الشَّاعِرُ رَحيلَه لمَحْبوبتِه، ويَصِفُ الرِّحْلةَ الطَّويلةَ وما يُلاقيه مِن لَأْواءِ الطَّريقِ ومَشقَّةِ السَّفَرِ، ويَصِفُ النَّاقةَ الَّتي تَحمِلُه، وقد يُشبِّهُها بوَحْشيِّ الحَيَوانِ، وقد يَبدَأُ الشَّاعِرُ قَصيدتَه بمُقدِّمةٍ خَمْريَّةٍ، يَذكُرُ فيها الخَمْرَ وصِفتَها، ويَتَغزَّلُ في الجاريةِ الَّتي تَسقيه الخَمْرَ، ويَصِفُ آنِيةَ الخَمْرِ، وتَأثيرَها في شارِبِها، على نَحْوِ ما صَنَعَ عَمْرُو بنُ كُلْثومٍ في مُقدِّمتِه، ثُمَّ يَنفُذُ إلى مَوْضوعِه الَّذي مِن أجْلِه قيلَتِ القَصيدةُ، فجَرَتْ عادةُ الجاهِليِّينَ على هذا الأمْرِ والْتَزموه في جُلِّ قَصائِدِهم، وقلَّما شَذَّ عنه أحَدُهم.
وفي عَصْرِ صَدْرِ الإسلامِ كانَ القَوْمُ قَريبي عَهْدٍ بالجاهِليَّةِ وبشُعَرائِها، فسارَ كَثيرٌ مِن شُعَراءِ هذا العَصْرِ على هذا النَّهْجِ والْتَزَموه في أشْعارِهم.
وعلى ذاتِ الوَتيرةِ سارَ شُعَراءُ العَصْرِ الأُمَوِيِّ، وهو عَصْرُ تَشدُّدٍ للعَربيَّةِ وعُلومِها، وكانَ العُلَماءُ والشُّعَراءُ والخُلَفاءُ يَبذُلونَ أقْصى جُهْدِهم للحِفاظِ على المَوْروثِ الثَّقافيِّ واللُّغويِّ والدِّينيِّ، وكانوا يُهاجِمونَ أيَّ تيَّارٍ يَدْعو إلى التَّجْديدِ أو الخُروجِ عن المَوْروثِ، فجاءَتْ أشْعارُهم تُحاكي أشْعارَ الجاهِليِّينَ، وساروا على نَهْجِها في الْتِزامِ المُقدِّمةِ الطَّلَليَّةِ الغَزَليَّةِ، ولم يَحيدوا عنها، معَ بُعْدِ العَهْدِ بيْنَهم وبَيْنَ الجاهِليِّينَ، واخْتِلافِ الزَّمانِ والمَكانِ والظُّروفِ المُحيطةِ بهم، فهذا جَريرُ بنُ عَطيَّةَ كانَ كَثيرًا ما يَسْتَهِلُّ قَصائِدَه بمُقدِّماتٍ طَلَليَّةٍ، ويَذكُرُ النَّاقةَ والسَّفَرَ، ويَبْكي الدِّيارَ، ويَصِفُ الأطْلالَ، معَ أنَّه كانَ يَسكُنُ البَصْرةَ الَّتي هي أمْصَرُ أمْصارِ المُسلِمينَ، فلا أطْلالَ فيها، ولا بُكاءَ للرَّبْعِ الدَّارِسِ، ولكنَّه الْتَزَمَ هذه الأشْياءَ حِفاظًا على التَّقاليدِ العَربيَّةِ، وإبْقاءً للتُّراثِ المَوْروثِ عن السَّابِقينَ.
وكأنَّ مَذهَبَ الاسْتِهلالِ والانْتِقالِ كانَ له شيءٌ مِن القَداسةِ، وشيءٌ مِن الحُرْمةِ لا يَجوزُ أن يَتَخطَّاهما شاعِرٌ.
فلمَّا جاءَ العَصْرُ العبَّاسيُّ حَدَثَتْ ثَوْرةٌ شَديدةٌ على المُقدِّمةِ الطَّلَليَّةِ والعاداتِ المَوْروثةِ، فهاجَمَها الشُّعَراءُ، وانْتَقَدوا مَن يَلتَزِمُ بها، فانْقَسَموا فيها إلى فَريقَينِ؛ فَريقٌ دَعا إلى إزالتِها مُطلَقًا والدُّخولِ إلى المَقْصودِ مُباشَرةً دونَ التَّمْهيدِ بشيءٍ مِن تلك المُقدِّماتِ، وفَريقٌ دَعا إلى تَغْييرِها بمُقدِّمةٍ تُناسِبُ العَصْرَ وتُواكِبُ أحْداثَه، وتُسايِرُ النَّهْضةَ الَّتي دَخَلَتْ بِلادَ الإسلامِ.
 ومِن أبْرَزِ الثَّائِرينَ على تلك المُقدِّمةِ أبو نُواسٍ؛ فلقد هاجَمَ تلك المُقدِّمةَ ونَعَتَها بالجُمودِ وبالقِدَمِ، وكانَ دائِمًا ما يَدْعو إلى الاسْتِبْدالِ بِها مُقدِّماتٍ خَمْريَّةً.
ومِن ذلك قَوْلُه:
‌صِفةُ ‌الطُّلولِ بَلاغةُ القِدْمِ
فاجعَلْ صِفاتِك لابْنةِ الكَرْمِ [525] ((ديوان أبي نواس)) (ص: 539).
وقَوْلُه:
‌عاجَ ‌الشَّقيُّ على رَبْعٍ يُسائِلُه
وعُجْتُ أسْألُ عن خَمَّارةِ البَلَدِ‌ [526] ((ديوان أبي نواس)) (181).
وجاءَتْ على هذه الشَّاكِلةِ أبْياتُ أبي حَيَّانَ المُوَسْوِسِ؛ فإنَّه يَدْعو إلى التَّحَلُّلِ مِن بُكاءِ المَنازِلِ الدَّارسةِ ووَصْفِ النُّوقِ وما تَقطَعُ مِن الفَلَواتِ، ودَعا إلى وَصْفِ مَظاهِرِ الحَياةِ الحاضِرةِ، وخاصَّةً مَناظِرَ قَطْرَبُّلَ وكُرومَها وخُمورَها، فيقولُ:
لا تَبْكِ هِنْدًا ولا المَواعيسا
ولا لِرَبْعٍ عَهِدْتَ مَأنوسا
‌وقِفْ ‌بقُطْرُبُّلٍ ونُزْهتِها
واحْبِسْ بها عن مَسيرِك العيسا [527] ينظر: ((طبقات الشُّعَراء)) لابن المعتز (ص: 384).
ونَرى ديكَ الجِنِّ يَسخَرُ مِن أولئك الَّذين يَقِفونَ على الأطْلالِ ويَبْكونَ الدِّيارَ، فيقولُ:
قالوا ‌السَّلامُ ‌عليكِ ‌يا ‌أطْلالُ
قلْتُ السَّلامُ على المُحيلِ مُحالُ
عاجَ الشَّقيُّ مُرادُه دِمَنُ البِلى
ومُرادُ عَيْني قُلَّةٌ وحِجالُ [528] ((ديوان ديك الجن)) (132).
فلقد دَعا هؤلاء الشُّعَراءُ وغيْرُهم إلى تَرْكِ المُقدِّماتِ الطَّلَليَّةِ؛ لأنَّ الأسْبابَ قد انْقَطَعَتْ بيْنَهم وبَيْنَها، وانْعَدمَتْ صِلتُهم بها ومَعْرفتُهم لها، فلقد كانَ بيْنَهم وبَيْنَ القِفارِ والأطْلالِ الدَّوارِسِ مَسيرةُ الأيَّامِ واللَّيالي، فقد كانوا يَعيشونَ في حَواضِرِ المُسلِمينَ ومُدُنِها العامِرةِ المُتَحضِّرةِ؛ ولِذلك اعْتَبَروا أنَّ مِن الكَذِبِ والعَبَثِ أن يَتَظاهَرَ الشَّاعِرُ في فَواتِحِ قَصائِدِه بأنَّه يُشغَلُ بها، ويَسْترجِعُ ذِكْرياتِه فيها.
فأرادوا أن يكونَ شِعْرُهم ناطِقًا بأحْداثِ ومُسْتجدَّاتِ عَصْرِهم؛ لكي يكونَ شِعْرُهم صورةً مُطابِقةً لعَصْرِهم، ومُعبِّرًا أصْدَقَ تَعْبيرٍ عنه، كما كانَ الشِّعْرُ الجاهِليُّ بما يَحْويه مِن مُقدِّماتٍ طَلَليَّةٍ ديوانًا لحَياتِهم، وسِجِلًّا لمَفاخِرِهم، وأصْدَقَ صورةٍ تَشِفُّ عن حالِهم ووَقائِعِ عَصْرِهم، فلِهذا عَمَدَ الشُّعَراءُ العبَّاسيُّونَ إلى الدُّخولِ في غَرَضِهم مُباشَرةً دونَ مُقدِّمةٍ، أو التَّمْهيدِ بمُقدِّمةٍ خَمْريَّةٍ كما كانَ ذلك شائِعًا عند أبي نُواسٍ وغيْرِه [529] ينظر: ((مقدمة القَصيدة العربية في العَصْر العباسي الأول)) لحسين عطوان (ص:99). .

انظر أيضا: