موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: عِنايةُ الخُلَفاءِ والأُمَراءِ بالشِّعْرِ


اعْتَنى الخُلَفاءُ العبَّاسيُّونَ باللُّغةِ وآدابِها، وعلى رأسِها الشِّعْرُ الَّذي هو ديوانُ العَرَبِ وسِجِلُّ أمْجادِهم، فكانَ الخَليفةُ يَحرِصُ على أن يَجلِبَ لأوْلادِه المُؤَدِّبينَ مِن أنْبَلِ العُلَماءِ وأرْفَعِهم قَدْرًا، يُعلِّمُ ابنَه الشِّعْرَ والحِكْمةَ، ووَقائِعَ العَربِ وأيَّامَها، ويُؤهِّلُه لأن يَتَلقَّى مَقاليدَ الحُكْمِ والخِلافةِ.
وقد كانَ الخُلَفاءُ يُغدِقونَ على المُؤدِّبينَ العَطايا الكَثيرةَ، ويُنزِلونَهم مَنزِلةَ الوُزَراءِ، حتَّى كانَ الكِسائيُّ مُؤدِّبُ الهادي وهارونَ الرَّشيدِ ابنَيِ المَهْديِّ، لا يُفارِقُ مَجلِسَ الرَّشيدِ حتَّى بعْدَ أن وَلِيَ الخِلافةَ.
وفوقَ هذا كانَ الخُلَفاءُ يُعْطونَ الشُّعَراءَ بسَخاءٍ، فإذا دَخَلَ عليهم شاعِرٌ يَمدَحُهم أو يُنشِدُهم مِن شِعْرِه أجْزَلوا له العَطاءَ، حتَّى قيلَ: إنَّ مَرْوانَ بنَ أبي حَفْصةَ كَثيرًا ما كانَ يَأخُذُ مِئةَ ألِفِ دينارٍ على شِعْرِه، وقد ماتَ سَلَمٌ الخاسِرُ وتَرَكَ خَمْسينَ ألفَ دينارٍ.
وكَثيرًا ما كانَ الخُلَفاءُ والأُمَراءُ العبَّاسيُّونَ يُسابِقونَ بَيْنَ الشُّعَراءِ الحاضِرينَ، وأيُّهم فاقَ شِعْرُه شِعْرَ أقْرانِه اسْتَحقَّ جائِزتَه.
فكانَ هذا باعِثًا للشُّعَراءِ أن يُنقِّحوا شِعْرَهم ويُجَوِّدوه ويُهَذِّبوه، ليَنالَ رِضا الخُلَفاءِ، فيَسْتَحِقُّوا بذلك العَطاءَ، حتَّى إنَّهم كانوا يَذهَبونَ إلى اللُّغويِّينَ فيُنْشِدونَهم قَصائِدَهم، فإن أجازوها ذَهَبوا بها إلى الأميرِ أو الخَليفةِ يُنْشِدونَه إيَّاها، كما فَعَلَ مَرْوانُ بنُ أبي حَفْصةَ حينَ نَظَمَ قَصيدتَه في مَدْحِ المَهْديِّ، وذَهَبَ بها إلى يونُسَ النَّحْويِّ، فقالَ له: إنَّها خالِيةٌ مِن العُيوبِ، فأنْشَدَها للمَهْديِّ الَّذي طارَ بها فَرَحًا وأمَرَ له بمِئةِ ألْفِ دِرهَمٍ [521] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (3/ 140). .
وقد بَلَغَ مِن عِنايةِ الخُلَفاءِ بالشِّعْرِ أنَّ أبا جَعْفَرٍ المَنْصورَ عَهِدَ إلى مُؤَدِّبِ وَلَدِه المَهْديِّ وهو المُفضَّلُ الضَّبِّيُّ بأن يَخْتارَ له عُيونَ القَصائِدِ العَربيَّةِ ليُحفِّظَها وَلَدَه، فانْتَخبَ له ثَمانينَ قَصيدةً، وهي كِتابُ "المُفَضَّليَّاتِ" المَشْهورُ [522] يُنظر: ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/ 228). .

انظر أيضا: