موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّالثُ: الوَصايا


عَرَفَ العَربيُّ فَنَّ الوَصايا مِن قَديمٍ؛ فقدْ ذَكَرْنا في الأدَبِ الجاهِليِّ شيئًا مِن الوَصايا الجاهِليَّةِ، غيْرَ أنَّها كانت تَعْتمِدُ في الأغْلَبِ على المُشافَهةِ بَدَلًا مِن الكِتابةِ؛ لصُعوبةِ الكِتابةِ حينَئذٍ وعَدَمِ اعْتِمادِهم عليها، إضافةً لطَبيعةِ العَربيِّ المُعْتمِدةِ على الحافِظةِ؛ ولِهذا كانت وَصيَّةُ أُمامةَ بِنْتِ الحارِثِ لابْنتِها -على طولِها- شَفَهيَّةً.
ولمَّا جاءَ الإسلامُ وانْتَشرَتِ الكِتابةُ اعْتَمدَ العَربيُّ في إبْلاغِ وَصيَّتِه على الكِتابةِ، فَرَأيْنا وَصيَّةَ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بمَن يَلي الأمْرَ مِن بعْدِه، ووَصيةَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ لابنِه عبْدِ اللهِ، وكلُّها قد اعْتَمدَتْ على الكِتابةِ.
وفي العَصْرِ الأُمَوِيِّ تَتَطوَّرُ الوَصايا دَرَجةً أبْعَدَ مِن ذلك؛ إذ صارَ الموصي يَخْتارُ ما بَيْنَ الكِتابةِ والمُشافَهةِ لأداءِ وَصيَّتِه، بحَسَبِ ما يَقْتضيه الحالُ، كما أنَّ الموصي لم يَعُدْ يَكْتفي بمُجرَّدِ إبْلاغِ المَعنى المُرادِ، بلْ صارَ يُعْنى بتَنْميقِ الأسلوبِ وانْتِقاءِ الكَلِماتِ ومُراعاةِ المُحسِّناتِ اللفظيةِ والمَعْنويَّةِ.
إلَّا أنَّ المُطَّلِعَ على كُتُبِ الأدَبِ يَجِدُ نُدْرةً في الوَصايا المَكْتوبةِ؛ إذ كانَ الاعْتِمادُ غالِبًا على المُشافَهةِ؛ نَظَرًا لدَوْرِ المُواجَهةِ في التَّأثيرِ والإقْناعِ.
فمِن نَماذِجِ الوَصيَّةِ المَكْتوبةِ وَصيَّةُ عُمَرَ بنِ عبْدِ العَزيزِ رَحِمَه اللهُ إلى مُؤدِّبِ وَلَدِه؛ حيثُ كَتَبَ إليه:
(مِن عبْدِ اللهِ عُمَرَ أميرِ المُؤْمِنينَ إلى سَهْلٍ مَوْلاه:
أمَّا بعْدُ؛ فإنِّي اخْتَرْتُك على عِلمٍ منِّي بك لتَأديبِ وَلَدي، فصَرَفْتُهم إليك عن غيْرِك مِن مَواليَّ وذَوي الخاصَّةِ بي، فخُذْهم بالجَفاءِ فهو أمْعَنُ لإقْدامِهم، وتَرْكِ الصُّحْبةِ؛ فإنَّ عادتَها تُكسِبُ الغَفْلةَ، وقِلَّةِ الضَّحِكِ؛ فإنَّ كَثْرَته تُميتُ القَلْبَ، وليكنْ أوَّلُ ما يَعْتقِدونَ مِن أدَبِك بُغْضَ المَلاهي الَّتي بَدْؤُها مِن الشَّيْطانِ، وعاقِبتُها سَخَطُ الرَّحْمنِ؛ فإنَّه بَلَغَني عن الثِّقاتِ مِن أهْلِ العِلمِ أنَّ حُضورَ المَعازِفِ واسْتِماعَ الأغاني واللَّهَجَ بها يُنبِتُ النِّفاقَ في القَلْبِ كما يُنبِتُ العُشْبَ الماءُ، ولَعَمْري لتَوَقِّي ذلك بتَرْكِ حُضورِ تلك المَواطِنِ أيْسَرُ على ذي الذِّهْنِ مِن الثُّبوتِ على النِّفاقِ في قَلْبِه، وهو حينَ يُفارِقُها لا يَعْتقِدُ ممَّا سَمِعَتْ أذُناه على شيءٍ ممَّا يَنْتفِعُ به، وليَفْتَتِحْ كلُّ غُلامٍ مِنهم بجُزْءٍ مِن القُرآنِ يَتثبَّتُ في قِراءتِه، فإذا فَرَغَ تَناوَلَ قَوْسَه ونَبْلَه، وخَرَجَ إلى الغَرَضِ حافِيًا فرَمى سَبْعةَ أرْشاقٍ، ثُمَّ انْصَرفَ إلى القائِلةِ؛ فإنَّ ابنَ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ عنه كانَ يقولُ: «يا بَنِيَّ قيلوا؛ فإنَّ الشَّياطينَ لا تَقيلُ») [517] ((جمهرة رسائل العرب في عصور العربية)) لأحمد زكي صفوت (2/ 315). .
أمَّا الوَصايا الشَّفَهيَّةُ فكَثيرةٌ؛ مِنها وَصيَّةُ عُتْبةَ بنِ أبي سُفْيانَ لعبْدِ الصَّمَدِ مُؤدِّبِ وَلَدِه: (ليكنْ أوَّلُ ما تَبدَأُ به مِن إصْلاحِك بَنيَّ إصْلاحَك نفْسَك؛ فإنَّ أعْيُنَهم مَعْقودةٌ بعَيْنِك، فالحَسَنُ عنْدَهم ما اسْتَحْسنْتَ، والقَبيحُ عنْدَهم ما اسْتَقْبحْتَ، عَلِّمْهم كِتابَ اللهِ، ولا تُكْرِهْهم عليه فيَمَلُّوه، ولا تَتْرُكْهم مِنه فيَهْجُروه، ثُمَّ رَوِّهم مِن الشِّعْرِ أعَفَّه، ومِن الحَديثِ أشْرَفَه، ولا تُخرِجْهم مِن عِلمٍ إلى غيْرِه حتَّى يُحْكِموه؛ فإنَّ ازْدِحامَ الكَلامِ في السَّمْعِ مَضلَّةٌ للفَهْمِ، وعَلِّمْهم سِيَرَ الحُكَماءِ وأخْلاقَ الأُدَباءِ، وجَنِّبْهم مُحادَثةَ النِّساءِ، وتَهدَّدْهم بي وأدِّبْهم دوني، وكنْ لهم كالطَّبيبِ الَّذي لا يَعجَلُ بالدَّواءِ حتَّى يَعرِفَ الدَّاءَ، ولا تَتَّكلْ على عُذْري؛ فإنِّي قد اتَّكَلْتُ على كِفايتِك، وزِدْ في تَأديبِهم أزِدْك في بِرِّي إن شاءَ اللهُ) [518] ((البَيان والتبيين)) للجاحظ (2/ 48)، ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 182). .
ولمَّا أرادَ الحَجَّاجُ الزَّواجَ مِن هِنْدِ بِنْتِ أسماءَ بنِ خارِجةَ الفَزاريِّ، قالَ لها أسماءُ بنُ خارِجةَ: (يا بُنيَّةُ، إنَّ الأمَّهاتِ يُؤدِّبْنَ البَناتِ، وإنَّ أُمَّكِ هلَكَتْ وأنتِ صَغيرةٌ، فعليكِ بأطْيَبِ الطِّيبِ؛ الماءِ، وأحْسَنِ الحَسَنِ؛ الكُحْلِ، وإيَّاكِ وكَثْرةَ المُعاتَبةِ؛ فإنَّها قَطيعةٌ للوُدِّ، وإيَّاكِ والغَيرةَ؛ فإنَّها مِفتاحُ الطَّلاقِ، وكوني لزَوْجِك أمَةً يكنْ لكِ عبْدًا، واعْلَمي أنِّي القائِلُ لأمِّكِ:
خُذي العَفْوَ منِّي تَسْتَديمي مَودَّتي
ولا تَنْطِقي في سَورتي حينَ أغْضَبُ
ولا تَنْقُريني نَقْرةَ الدَّفِّ مَرَّةً
فإنَّكِ لا تَدْرينَ كيف المُغَيَّبُ
فإنِّي وَجَدْتُ الحُبَّ في الصَّبْرِ والأذى
إذا اجْتَمَعا لم يَلبِثِ الحُبُّ يَذهَبُ [519] ((الأغاني)) لأبي الفرج الأصفهاني (20/ 457)، ((التذكرة الحمدونية)) لبهاء الدين ابن حمدون (3/ 339).

انظر أيضا: