موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: الرَّسائِلُ


تَطوَّرَتِ الفُنونُ النَّثْريَّةُ الَّتي تَعْتمِدُ على الكِتابةِ -كالرَّسائِلِ والوَصايا- كَثيرًا عمَّا كانت عليه في الجاهِليَّةِ وصَدْرِ الإسلامِ، وساعَدَ في ذلك انْتِشارُ الكِتابةِ واهْتِمامُ العَربِ بها، حتَّى بَدَأَ الرُّواةُ والعُلَماءُ في تَدْوينِ الحَديثِ والشِّعْرِ، فكَثُرَ تَمرُّسُ النَّاسِ للكِتابةِ؛ ممَّا أدَّى إلى انْتِشارِ الكِتابةِ الأدَبيَّةِ وارْتِفاعِ شأنِها، حتَّى صارَ الخُلَفاءُ يَخْتارونَ مَن يَكتُبُ لهم رَسائِلَهم السِّياسيَّةَ وغيْرَها.
وقد رأيْنا ما أصابَ الكِتابةَ في أواخِرِ عَصْرِ الرَّاشِدينَ؛ حيثُ نَهَضَتِ الكِتابةُ نَهْضةً كَبيرةً، واعْتَمدَ الكُتَّابُ على الأساليبِ البَلاغيَّةِ والتَّصْويراتِ الخَياليَّةِ، كما ألَّفوا شيئًا مِن المُحسِّناتِ اللَّفْظيَّةِ والمَعْنويَّةِ، وقد أوْرَدْنا رِسالةَ عُثْمانَ إلى عليِّ بنِ أبي طالِبٍ، وفيها تَتَجلَّى أسْمى صُوَرِ البَلاغةِ النَّثْريَّةِ في عَصْرِ صَدْرِ الإسْلامِ.
وقد تَطوَّرَتِ الرَّسائِلُ تَطوُّرًا كَبيرًا في عَصْرِ الأُمَوِيِّينَ، فقدْ كانَ يَتَولَّى كِتابةَ تلك الرَّسائِلِ البُلَغاءُ الفُصَحاءُ مِن الخُلَفاءِ والقادةِ والأُمَراءِ، ورُبَّما اسْتَعانوا بمَن يُجيدُ ذلك ويَمْتَهِنُه، حتَّى صارَتِ الكِتابةُ مِهْنةً لبعضِهم، وإن كانَ المُسْتعمِلُ غايةً في الفَصاحةِ والبَيانِ، كما فَعَلَ عبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الأشْعَثِ حينَ اسْتَعانَ بأيُّوبَ ابنِ القَرِّيَّةِ لكِتابةِ رِسالةٍ إلى الحَجَّاجِ يُقَرِّعُه فيها ويُعَرِّضُ به؛ حيثُ قالَ له: (إنِّي أُريدُ أن أكْتُبَ إلى الحَجَّاجِ كِتابًا مُسَجَّعًا، أُعَرِّفُه فيه سوءَ أفْعالِه، وأُبَصِّرُه قُبْحَ سَريرتِه، فأَمْلِهِ عليَّ)، فأمْلى ابنُ القَرِّيَّةِ عليه فكَتَبَ: (بِسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، مِن عبْدِ الرَّحْمنِ بنِ مُحمَّدٍ، إلى الحَجَّاجِ بنِ يوسُفَ، سَلامٌ على أهْلِ طاعةِ اللهِ، الَّذين يَحكُمونَ بما أنْزَلَ اللهُ، ولا يَسفِكونَ دَمًا حَرامًا، ولا يُعَطِّلونَ لله أحْكامًا، فإنِّي أحْمَدُ الله الَّذي بَعَثَني لمُنازَلتِك، وقَوَّاني على مُحارَبتِك، حينَ تَهَتَّكَتْ سُتورُك، وتَحَيَّرَتْ أمورُك، فأصْبَحْتَ حَيْرانَ تائِهًا، لَهْفانَ لا تَعْرِفُ حَقًّا، ولا تُلائِمُ صِدْقًا، ولا تَرتُقُ فَتْقًا، ولا تَفْتِقُ رَتْقًا، وطالَما تَطاوَلْتَ فيما تَناوَلْتَ، فصِرْتَ في الغَيِّ مُذَبْذَبًا، وعلى الشَّرارةِ مُركَّبًا، فتَدَبَّرْ أمْرَك، وقِسْ شِبْرَك بفِتْرِك، فإنَّك مَرَّاقٌ عَرَّاق، ومعَك عِصابةٌ فُسَّاق، جَعَلوك مِثالَهم، كحَذْوِهم نِعالَهم، فاسْتَعِدَّ للأبْطالِ بالسُّيوفِ والعَوالِ، فستَذوقُ وَبالَ أمْرِك، ويَرجِعُ عليك غَيُّك، والسَّلامُ).
فعَلِمَ الحَجَّاجُ أنَّ ذلك إمْلاءُ ابنُ القَرِّيَّةِ، فرَدَّ عليه: (بِسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، مِن الحَجَّاجِ بنِ يوسُفَ إلى عبْدِ الرَّحْمنِ بنِ الأشْعَثِ، سَلامٌ على أهْلِ التَّورُّعِ لا التَّبدُّعِ، فإنِّي أحْمَدُ اللهَ الَّذي حَيَّرَك بعْدَ البَصيرةِ، فمَرَقْتَ عن الطَّاعةِ، وخَرَجْتَ عن الجَماعةِ، فعَسْكرْتَ في الكُفْرِ، وذَهَلْتَ عن الشُّكْرِ، فلا تَحمَدُ اللهَ في سَرَّاء، ولا تَصبِرُ لأمْرِه في ضَرَّاء، قد أتاني كِتابُك بلَفَظاتِ فاجِرٍ، فاسِقٍ غادِرٍ، وسَيُمَكِّنُ اللهُ مِنه، ويَهتِكُ سُتورَه، أمَّا بعْدُ؛ فهَلُمَّ إلى فِعلٍ وفَعَال، ومُعانَقةِ الأبْطالِ بالبِيضِ والعَوال؛ فإنَّ ذلك أحْرى بك مِن قِيلٍ وقال، والسَّلامُ على مَن اتَّبَعَ الهُدى، وخَشِيَ اللهَ واتَّقى) [509] ((الأخبار الطوال)) لأبي حنيفة الدينوري (ص: 319). .
ومِن عُيونِ ما كَتَبَه مُعاوِيةُ بنُ أبي سُفْيانَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لمَّا عَلِمَ بفُسوقِ ابنِه يَزيدَ وانْهِماكِه في الشَّهَواتِ والمَلذَّاتِ، كَتَبَ إليه:
(مِن مُعاوِيةَ بنِ أبي سُفْيانَ أميرِ المُؤْمِنينَ إلى يَزيدَ بنِ مُعاوِيةَ:
أمَّا بعْدُ: فقدْ أدَّتْ ألْسِنةُ التَّصْريحِ إلى أُذُنِ العِنايةِ بك ما فَجَعَ الأمَلَ فيك، وباعَدَ الرَّجاءَ مِنك؛ إذ مَلأتَ العُيونَ بهجةً، والقُلوبَ هَيْبةً، وتَرامَتْ إليك آمالُ الرَّاغِبينَ، وهِمَمُ المُتَنافِسينَ، وشَحَّتْ بك فِتْيانُ قُرَيشٍ وكُهولُ أهْلِك، فما يَسوغُ لهم ذِكْرُك إلَّا على الجَرَّةِ المُهوِّعةِ، والكَظِّ الجَشْءِ.
اقْتَحَمْتَ البَوائِقَ، وانْقَدْتَ للمَعايِرِ، واعْتَضْتَها مِن سُمُوِّ الفَضْلِ، ورَفيعِ القَدْرِ، فليتك (يَزيدُ) إذ كنْتَ لم تكنْ سُرِرْتَ يافِعًا ناشِئًا، وأُثْكِلْتَ كَهْلًا ضالِعًا، فوا حُزْناه عليك (يَزيدُ)! ويا حَرَّ صَدْرِ المُثكَلِ بك، ما أشْمَتَ فِتيانَ بَني هاشِمٍ، وأذَلَّ فِتيانَ بَني عبْدِ شَمْسٍ عنْدَ تَفاوُضِ المَفاخِرِ ودِراسةِ المَناقِبِ! فمَن لصَلاحِ ما أفْسَدْتَ، ورَتْقِ ما فَتَقْتَ؟ هَيْهاتَ! خَمَشَتِ الدُّرْبةُ وَجْهَ التَّصبُّرِ بك، وأبَتِ الجِنايةُ إلَّا تَحَدُّرًا على الألْسُنِ، وحَلاوةً على المَناطِقِ، ما أرْبَحَ فائِدةً نالوها، وفُرْصةً انْتَهَزوها!
انْتَبِهْ (يَزيدُ) للَّفْظةِ، وشاوِرْ الفِكرةَ، ولا تكُنْ إلى سَمْعِك أسْرَعَ مِن مَعْناها إلى عَقْلِك، واعْلَمْ أنَّ الَّذي وَطَّاك وَسوسةَ الشَّيْطانِ، وزَخْرفةَ السُّلْطانِ، ممَّا حَسُنَ عنْدَك قُبْحُه، واحْلَوْلى عنْدَك مُرُّه- أمْرٌ شَرِكَك فيه السَّوادُ، ونافَسَكه الأعْبُدُ، لا لأَثَرةٍ تَدَّعيها أوْجَبَتْها لك الإمْرةُ، وأضَعْتَ بها مِن قَدْرِك، فأمْكَنْتَ بها مِن نفْسِك، فكأنَّك شانِئُ نفْسِك، فمَن لهذا كلِّه؟!
اعْلَمْ يا يَزيدُ أنَّك طَريدُ المَوْتِ وأسيرُ الحَياةِ، بَلَغَني أنَّك اتَّخَذْتَ المَصانِعَ والمَجالِسَ للمَلاهي والمَزاميرِ، كما قالَ اللهُ تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشُّعَراء: 128، 129] وأجْهَرْتَ الفاحِشةَ حتَّى اتُّخِذَتْ سَريرتُها عنْدَك جَهْرًا.
اعْلَمْ (يا يَزيدُ) أنَّ أوَّلَ ما سَلَبَكه السُّكْرُ مَعْرِفةُ مَواطِنِ الشُّكْرِ للهِ على نِعَمِه المُتَظاهِرةِ، وآلائِه المُتَواتِرةِ، وهي الجَرْحةُ العُظْمى، والفَجْعةُ الكُبْرى؛ تَرْكُ الصَّلواتِ المَفْروضاتِ في أوْقاتِها، وهو مِن أعْظَمِ ما يَحدُثُ مِن آفاتِها، ثُمَّ اسْتِحْسانُ العُيوبِ، ورُكوبُ الذُّنوبِ، وإظْهارُ العَوْرةِ، وإباحةُ السِّرِّ، فلا تَأمَنْ نفْسَك على سِرِّك، ولا تَعقِدْ على فِعلِك، فما خَيْرٌ لَذَّةٌ تُعقِبُ النَّدَمَ، وتُعفِّي الكَرَمَ.
وقدْ تَوقَّفَ أميرُ المُؤْمِنينَ بَيْنَ شَطْرَينِ مِن أمْرِك؛ لِما يَتَوقَّعُه مِن غَلَبةِ الآفةِ، واسْتِهلاكِ الشَّهْوةِ، فكنِ الحاكِمَ على نفْسِك، واجْعَلِ المَحْكومَ عليه ذِهْنَك، تَرْشُدْ إن شاءَ اللهُ تعالى.
ولْيَبلُغْ أميرَ المُؤْمِنينَ ما يَرُدُّ شارِدًا مِن نَوْمِه، فقدْ أصْبَحَ نُصْبَ الاعْتِزالِ مِن كلِّ مُؤانِسٍ، ودَريئةَ الألْسُنِ الشَّامِتةِ، وَفَّقَك اللهُ، فأحْسِنْ) [510] ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (6/ 373)، ((جمهرة رسائل العرب في عصور العربية)) لأحمد زكي صفوت (2/ 66). .
ومِن الأمْثِلةِ على هذه الرَّسائِلِ رِسالةُ الحَجَّاجِ بنِ يوسُفَ الثَّقَفيِّ إلى قَطَريِّ بنِ الفُجاءةِ: (سَلامٌ عليك، أمَّا بعْدُ فإنَّك مَرَقْتَ مِن الدِّينِ مُروقَ السَّهْمِ مِن الرَّميَّةِ، وقد عَلِمْتَ حيثُ تَجَرْثَمْتَ، ذاك أنَّك عاصٍ للهِ ولوُلاةِ أمْرِه، غيْرَ أنَّك أعْرابيٌّ جِلْفٌ أمِّيٌّ، تَسْتَطْعِمُ الكِسْرةَ وتَسْتَشْفي بالتَّمْرةِ، والأمورُ عليك حَسْرةٌ، خَرَجْتَ لتَنالَ شُبْعةً فلَحِقَ بك طَغامٌ صَلُوا بمِثْلِ ما صَلِيتَ به مِن العَيْشِ، فهُمْ يَهزُّونَ الرِّماحَ، ويَسْتَنشِئونَ الرِّياحَ، على خَوْفٍ وجَهْدٍ مِن أمورِهم، وما أصْبَحوا يَنْتظِرونَ أعْظَمَ ممَّا جَهِلوا مَعْرفتَه، ثُمَّ أهْلَكَهم اللهُ بنَزْحتَينِ. والسَّلامُ).
فأجابَه قَطَريٌّ:
(مِن قَطَريِّ بنِ الفُجاءةِ إلى الحَجَّاجِ بنِ يوسُفَ، سَلامٌ على الهُداةِ مِن الوُلاةِ، الَّذين يَرْعونَ حَريمَ اللهِ ويَرْهَبونَ نِقَمَه، فالحَمْدُ للهِ على ما أظْهَرَ مِن دينِه، وأظْلَعَ به أهْلَ السِّفالِ، وهَدى به مِن الضَّلالِ، ونَصَرَ به عنْدَ اسْتِخفافِك بحَقِّه، كتَبْتَ إليَّ تَذكُرُ أنِّي أعْرابيٌّ جِلْفٌ أُمِّيٌّ، أسْتَطْعِمُ الكَسْرةَ وأسْتَشْفي بالتَّمْرةِ، ولَعَمْري يا بنَ أمِّ الحَجَّاجِ إنَّك لمُتيَّهٌ في جِبلَّتِك، مُطْلَخِمٌّ في طَريقتِك، واهٍ في وَثيقتِك، لا تَعرِفُ اللهَ ولا تَجزَعُ مِن خَطيئتِك، يَئِسْتَ واسْتَيأسْتَ مِن ربِّك، فالشَّيْطانُ قَرينُك، لا تُجاذِبُه وَثاقَك، ولا تُنازِعُه خِناقَك، فالحَمْدُ للهِ الَّذي لو شاءَ أبْرَزَ لي صَفْحتَك، وأوْضَحَ لي صَلْعتَك، فوَالَّذي نفْسُ قَطَريٍّ بيَدِه لَعَرَفْتَ أنَّ مُقارَعةَ الأبْطالِ ليس كتَصْديرِ المَقالِ، معَ أنِّي أرْجو أن يَدحَضَ اللهُ حُجَّتَك، وأن يَمْنحَني مُهْجتَك) [511] ((البَيان والتبيين)) للجاحظ (2/212)، ((جمهرة رسائل العرب في عصور العربية)) (2/ 158). .
وفي أواخِرِ عَصْرِ بَني أُمَيَّةَ تَأرِزُ الكِتابةُ إلى عبْدِ الحَميدِ بنِ يَحْيى الكاتِبِ، خادِمِ آخِرِ خُلَفاءِ بَني أُمَيَّةَ مَرْوانَ بنِ مُحمَّدٍ، وهو أوَّلُ مَن أطالَ الرَّسائِلَ، وتُضرَبُ ببَلاغتِه الأمْثالُ، فيُقالُ: أبْلَغُ مِن عبْدِ الحَميدِ، وقيلَ: افْتُتِحَتِ الكِتابةُ بعبْدِ الحَميدِ، وخُتِمَتْ بابنِ العَميدِ [512] ينظر: ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (3/228). .
قالَ ابنُ النَّديمِ: (عنه أخَذَ المُترسِّلونَ، ولطَريقتِه لَزِموا، وهو الَّذي سَهَّلَ سَبيلَ البَلاغةِ في التَّرسُّلِ) [513] ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 149). .
ومِن رَسائِلِه: رِسالتُه إلى الكُتَّابِ يُوصيهم فيها، قالَ:
(أمَّا بَعْدُ، ‌حَفِظَكم ‌اللهُ ‌يا ‌أهْلَ ‌صِناعةِ الكِتابةِ، وحاطَكم ووفَّقَكم وأرْشَدَكم، فإنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ جَعَلَ النَّاسَ بعْدَ الأنْبياءِ والمُرْسَلينَ، صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم أجْمعينَ، ومِن بعْدِ المُلوكِ المُكرَّمينَ- أصْنافًا، وإن كانوا في الحَقيقةِ سواءً، وصَرَفَهم في صُنوفِ الصِّناعاتِ وضُروبِ المُحاوَلاتِ، إلى أسْبابِ مَعايِشِهم، وأبْوابِ أرْزاقِهم، فجَعَلَكم مَعشَرَ الكُتَّابِ في أشْرَفِ الجِهاتِ، أهْلَ الأدَبِ والمُروءةِ والعِلمِ والرِّوايةِ، بكم تَنْتظِمُ للخِلافةِ مَحاسِنُها، وتَسْتقيمُ أمورُها، وبنَصائِحِكم يُصلِحُ اللهُ للخَلقِ سُلطانَهم وتَعمُرُ بِلادُهم، لا يَسْتَغْني المَلِكُ عنكم، ولا يُوجَدُ كافٍ إلَّا مِنكم، فمَوقِعُكم مِن المُلوكِ مَوقِعُ أسْماعِهم الَّتي بها يَسْمَعون، وأبْصارِهم الَّتي بها يُبْصِرون، وألْسِنتِهم الَّتي بها يَنطِقون، وأيْديهم الَّتي بها يَبْطِشون؛ فأمْتَعَكم اللهُ بما خَصَّكم مِن فَضْلِ صِناعتِكم، ولا نَزَعَ عنكم ما أضْفاه مِن النِّعْمةِ عليكم.
وليس أحَدٌ مِن أهْلِ الصِّناعاتِ كُلِّها أحْوَجَ إلى اجْتِماعِ خِلالِ الخَيْرِ المَحْمودةِ، وخِصالِ الفَضْلِ المَذْكورةِ المَعْدودةِ مِنكم أيُّها الكُتَّابُ، إذا كنْتُم على ما يَأتي في هذا الكِتابِ مِن صِفتِكم، فإنَّ الكاتِبَ يَحْتاجُ مِن نفْسِه، ويَحْتاجُ مِنه صاحِبُه الَّذي يَثِقُ به في مُهمَّاتِ أمورِه أن يكونَ حَليمًا في مَوضِعِ الحِلمِ، فَهيمًا في مَوضِعِ الحُكْمِ، مِقْدامًا في مَوضِعِ الإقْدامِ، مِحْجامًا في مَوضِعِ الإحْجامِ، مُؤثِرًا للعَفافِ والعَدْلِ والإنْصافِ، كَتومًا للأسْرارِ، وَفيًّا عنْدَ الشَّدائِدِ، عالِمًا بما يأتي مِن النَّوازِلِ، يَضَعُ الأمورَ مَواضِعَها، والطَّوارِقَ أماكِنَها، قد نَظَرَ في كلِّ فَنٍّ مِن فُنونِ العِلمِ فأحْكَمَه، فإن لم يُحْكِمْه أخَذَ مِنه بمِقدارِ ما يُكْتَفى به، يَعرِفُ بغَريزةِ عَقْلِه وحُسْنِ أدَبِه وفَضْلِ تَجْرِبتِه ما يَرِدُ عليه قبْلَ وُرودِه، وعاقِبةَ ما يَصدُرُ عنه قبْلَ صُدورِه، فيُعِدُّ لكلِّ أمْرٍ عُدَّتَه وعَتادَه، ويُهيِّئُ لكلِّ وَجْهٍ هَيئتَه وعادتَه.
فتَنافَسوا يا مَعشَرَ الكُتَّابِ في صُنوفِ الآدابِ، وتَفقَّهوا في الدِّينِ، وابْدَؤوا بعِلمِ كِتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ والفَرائِضِ، ثُمَّ العَربيَّةِ؛ فإنَّها ثِقافُ ألْسِنتِكم، ثُمَّ أجيدوا الخَطَّ؛ فإنَّه حِليةُ كُتُبِكم، وارْوُوا الأشْعارَ، واعْرِفوا غَريبَها ومَعانيَها، وأيَّامَ العَربِ والعَجَمِ، وأحاديثَها وسِيَرَها؛ فإنَّ ذلك مُعينٌ لكم على ما تَسْمو إليه هِمَمُكم، ولا تُضيِّعوا النَّظَرَ في الحِسابِ؛ فإنَّه قِوامُ كُتَّابِ الخَراجِ، وارْغَبوا بأنْفُسِكم عنِ المَطامِعِ سَنيِّها ودَنيِّها، وسَفاسِفِ الأمورِ ومَحاقِرِها؛ فإنَّها مُذِلَّةٌ للرِّقابِ، مُفْسِدةٌ للكُتَّابِ، ونَزِّهوا صِناعتَكم عن الدَّناءاتِ، وارْبَؤوا بأنْفُسِكم عن السِّعايةِ والنَّميمةِ، وما فيه أهْلُ الجَهالاتِ، وإيَّاكم والكِبْرَ والصَّلَفَ والعَظَمةَ، فإنَّها عَداوةٌ مُجْتلَبةٌ مِن غيْرِ إحْنةٍ، وتَحابُّوا في اللهِ عزَّ وجَلَّ في صِناعتِكم، وتَواصَوا عليها بالَّذي هو ألْيَقُ بأهْلِ الفَضْلِ والعَدْلِ والنُّبْلِ مِن سَلَفِكم.
وإن نَبا الزَّمانُ برَجُلٍ مِنكم فاعْطِفوا عليه وواسُوه، حتَّى يَرجِعَ إليه حالُه، ويَثوبَ إليه أمْرُه، وإن أقْعَدَ أحَدَكم الكِبَرُ عن مَكسَبِه ولِقاءِ إخْوانِه، فزوروه وعَظِّموه، وشاوِروه واسْتَظْهِروا بفَضْلِ تَجْرِبتِه، وقِدَمِ مَعْرفتِه، وليكنِ الرَّجُلُ مِنكم على مَن اصْطَنَعَه واسْتَظْهَرَ به ليَوْمِ حاجتِه إليه- أحْفَظَ مِنه على وَلَدِه وأخيه، فإن عَرَضَتْ في الشُّغْلِ مَحمَدةٌ، فلا يُضيفُها إلَّا إلى صاحِبِه، وإن عَرَضَتْ مَذمَّةٌ فلْيَحْمِلْها هو مِن دونِه، ولْيَحذَرْ السَّقْطةَ والزَّلَّةَ، والمَلَلَ عند تَغيُّرِ الحالِ؛ فإنَّ العَيْبَ إليكم مَعشَرَ الكُتَّابِ أسْرَعُ مِنه إلى الفِراءِ، وهو لكم أفْسَدُ مِنه لها.
فقدْ عَلِمْتُم أنَّ الرَّجُلَ مِنكم إذا صَحِبَه الرَّجُلُ يَبذُلُ له مِن نفْسِه ما يَجِبُ له عليه مِن حَقِّه، فواجِبٌ عليه أن يَعْتقِدَ له مِن وَفائِه وشُكْرِه، واحْتِمالِه وصَبْرِه، ونَصيحتِه وكِتْمانِ سِرِّه وتَدْبيرِ أمْرِه- ما هو جَزاءٌ لحَقِّه، ويُصدِّقُ ذلك بفِعالِه عنْدَ الحاجةِ إليه، والاضْطِرارِ إلى ما لديه.
فاسْتَشْعِروا ذلكم -وفَّقَكم اللهُ- مِن أنْفُسِكم في حالةِ الرَّخاءِ والشِّدَّةِ، والحِرمانِ والمُواساةِ والإحْسانِ، والسَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، فنِعْمَتِ الشِّيمةُ هذه لمَن وُسِمَ بها مِن أهْلِ هذه الصِّناعةِ الشَّريفةِ، فإذا وَلِيَ الرَّجُلُ مِنكم أو صُيِّرَ إليه مِن أمْرِ خَلْقِ اللهِ وعيالِه أمْرٌ، فلْيُراقِبِ اللهَ عزَّ وجَلَّ، ولْيُؤثِرْ طاعتَه، ولْيكُنْ على الضَّعيفِ رَفيقًا، وللمَظْلومِ مُنْصِفًا؛ فإنَّ الخَلْقَ عِيالُ اللهِ، وأحَبُّهم إليه أرْفَقُهم بعِيالِه، ثُمَّ لِيكنْ بالعَدْلِ حاكِمًا، وللأشْرافِ مُكرِمًا، وللفَيءِ مُوفِّرًا، وللبِلادِ عامِرًا، وللرَّعيةِ مُتألِّفًا، وعن إيذائِهم مُتخلِّفًا، ولْيكنْ في مَجلِسِه مُتواضِعًا حَليمًا، وفي سِجلَّاتِ خَراجِه واسْتِقْضاءِ حُقوقِه رَفيقًا، وإذا صَحِبَ أحَدُكم رَجُلًا فلْيَخْتبِرْ خَلائِقَه، فإذا عَرَفَ حَسَنَها وقَبيحَها، أعانَه على ما يُوافِقُه مِن الحَسَنِ، واحْتالَ لصَرْفِه عمَّا يَهْواه مِن القَبيحِ بألْطَفِ حيلةٍ وأجْمَلِ وَسيلةٍ، وقد عَلِمْتُم أنَّ سائِسَ البَهيمةِ إذا كانَ بَصيرًا بسِياستِها، الْتَمَسَ مَعْرفةَ أخْلاقِها، فإن كانت رَموحًا لم يَهِجْها إذا رَكِبَها، وإن كانت شَبوبًا اتَّقاها مِن قِبَلِ يَدَيها، وإن خافَ مِنها شُرودًا تَوقَّاها مِن ناحِيةِ رَأسِها، وإن كانت حَرونًا قَمَعَ برِفْقٍ هَواها في طَريقِها، فإن اسْتَمرَّت عَطَفَها يَسيرًا، فيَسْلَسُ له قِيادُها، وفي هذا الوَصْفِ مِن السِّياسةِ دَلائِلُ لمَن ساسَ النَّاسَ وعامَلَهم، وجَرَّبَهم وداخَلَهم...) [514] ((جمهرة رسائل العرب)) لأحمد زكي صفوت (2/455). .
وحينَ انْهَزَمَ مَرْوانُ بنُ مُحمَّدٍ على يَدِ العَبَّاسيِّينَ أرْسَلَ عبْدُ الحَميدِ رِسالةً إلى أهْلِه، وفيها: (أمَّا بعْدُ؛ فإنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ الدُّنيا مَحْفوفةً بالكُرْهِ والسُّرورِ، فمَن ساعَدَه الحَظُّ فيها سَكَنَ إليها، ومَن عَضَّتْه بنابِها ذَمَّها ساخِطًا عليها، وشَكاها مُسْتزيدًا لها، وقد كانت أذاقَتْنا مِن حَلاوتِها، وأرْضَعَتْنا مِن دَرِّها أفاويقَ اسْتَحْلَيْناها، ثُمَّ جَمَحَتْ بنا نافِرةً، ورَمَحَتْنا مُولِّيةً، فمَلُحَ عَذْبُها، وأمَرَّ حُلْوُها، وخَشُنَ ليِّنُها، فأبْعَدَتْنا عن الأوْطانِ، وفَرَّقَتْنا عن الإخْوانِ، فالدَّارُ نازِحةٌ، والطَّيْرُ بارِحةٌ، وقد كَتبْتُ والأيَّامُ تَزيدُنا مِنكم بُعْدًا وإليكم وَجْدًا، فإن تَتِمَّ البَليَّةُ إلى أقْصى مُدَّتِها يكنْ آخِرَ العَهْدِ بكم وبنا، وإن يَلْحَقْنا ظُفْرُ جارِحٍ مِن أظْفارِ مَن يَليكم نَرجِعْ إليكم بذُلِّ الإسارِ، والذُّلُّ شَرُّ جارٍ، نَسألُ اللهَ الَّذي يُعِزُّ مَن يَشاءُ ويُذِلُّ مَن يَشاءُ، أن يَهَبَ لنا ولكم أُلْفةً جامِعةً في دارٍ آمِنةٍ، تَجمَعُ سَلامةَ الأبْدانِ والأدْيانِ، فإنَّه رَبُّ العالَمينَ وأرْحَمُ الرَّاحمينَ) [515] ((جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب)) للهاشمي (1/ 139)، ((جمهرة رسائل العرب في عصور العربية)) لأحمد زكي صفوت (2/ 486). ، ولم يَزَلْ معَ مَرْوانَ بنِ مُحمَّدٍ رافِضًا الجُنوحَ إلى العَبَّاسيِّينَ حتَّى قُتِلَ معَه في بوصيرَ بمِصْرَ سَنَةَ 132ه.
وأهَمُّ خَصائِصِ كِتابتِه:
تَميَّزَتْ كِتابةُ عبْدِ الحَميدِ بنِ يَحْيى بعِدَّةِ خَصائِصَ؛ مِنها:
1- اتِّسامُ الرَّسائِلِ بالأسلوبِ الأدَبيِّ الأنيقِ.
2- بَراعتُه في صِياغةِ الجُمَلِ، والقُدْرةُ على اخْتِيارِ الكَلِماتِ الموحِيةِ.
3- تَقْسيمُ الجُمَلِ تَقْسيمًا مُتَساوِيًا طولًا وقِصَرًا.
4- اهْتَمَّ بالخَيالِ والتَّصْويرِ البَيانيِّ.
5- اهْتَمَّ بالمُحسِّناتِ اللَّفْظيَّةِ مِن الجِناسِ والسَّجْعِ ونَحْوِها، فجاءَتْ في مَوضِعِها مُؤدِّيةً غَرَضًا شَريفًا في مَحَلِّها، مِن غيْرِ أن يكونَ ذلك على حِسابِ المَعنى.
6- اهْتَمَّ بالمُحسِّناتِ المَعْنويَّةِ الَّتي تَعمَلُ على تَوْكيدِ الكَلامِ، فأكْثَرَ مِن التَّرادُفِ والتَّكْرارِ والتَّفْصيلِ بعْدَ الإجْمالِ، كما اهْتَمَّ بالتَّضادِّ والطِّباقِ والمُقابَلةِ ونَحْوِ ذلك.
7- غايَرَ في صيغةِ التَّحْميدِ في مُسْتهَلِّ رِسالتِه لتَتَوافَقَ معَ مَوْضوعِ الرِّسالةِ.
8- حَرَصَ على التَّنْويعِ في الخاتِمةِ بما يَتَوافَقُ معَ المَوْضوعِ أيضًا.
9- جَمَعَ بَيْنَ البَسْملةِ والحَمْدِ في الرِّسالةِ فاصِلًا بيْنَهما ب "أمَّا بعْدُ" [516] ينظر: ((الأدب الأموي تاريخه وقضاياه)) لزكريا النوتي (ص: 157). .

انظر أيضا: