موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّامِنُ: النَّقائِضُ


تَطوَّرَ أمْرُ الهِجاءِ بيْنَ الشُّعَراءِ في العَصْرِ الأُمَوِيِّ، وساعَدَه على ذلك ما كان بيْنَ القَبائِلِ مِن خِلافاتٍ وتَناحُرٍ، فَضْلًا عمَّا نَتَجَ جَرَّاءَ اخْتِلافِ الأحْزابِ وتَأييدِ كلِّ قَبيلةٍ لحِزْبٍ مُعيَّنٍ.
وكانَ مِن نَتيجةِ هذا التَّطوُّرِ أن ظَهَرَ نَوْعٌ جَديدٌ مِن الهِجاءِ يَتَمثَّلُ في فَنِّ النَّقائِضِ، والمُرادُ بذلك أن يَأتيَ شاعِرٌ بقَصيدةٍ يَفْخَرُ فيها بقَوْمِه، ويَهْجو قَبيلةً أخرى، يُعدِّدُ فيها مَثالِبَها، ويَسخَرُ مِن أهْلِها، ويَسْتنهِضُ همَّةَ شُعَرائِها للرَّدِّ عنه، فيَنْبَريَ شاعِرُ تلك القَبيلةِ المَهْجوَّةِ للرَّدِّ على تلك القَصيدةِ، شَريطةَ أن تكونَ القَصيدةُ على نَفْسِ وَزْنِ القصيدةِ الأُولى وقافِيتِها ورَوِيِّها ومَوْضوعِها، وسُمِّيَتِ القَصيدةُ الأخرى بالنَّقيضةِ؛ لأنَّها تَنقُضُ القَصيدةَ الأُولى وتَهدِمُها.
فالنَّقائِضُ في اللُّغةِ جَمْعُ نَقيضةٍ، هي مَأخوذةٌ مِن نَقَضَ البِناءَ: إذا هَدَمَه، والحَبْلَ: إذا حَلَّه، والنَّقيضةُ في الشِّعْرِ أن يَنقُضَ الشَّاعِرُ الآخَرُ ما قالَه الأوَّلُ. وتُسمَّى القَصيدةُ الأُولى نَقيضةً؛ بمَعنى مَنْقوضةٍ، والثَّانيةُ نَقيضةً بمَعنى ناقِضةٍ. ويُشتَرَطُ في النَّقائِضِ: وَحْدةُ المَوْضوعِ، ووَحْدةُ البَحْرِ، ووَحْدةُ الرَّوِيِّ، ووَحْدةُ حَرَكةِ الرَّوِيِّ.
ولم تكنِ النَّقائِضُ مُجرَّدَ أُسلوبٍ جَديدٍ في الهِجاءِ بقَدْرِ ما كانَت وَسيلةً للمَرَحِ والتَّرْفيهِ مِن ناحِيةٍ، ومِن ناحِيةٍ أخرى مِقْياسًا لشاعِريَّةِ الشُّعَراءِ ونُبوغِهم، ومِعْيارًا لفُحولةِ الواحِدِ مِنهم وبَيانِ أيُّهم أشْعَرُ مِن الآخَرِ.
وقد تَدخَّلَتْ في صُنْعِ النَّقائِضِ بجانِبِ هذه العَوامِلِ الاجْتِماعيَّةِ عَوامِلُ عَقْليَّةٌ مَردُّها إلى نُمُوِّ العَقْلِ العَربيِّ ومِرانِه الواسِعِ على الحِوارِ والجَدَلِ والمُناظَرةِ في النِّحَلِ السِّياسيَّةِ والعَقَديَّةِ، وفي الفِقْهِ وشُؤونِ التَّشْريعِ. وعلى ضَوءٍ مِن ذلك كلِّه أخَذَ شُعَراءُ النَّقائِضِ يَتَناظَرونَ في حَقائِقِ القَبائِلِ ومَفاخِرِها ومَثالِبِها، وكُلٌّ مِنهم يَدرُسُ مَوْضوعَه دِراسةً دَقيقةً، ويَبحَثُ في أدِلَّتِه ليُوثِّقَها، وفي أدِلَّةِ خَصْمِه ليَنقُضَها دَليلًا دَليلًا، وكأنَّنا أصْبَحْنا بإزاءِ مُناظَراتٍ شِعْريَّةٍ، وهي مُناظَراتٌ كانت تَتَّخِذُ سوقَ المِربَدِ مَسْرحًا لها، فالشُّعَراءُ يَذهَبونَ هناك، ويَذهَبُ إليهم النَّاسُ ويَتَحلَّقونَ مِن حَوْلِهم؛ لِيَرَوا مَن تكونُ له الغَلَبةُ على زَميلِه أو زُملائِه.
وقد تَناطَحَ في هذا المَيْدانِ جَريرٌ والفَرَزْدَقُ، واسْتَمرَّا في هِجاءِ أحَدِهما الآخَرَ طيلةَ خَمْسةٍ وأرْبَعينَ عامًا، اقْتَحَمَ بيْنَهما عِدَّةُ شُعَراءَ لنُصْرةِ أحَدِهما على الآخَرِ، غيْرَ أنَّهم أُسْقِطَ في أيْديهم وآبوا بالخِزْيِ والعارِ مِن إفْحامِ أحَدِ الشَّاعِرَينِ، كالرَّاعي النُّمَيْريِّ الَّذي تَدخَّلَ لنُصْرةِ الفَرَزْدَقِ، وأنْشَدَ [458] ((ديوان الراعي النميري)) (ص: 139). :
يا صاحِبَيَّ دَنا الرَّواحُ فسِيرا
غَلَبَ الفَرَزْدَقُ في الهِجاءِ جَريرا
فأعَدَّ جَريرٌ قَصيدتَه في هِجاءِ الرَّاعي، ودَعا بطِيبٍ فتَطيَّبَ وادَّهَنَ، ثُمَّ أمَرَ بحِصانِه فأُسرِجَ، ثُمَّ قَصَدَ مَجلِسَ الفَرَزْدَقِ والرَّاعي النُّمَيْريِّ في سوقِ المِربَدِ، فأنْشَدَ قَصيدتَه الَّتي فيها:
فغُضَّ الطَّرْفَ إنَّك مِن نُمَيْرٍ
فلا كَعْبًا بَلَغْتَ ولا كِلابا
فانْصَرفَ الرَّاعي مِن المَجلِسِ وهو يُردِّدُ: فَضَحَنا واللهِ جَريرٌ.
وهكذا أسْقَطَ جَريرٌ كُلَّ مَن دَخَلَ في تلك الحَلْبةِ لمُساعَدةِ الفَرَزْدَقِ، فقيلَ: أسْقَطَ جَريرٌ ثَلاثةً وأرْبَعينَ شاعِرًا، وقيلَ: نَيِّفًا وثَمانينَ، لم يَثبُتْ غيْرُ الفَرَزْدَقِ [459] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (2/ 241). .
ومِن أشْهَرِ تلك النَّقائِضِ ما ذُكِرَ أنَّ رَجُلًا مِن بَني دارِمٍ أرْسَلَ إلى الأَخْطَلِ -وقد كانَ الأَخْطَلُ قَضى بأفْضَليَّةِ جَريرٍ على الفَرَزْدَقِ- بهَدايا وجَوائِزَ، وأمَرَه أن يَهْجوَ جَريرًا، وأن يُعينَ عليه الفَرَزْدَقَ، وأن يقولَ أبْياتًا في مَدْحِ الفَرَزْدَقِ وتَفْضيلِه على جَريرٍ، كما كانَ قد أنْشَدَ مِن قَبْلُ بتَفْضيلِ جَريرٍ عليه، فقالَ في ذلك الأَخْطَلُ:
اخْسَأْ كُلَيْبُ إليكَ إنَّ مُجاشِعًا
وأبا الفَوارِسِ نَهْشلًا أخَوانِ
وإذا وَضَعْتَ أباكَ في ميزانِهم
رَجَحوا وشالَ أبوكَ في الميزانِ
ولقد تَجارَيْتُم إلى أحْسابِكم
وبَعَثْتُمُ حَكَمًا مِن السُّلْطانِ
فإذا كُلَيْبٌ ليس تَعدِلُ دارِمًا
حتَّى تُوازي حَزْرَمًا بأبانِ
أجَريرُ إنَّك والَّذي تَسْمو له
كأَسيفةٍ فَخَرَتْ بحِدْجِ حِصانِ [460] ((ديوان الأَخْطَل)) (ص: 171)، ((شرح نَقائِض جَرير والفَرَزْدَق)) لأبي عبيدة معمر بن المثنى (2/663).
فبلغَ ذلك جَريرًا فرَدَّ عليه بقَوْلِه:
إن زُرْتَ أهْلَك لم يُبالوا حاجتي
وإذا هَجَرْتُك شَفَّني هِجْراني
هلْ رامَ جَوُّ سُوَيقَتَينِ مَكانَه
أو حَلَّ بعْدَ مَحَلِّنا البُرْدانِ
راجَعْتُ بعْدَ سُلُوِّهنَّ صَبابةً
وعَرَفْتُ رَسْمَ مَنازِلٍ أبْكاني
وإذا لَقيتَ على زَرودَ مُجاشِعًا
تَركوا زَرودَ خَبيئةَ الأعْطانِ
قَتَلوا الزُّبَيْرَ وقيلَ إنَّ مُجاشِعًا
شَهِدوا بجَمْعِ ضَياطِرٍ عُزْلانِ
مِن كُلِّ مُنْتفِخِ الوَريدِ كأنَّه
بَغْلٌ تَقاعَسَ فوْقَه خُرْجانِ
يا مُسْتَجيرَ مُجاشِعٍ يَخْشى الرَّدى
لا تَأمَنَنَّ مُجاشِعًا بأمانِ
إنَّ ابنَ شِعْرةَ والقَرينَ وضَوْطرًا
بِئْسَ الفَوارِسُ ليَلةَ الحَدَثانِ
تَلقْى ضِفنِّ مُجاشِعٍ ذا لِحْيةٍ
وله إذا وَضَعَ الإزارَ حِرانِ
أَبنَيَّ شِعْرةَ إنَّ سَعْدًا لم تَلِدْ
قَيْنًا بِلَيْتَيهِ عَصيمُ دُخانِ
أبِنا عَدَلْتَ بَني خَضافِ مُجاشِعًا
وعَدَلْتَ خالَك بالأشَدِّ سِنانِ
شَهِدَتْ عَشيَّةَ رَحْرَحانَ مُجاشِعٌ
بمَجارفٍ جُحَفَ الخَزيرِ بِطانِ
وطِئَتْ سَنابِكُ خَيْلِ قَيْسٍ مِنكمُ
قَتْلى مُصرَّعةً على الأعْطانِ
أنَسيتَ وَيْلَ أبيك غَدْرَ مُجاشِعٍ
ومجَرَّ جِعْثِنَ لَيلةَ السَّيْدانِ
ونَسيتَ أعْيُنَ والرَّبابَ وجارَكم
ونُوارَ حيثُ تَصَلْصَلَ الحِجْلانِ [461] ((ديوان جَرير)) لمُحمَّد بن حَبيب (2/1008)، ((شرح نَقائِض جَرير والفَرَزْدَق)) لأبي عبيدة معمر بن المثنى (2/995).
فرَدَّ الفَرَزْدَقُ على جَريرٍ بقَوْلِه:
يا بنَ المَراغةِ والهِجاءُ إِذا التَقَتْ
أعْناقُهُ وتَماحَكَ الخَصْمانِ
ما ضَرَّ تَغلِبَ وائِلٍ أَهَجَوْتَها
أمْ بُلْتَ حَيثُ تَناطَحَ البَحْرانِ
يا بنَ المَراغةِ إِنَّ تَغلِبَ وائِلٍ
رَفَعوا عِناني فَوْقَ كلِّ عِنانِ
كانَ الهُذَيلُ يَقودُ كلَّ طِمِرَّةٍ
دَهْماءَ مُقرَبةٍ وكلَّ حِصانِ
يَصْهِلْنَ بِالنَّظَرِ البَعيدِ كأنَّما
إِرنانُها بِبَواثِنِ الأشْطانِ
واسأَل بِتَغلِبَ كيف كانَ قَديمُها
وقَديمُ قَوْمِكَ أَوَّلَ الأزْمانِ
قَوْمٌ هُمُ قَتَلوا ابنَ هِنْدٍ عَنْوةً
عَمْرًا وهم قَسَطوا على النُّعْمانِ
قَتَلوا الصَّنائِعَ وَالمُلوكَ وأوقَدوا
نارَينِ قد عَلَتا على النِّيرانِ
لولا فَوارِسُ تَغلِبَ ابنةِ وائِلٍ
نَزَلَ العَدُوُّ عليكَ كلَّ مَكانِ
حَبَسوا ابنَ قَيصَرَ وابتَنَوا برِماحِهم
يَوْمَ الكُلابِ كأكرَمِ البُنيانِ
ولقد عَلِمْتُ لِيَذرِفَنْ ذا بَطنِهِ
يَرْبوعُكم لِمُوَقِّصِ الأقْرانِ
إنَّ الأراقِمَ لنْ يَنالَ قَديمَها
كَلْبٌ عَوى مُتَهَتِّمُ الأسْنانِ
قَوْمٌ إِذا وُزِنوا بِقَوْمٍ فُضِّلوا
مِثلَيْ مُوازِنِهم على الميزانِ [462] ((ديوان الفَرَزْدَق)) (ص: 639)، ((شرح نَقائِض جَرير والفَرَزْدَق)) لأبي عبيدة معمر بن المثنى (2/988).
ثُمَّ إنَّ الأَخْطَلَ نَدِمَ على ذلك، وقالَ: ما أدْخَلَني بيْنَ رَجُلَينِ مِن بَني تَميمٍ، وبِهذا ظَلَّتِ النَّقائِضُ بيْنَ جَريرٍ والفَرَزْدَقِ لا تَنْقطِعُ ما بَقيَ في الرَّجُلَينِ مُزْعةُ لَحْمٍ [463] يُنظر: ((شرح نَقائِض جَرير والفَرَزْدَق)) لأبي عبيدة معمر بن المثنى (2/ 664). .

انظر أيضا: