موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: الغَزَلُ


الغَزَلُ غَرَضٌ مَجَّدَه الشُّعَراءُ وتفَنَّنوا فيه بضُروبِ القَولِ وأنواعِ الحَديثِ؛ إذ هو فِطْرةٌ إنسانيَّةٌ وجِبِلَّةٌ خِلْقِيَّةٌ، فحُبُّ المرأةِ صِفةٌ لَصيقةٌ بالنَّفْسِ، كامِنةٌ في القَلْبِ، والشُّعَراءُ مُتفاوِتونَ في وَصْفِ هذا الشُّعورِ، مُتبايِنونَ في تَصويرِ أحاسيسِهم.
وقد تبايَنَ الغَزَلُ كثيرًا واختَلَف عمَّا كان عليه في العَصْرِ الجاهِليِّ؛ إذ كان الغَزَلُ الجاهِليُّ غَرَضًا مِنَ الأغراضِ الجاهِليَّةِ يَميلُ أكثَرُ الشُّعَراءِ إلى الغَزَلِ العَفيفِ منه، وإنْ كان يَصِلُ أحيانًا إلى تصويرِ المفاتِنِ والمحاسِنِ، إلَّا أنَّه كان غالبًا تَصويرًا لِما يَظهَرُ مِنَ المرأةِ، كالوَجْهِ والشَّعْرِ والقَوامِ، إضافةً إلى أنَّه كان نادِرًا ما تَخلُصُ القَصيدةُ للغَزَلِ وَحْدَه، وإنَّما كان الغَزَلُ مَوضوعًا جُزئيًّا مِن مَوضوعاتِها، كما أنَّه كان في أغلَبِ القصائِدِ مُجَرَّدَ مُقَدِّمةٍ مألوفةٍ اعتادها الشُّعَراءُ، مِن غَيرِ أن يكونَ غَزَلُه هذا على الحَقيقةِ.
وفي عَصْرِ صَدْرِ الإسلامِ بَقِيَت تلك المقَدِّماتُ الَّتي اعتادَها الشُّعَراءُ، والتي تُهَيِّجُ قُلوبَهم وتَسمُقُ بسَليقَتِهم إلى نَسْجِ الشِّعْرِ وتَحبيرِه؛ ولهذا كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَستَمِعُ إلى الشُّعَراءِ ولا يَنهاهم عن تلك المقَدِّماتِ؛ لأنَّه يَعلَمُ حَقيقةَ ما فيها، كما قال الشَّاعِرُ:
وما كان طِبِّي حُبَّها غَيْرَ أنَّه
تُقامُ بسَلْمَى للقَوافي صُدُورُها
أمَّا العَصْرُ الأُمَوِيُّ فقد شَهِدَ تغَيُّراتٍ جِذْريَّةً في هذا الغَرَضِ؛ حيث شاع الغَزَلُ وتعَدَّدَت صُوَرُه واتَّسَع مَظْهَرُه، وخرَجَ عن الصُّورةِ المعهودةِ، فصار غَرَضًا مُستَقِلًّا تُعقَدُ له الأبياتُ والأوزانُ، كما أنَّ الشُّعَراءَ لم يَجِدوا حَرَجًا في أن يُصَرِّحوا في شِعْرِهم بما يَخدِشُ الحَياءَ وتأباه الفِطْرةُ، كما ظهَرَت أنواعٌ مِنَ الغَزَلِ لم يَعرِفْها الشُّعَراءُ مِنْ قَبْلُ؛ منها:
أ- الغَزَلُ الكَيْديُّ:
ظَهَر استِخدامٌ جَديدٌ للغَزَلِ لم يكُنْ يَعرِفُه السَّابِقونَ، وهو أنَّ بَعْضَ الشُّعَراءِ قد يُريدُ هِجاءَ أحَدِ الأشخاصِ أو الانتِقامَ منه، فيَعدِلُ عن الهِجاءِ التَّقليديِّ إلى أن يتغَزَّلَ في زَوجَتِه أو أُمِّه أو امرأةٍ مِن آلِ بَيتِه، كما فَعَل الشَّاعِرُ العَرْجيُّ بتغَزُّلِه وتَشبيبِه بأمِّ الوالي مُحمَّدِ بنِ هِشامٍ وبزَوجتِه، فقال في جَيداءَ أمِّ الوالي:
عُوجِي علينا ‌َرَبَّةَ ‌الهَوْدَجِ
إنَّكِ إنْ لا تَفْعَلي تُحْرَجي
أيسَرُ ما قال مُحِبٌّ لدى
بَيْنِ حَبيبٍ قَولُه عَرِّجِ
إنِّي أُتيحَت لي يَمَانِيَةٌ
إِحْدَى بَني الحارِثِ مِنْ مَذْحِجِ
نَلْبَثُ حَولًا كامِلًا كُلَّه
ما نَلْتَقي إلَّا على مَنْهَجِ
في الحَجِّ إنْ حَجَّتْ وماذا مِنًى
وأهْلُه إنْ هِيَ لم تحْجُجِ
كأنَّما الدُّرُّ على نَحْرِها
نُجومُ فَجْرٍ ساطِعٍ أبْلَجِ
تَذُودُ بالبَرْدِ لها عَبْرةٌ
جاشَت بها العَيْنُ لم تَنْشِجِ [432] ((ديوان العرجي)) (ص: 17).
ولا شَكَّ أنَّه لا يَعرِفُ أمَّ الوالي، ولم يَرَها يومًا ما، ولكِنَّه يُريدُ أن يَغيظَ الواليَ، ويُشعِلَ نارَ غَضَبِه، وينتَقِمَ منه، فلم يجِدْ أشَدَّ عليه مِنَ الخَوضِ في عِرْضِ أهلِ بَيتِه [433] ينظر: ((الأدب الأموي تاريخه وقضاياه)) لزكريا النوتي (ص:58). !
ب- المقَدِّمةُ الغَزَليَّةُ:
اعتاد الجاهِليُّونَ -وتَبِعَهم في ذلك بَعْضُ شُعَراءِ صَدْرِ الإسلامِ- على تصديرِ قَصيدتِه وابتِدائِها بالغَزَلِ، دونَ أن يَقصِدَ به حقيقةَ التَّغَزُّلِ والتَّشبيبِ بالمرأةِ، وإنَّما جَرَت عادةُ الشُّعَراءِ على استِفتاحِ قَصائِدِهم بمِثْلِ هذه المقَدِّماتِ الَّتي تُلهِبُ الشِّعْرَ في خواطِرِهم وتَفيضُ به قرائِحُهم.
وقد ألِف ذلك بَعْضُ شُعَراءِ الأُمَوِيّينَ [434] ينظر: ((الأدب العربي وتاريخه في العصرين الأموي والعباسي)) لمحمد عبد المنعم خفاجي (ص: 103). ، مِثْلُ جَريرٍ في قَولِه:
أمِنْ عَهدِ ذي عَهدٍ تَفيضُ مَدامِعي
كأنَّ قَذَى العَينَينِ مِن حُبِّ فُلْفُلِ
فإنْ يَرَ سَلْمَى الجِنُّ يَسْتأنِسوا بها
وإنْ يَرَ سَلْمَى راهِبُ الطُّورِ يَنْزِلِ
مِنَ البِيضِ لم تَظعَنْ بَعيدًا ولم تطَأْ
على الأرْضِ إلَّا نِيرَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
إذا ما مَشَتْ لمَّ تنتَهِزْ وتأوَّدَتْ
كما انآدَ مِن خَيلٍ وَجٍ غَيرُ مُنعِلِ
كما مالَ فَضْلُ الجِلِّ عن مَتْنِ عائِذٍ
أطافَتْ بمُهْرٍ في رِباطٍ مُطوَّلِ
لها مِثْلُ لَونِ البَدْرِ في لَيلةِ الدُّجَى
ورِيحُ الخُزامَى في دِمَاثٍ مُسَيَّلِ [435] يُنظر: ((ديوان جرير)) (ص: 367).
وقال جَريرٌ أيضًا:
تُعَلِّلُنا أُمامةُ بالعِدَاتِ
وما يَشفِي القُلوبَ الصَّادِياتِ
فلَولا حُبُّها وإلهِ مُوسى
لودَّعْتُ الصَّبَا والغانياتِ
وما صَبْري عن الذَّلْفاءِ إلَّا
كصَبْرِ الحُوتِ عن ماءِ الفُراتِ
إذا رَضِيَتْ رَضِيتُ وتَعتَريني
إذا غَضِبَتْ كهَيضاتِ السُّباتِ [436] يُنظر: ((ديوان جرير)) (ص: 69).
فهو في هذه الأبياتِ لم يَقصِدِ الغَزَلَ لذاتِه، بل اتخَذَ الغَزَلَ وَسيلةً لافتِتاحِ قَصائِدِه وتَقليدًا للقُدَماءِ في تمهيدِ قَولِهم بالغَزَلِ، ثمَّ الولوجِ في الغَرَضِ المنشودِ؛ فهو في القَصيدةِ الأُولى يَهْجو الفَرَزْدَقَ، وفي الثَّانيةِ يَرُدُّ على الفَرَزْدَقِ ويَهْجو الزِّبْرِقانَ بنَ بَدرٍ وبَني طُهَيَّةَ، فليس الغَرَضُ الرَّئيسُ تغَزُّلًا ولا وَصْفًا للنِّساءِ.
ج- الغَزَلُ الحِسِّيُّ أو الغَزَلُ الصَّريحُ
تحَضَّرَت المدينةُ ومَكَّةُ وغَرِقَتا في الرَّفَهِ والنَّعيمِ بتأثيرِ ما صُبَّ فيها من أموالِ الفُتوحاتِ، والرَّقيقِ الأجنَبيِّ؛ فصارت الحياةُ مَليئةً بالتَّرَفِ والنَّعيمِ دونَ أن يُكَدِّرَها شَيءٌ مِنْ غُصَصِ الزَّمانِ، وانشغَلَ النَّاسُ بالجواري والقِيَانِ، وانتَشَر الغِناءُ في أرجاءِ مَكَّةَ والمدينةِ، وانصَرَفَت نحوَه الوُجوهُ، وأصبَحَ الغِناءُ شُغلَ النَّاسِ الشَّاغِلَ، فنَدَر أن تجِدَ أحدًا لا يبادِرُ إلى مجالِسِ الغِناءِ والسَّماعِ، حتَّى إنَّ بَعْضَ الزُّهَّادِ والفُقَهاءِ والنُّسَّاكِ قد يَصرِفُ بَعْضَ وَقْتِه أحيانًا في التَّلَذُّذِ به!
ومِنَ الطَّبيعيِّ أن يكونَ مَوضوعُ تلك الأشعارِ الغِنائيَّةِ هو التَّغَزُّلَ والتَّشبيبَ بالنِّساءِ؛ إذْ لا يُعقَلُ أن تُغَنِّيَ القِيَانُ بالمَدْحِ أو الرِّثاءِ أو أشعارِ الحَماسةِ، بل كان التَّغَنِّي بأوصافِ النِّساءِ ومَحاسِنِهنَّ تغَزُّلًا صريحًا يُفْضي أحيانًا إلى التَّوْريةِ عن العَوْراتِ أو التَّصريحِ بها.
وقد اقتَضَت طبيعةُ الشِّعْرِ الغِنائيِّ أن تُؤثِّرَ على شِعْرِ الغَزَلِ، فأصبح أكثَرُه مقطوعاتٍ قَصيرةً، وعَدَل الشُّعَراءُ إلى الأوزانِ الخَفيفةِ مِن مِثْلِ الرَّمَلِ والسَّريعِ والخَفيفِ والمُتقارِبِ والهَزَجِ، واستَخْدَموا مَجزوءاتِ الأوزانِ الطَّويلةِ، بل مال بَعْضُهم إلى تَجزئةِ الأوزانِ الخَفيفةِ، كما آثَروا الألفاظَ والمعانيَ البَسيطةَ الواضِحةَ، وهَجَروا المُستَوحِشَ الغَريبَ منها، كما هَجَروا العاداتِ الجاهِليَّةَ، مِثْلَ ذِكْرِ الدِّيارِ وبُكاءِ الأطلالِ، وأصبح الشِّعْرُ تصويرًا لأحاسيسِ الحُبِّ الَّتي سكَبَها المجتَمَعُ الجَديدُ في نُفوسِ الشُّعَراءِ، وأصبَحَتِ المرأةُ مَدارَ أفلاكِ الشُّعَراءِ وكَعْبةَ شِعْرِهم، يَصِفون حُبَّهم لها وتعَلُّقَهم بها ومَيْلَهم إليها، وشَغَفَهم الدَّائِمَ وشَوقَهم الملتَهِبَ، ولا يَجِدونَ في ذلك حَرَجًا، فيُصَرِّحون بذِكْرِ أسماءِ النِّساءِ في شِعْرِهم، ويَذْكُرون خَلْوتَهم بهِنَّ، وإتيانَهنَّ على خُفْيةٍ مِن أهْلِهنَّ، كما اصطَبَغ شِعْرُ هذه الطَّائفةِ مِنَ الشُّعَراءِ بالصِّبغةِ القَصَصيَّةِ الَّتي تُتيحُ لهم جوًّا مِنَ الأخْذِ والرَّدِّ، والتَّجاوُبِ مع المرأةِ وإطالةِ الحَديثِ معها، والاستِئناسِ بكَلامِها [437] ينظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (2/347). .
وكان رائِدَ هذا الاتِّجاهِ عُمَرُ بنُ أبي رَبيعةَ؛ فمِن ذلك قَولُه:
فلَمَّا فَقَدْتُ الصَّوتَ منهم وأُطفِئَت
مَصابيحُ شَبَّت بالعِشاءِ وأنْؤُرُ
وغاب قُمَيرٌ كُنتُ أرجو غُيوبَه
ورَوَّحَ رِعيانٌ ونَوَّمَ سُمَّرُ
ونَفَّضْتُ عنِّي العَينَ أقبَلْتُ مِشْيةَ ال
حُبابِ ورُكْني خِيفةَ القَومِ أزْوَرُ
فحَيَّيتُ إذ فاجَأْتُها فتَوَلَّهَت
وكادَت بمَكنونِ التَّحِيَّةِ تَجهَرُ
وقالَتْ وعَضَّتْ بالبَنانِ: فضَحْتَني
وأنت امْرُؤٌ مَيسورُ أمْرِك أعسَرُ
أرَيتُك إذ هُنَّا عليك ألم تخَفْ
رَقيبًا وحَولي مِن عَدُوِّكَ حُضَّرُ
واللهِ ما أدري أتعجيلُ حاجةٍ
سَرَتْ بك أم قد نامَ مَن كُنتَ تَحْذَرُ
فقُلْتُ لها: بل قادَني الشَّوقُ والهَوى
إليكِ وما عَيْنٌ مِنَ النَّاسِ تَنظُرُ
فيا لَكَ مِن لَيلٍ تَقاصَرَ طُولُهُ
وما كان ليلي قَبْلَ ذلك يَقْصُرُ
ويا لَكَ مِن مَلهًى هُناكَ ومَجلِسٍ
لنا لم يُكَدِّرْه علينا مُكَدِّرُ
يَمُجُّ ذَكِيَّ المِسْكِ منها مُفَلَّجٌ
رَقيقُ الحَواشي ذو غُروبٍ مُؤْشَّرُ
يَرِفُّ إذا يُفْتَرُّ عنه كأنَّهُ
حَصى بَرَدٍ أو أُقحوانٌ مُغَوِّرُ
وتَرْنو بعَينَيها إليَّ كما رنا
إلى رَبْرَبٍ وَسْطَ الخَميلةِ جُؤذَرُ
فلمَّا تَقَضَّى اللَّيلُ إلَّا أقَلُّهُ
وكادت تَوالي نَجْمِهِ تتغَوَّرُ
أشارت بأنَّ الحَيَّ قد حان مِنهمُ
هُبوبٌ ولكِنْ مَوعِدٌ لكَ عَزْوَرُ
فما راعَني إلَّا مُنادٍ برِحْلةٍ
وقد لاح مَفتوقٌ مِنَ الصُّبحِ أشْقَرُ
فلَمَّا رأت مَن قَدْ تَثَوَّرُ منهمُ
وأيقاظَهم قالت أشِرْ كيفَ تَأمُرُ
فقُلْتُ: أُبادِيهم فإمَّا أفوتُهم
وإمَّا ينالُ السَّيفُ ثأرًا فيَثأرُ
فقالَت: أتحقيقًا لِما قال كاشِحٌ
علينا، وتَصديقًا لِما كان يُؤثَرُ!
فإنْ كان ما لا بُدَّ منه فغَيْرُه
مِنَ الأمْرِ أدْنى للخَفاءِ وأسْتَرُ [438] ((ديوان عمر بن أبي ربيعة)) (ص: 122).
د- الغَزَلُ العُذْريُّ:
هو ذلك الغَزَلُ العَفيفُ الَّذي أقصى غايتِه أن يَذكُرَ المحِبُّ شَوقَه ولَهْفَتَه لمحْبوبِه، دونَ أن يَظفَرَ منها بشَيءٍ، بل الشَّوقُ وذِكْرُ الحَبيبِ، وإبرازُ مَحاسِنِه المَعْنويَّةِ والخُلُقيَّةِ.
وقد نُسِبَ إلى بَني عُذْرةَ إحدى قبائِلِ قُضاعةَ الَّتي كانت تَنزِلُ في وادي القُرى شَمالِيَّ الحِجازِ؛ لأنَّ شُعراءَها أكثَروا من التَّغنِّي به ونَظْمِه. ويُروَى أنَّ سائِلًا سأل رَجُلًا مِن هذه القَبيلةِ: ممَّن أنت؟ قال: مِن قَومٍ إذا عَشِقوا ماتوا!
 ويُرْوَى أيضًا أنَّ سائِلًا سأل عُروةَ بنَ حِزامٍ العُذْرِيَّ: أصحيحٌ ما يُرْوَى عنكم من أنَّكم أرَقُّ النَّاِس قُلوبًا؟ فأجابه: نعم، واللهِ لقد تَرَكْتُ ثلاثينَ شابًّا قد خامَرَهم الموتُ، وما لهم داءٌ إلَّا الحُبُّ!
فجاءت أشعارُهم تَشِفُّ عن مَكنونِ قَلْبِهم، وتحمِلُ لواعِجَ أشواقِهم، وتَستَعِرُ بلَهيبِ نِيرانِ شَوقِهم؛ فالعُذْرِيُّونَ هم أرَقُّ النَّاسِ قُلوبًا، وأصدَقُهم حُبًّا، وأعمَقُهم شُعورًا؛ فمِنهم مَن أهلَكَه الهَوى وأسقَمَه الوَجْدُ، ومنهم مَن سَلَبَه العِشْقُ عَقْلَه، وسَطَا الشَّوقُ على لُبِّه، ومنهم مَن أفْنى الغَرامُ عُمُرَه، وصَرَعَتْه الصَّبابةُ!
وكان عِمادُ هذا اللَّونِ مِنَ الغَزَلِ: الصِّدقَ في العاطِفةِ، والعِفَّةَ في القَولِ، والتَّفانيَ في المحبوبِ، والضَّراعةَ في الحُبِّ؛ فلا يتناوَلُ الشَّاعِرُ مَفاتِنَ الجَسَدِ، ولا يُعَرِّي محبوبَتَه أمامَ آذانِ النَّاسِ، وإنَّما يَذكُرُ المعانيَ القَلبيَّةَ؛ مِنَ الشَّوقِ والوَجْدِ، والهَوى والحَنينِ، وما يُكابِدُه مِن آلامٍ، وما يُقاسيه مِن حِرْمانٍ [439] ينظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (2/359)، ((الأدب العربي وتاريخه في العصرين الأموي والعباسي)) لمحمد عبد المنعم خفاجي (ص: 122). .
ومن ذلك قَولُ مَجنونِ ليلى [440] ((ديوان مجنون ليلي)) (ص: 227). :
خَليليَّ لا واللهِ لا أملِكُ الَّذي
قضى اللهُ في لَيْلى ولا ما قَضَى لِيَا
قَضاها لِغَيري وابتَلاني بحُبِّها
فَهَلَّا بشَيءٍ غَيرِ لَيْلى ابتَلانِيَا
وخَبَّرْتُماني أنَّ تِيماءَ مَنزِلٌ
لِلْيَلى إذا ما الصَّيفُ ألْقى المَراسِيَا
فهَذي شُهورُ الصَّيْفِ عَنَّا قدِ انقَضَت
فما للنَّوى يَرْمي بلَيْلى المَرامِيَا
فلو كان واشٍ باليَمامةِ دارُه
وداري بأعْلَى حَضْرَمَوتَ أتانِيَا
وقد كُنتُ أعْلو حُبَّ لَيْلى فلم يَزَلْ
بيَ النَّقْصُ والإبرامُ حتَّى عَلانِيَا
فيا رَبِّ سَوِّ الحُبَّ بَيْني وبَيْنَها
يكونُ كَفافًا لا عَلَيَّ ولا لِيَا
فما طَلَع النَّجْمُ الَّذي يُهتَدَى به
ولا الصُّبحُ إلَّا هَيَّجَا ذِكْرَها لِيَ
وقَولُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ [441] ((ديوان كثير عزة)) (ص: 95). :
خَلِيليَّ هذا رَبْعُ عَزَّةَ فاعْقِلَا
قَلُوصَيْكُما ثمَّ ابْكِيَا حيثُ حَلَّتِ
ومُسَّا تُرابًا كَانَ قَدْ مَسَّ جِلْدَها
وبَيْتًا وَظِلًّا حَيْثُ باتَتْ وظَلَّتِ
ولا تيأسَا أنْ يَمْحُوَ اللهُ عَنْكُما
ذُنوبًا إذا صَلَّيْتُما حَيْثُ صَلَّتِ
وما كُنْتُ أدْري قَبْلَ عَزَّةَ ما البُكَا
ولا مُوجِعَاتِ القَلْبِ حتَّى تَوَلَّتِ
وما أنصَفَتْ أمَّا النِّساءَ فبَغَّضَتْ
إلينا وأمَّا بالنَّوالِ فضَنَّتِ
فَقَدْ حَلَفَتْ جَهْدًا بما نحَرَتْ له
قُرَيشٌ غَداةَ المأزَمَينِ وصَلَّتِ
أُنادِيكَ ما حَجَّ الحَجيجُ وكَبَّرتْ
بفَيفاءِ آلٍ رُفقةٌ وأهَلَّتِ
وما كَبَّرتْ مِن فَوقِ رُكبةَ رُفْقةٌ
ومِنْ ذي غَزَالٍ أشعَرَتْ واسْتَهَلَّتِ
وكانت لقَطْعِ الحَبْلِ بَيْني وبَيْنَها
كناذِرةٍ نَذْرًا وَفَتْ فأحَلَّتِ
فقُلْتُ لها: يا عَزُّ كُلُّ مُصيبةٍ
إذا وُطِّنَت يَومًا لها النَّفْسُ ذَلَّتِ
وهذا النَّوعُ مِنَ الشِّعْرِ لم يكُنْ يأنَفُ عنه الوُعَّاظُ والنُّسَّاكُ؛ فهذا عُروةُ بنُ أُذَينةَ، أحَدُ فُقَهاءِ المَدينةِ ومُحَدِّثيها، كان يَقولُ:
إنَّ الَّتي زعَمَت فُؤادَك مَلَّها
جُعِلَتْ هَواك كما جُعِلْتَ هَوًى لها
فبِكَ الَّذي زعَمَتْ بها وكِلاكُما
يُبْدي لصاحِبِه الصَّبابةَ كُلَّها
بَيضاءُ باكَرَها النَّعيمُ فصاغَها
بلَباقةٍ فأدَقَّها وأجَلَّها
مَنَعَتْ تحيَّتَها فقُلْتُ لصاحِبي
ما كان أكثَرَها لنا وأقَلَّها [442] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (2/ 359).
وقَولُه:
فإن تمنَعُوا لَيْلى وطِيبَ حَدِيثِها
عَلَيَّ فلن تَحْمُوا عَلَيَّ القوافِيَا
فأشهَدُ عِندَ اللهِ أنِّي أُحِبُّها
فهذا لها عِنْدي فما عِنْدَها لِيَا
وقد لامَني اللُّوَّامُ فيها جَهالةً
فلَيتَ الهَوى باللَّائِمينَ مَكانِيَا
فما زادَني النَّاهونَ إلَّا صَبابةً
وما زادَني الواشُونَ إلَّا تمادِيَا
قَضى اللهُ بالمَعروفِ مِنها لغَيرِنا
وبالشَّوقِ مِنِّي والغَرامِ قَضى لِيَا [443] ((ديوان مجنون ليلى)) (ص: 123).

انظر أيضا: