موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: الكِتابةُ في عَصْرِ صَدْرِ الإسْلامِ


سَبَقَ أن ذَكَرْنا أنَّ العَربَ قبْلَ الإسْلامِ كانوا على عِلمٍ بالكِتابةِ، وقد كَثُرَ في شِعْرِهم ذِكْرُ أدَواتِ الكِتابةِ وآثارِها، بَيْدَ أنَّهم لم يكونوا يَعْتَمِدونَ عليها في أمورِهم، وأنَّ الحِفْظَ والرِّوايةَ الشَّفَهيَّةَ كانَتْ أسْهَلَ وأيْسَرَ.
وعليه فإنَّ الجاهِليِّينَ لم يَكُنْ لديهم ما يُعرَفُ بالنَّصِّ الأدَبيِّ النَّثْريِّ؛ إذ غَلَبَ الشِّعْرُ والخَطابةُ على ذلك الفَنِّ النَّثْريِّ، وإنَّ الرَّسائِلَ الَّتي وَرَدَتْ إلينا عن الجاهِليِّينَ -إن صَحَّتْ نِسْبتُها إليهم- لا تَتَّصِفُ أبَدًا بالصِّفةِ الأدَبيَّةِ؛ إذ اعْتَمَدَ الجاهِليُّونَ على الفُنونِ الشَّفَويَّةِ كالخَطابةِ، كما أنَّهم اقْتَصَروا في رَسائِلِهم على مُجرَّدِ إيصالِ المَعْنى، دونَ تَحْقيقِ البَيانِ ومَقاصِدِ البَلاغةِ.
ولمَّا جاءَ الإسْلامُ اقْتَضَتْ طَبيعةُ دَعْوتِه الاهْتِمامَ بالكِتابةِ؛ فهي أداةُ حِفْظِ القُرآنِ الكَريمِ معَ حِفْظِ الصَّدْرِ وحُسْنِ الفَهْمِ، ولرَغْبةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في مُكاتَبةِ المُلوكِ والرُّؤَساءِ ودَعْوتِهم إلى الإسْلامِ، فَضْلًا عن كِتابةِ العُهودِ والمَواثيقِ بيْنَه وبيْنَ سائِرِ الدُّوَلِ المُجاوِرةِ له، أو بيْنَه وبيْنَ أهْلِ الذِّمَّةِ الَّذين يَعيشونَ معَه في بِلادِ الإسْلامِ.
ثُمَّ ازْدادَتْ حاجةُ المُسلِمينَ إلى الكِتابةِ والتَّدْوينِ بعْدَ وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فوَجَبَ جَمْعُ القُرآنِ في المَصاحِفِ بعْدَ اسْتِشهادِ أكْثَرِ القُرَّاءِ في حُروبِ الرِّدَّةِ، كما ظَهَرَتِ الحاجةُ إلى جَمْعِ أحاديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَوْفًا مِن نِسْيانِها أو ضَياعِها، كما اقْتَضى التَّوَسُّعُ الجُغْرافيُّ لرُقْعةِ الإسْلامِ أن تُوجَدَ المُكاتَباتُ بيْنَ الخَليفةِ وبيْنَ عُمَّالِه وأُمَرائِه.
فنَجَمَ عن كلِّ هذا ثَرْوةٌ نَثْريَّةٌ هائِلةٌ خَلَّفَها عَصْرُ النُّبوَّةِ وزَمانُ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ، تَنوَّعَتْ بيْنَ الرَّسائِلِ والمَواثيقِ والعُهودِ والوَصايا ونَحْوِ ذلك، إلَّا أنَّنا نَسْتطيعُ أن نُفرِّقَ بيْنَ خَصائِصِ الكِتابةِ زَمَنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وخَصائِصِها زَمانَ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ؛ فإنَّ الكِتابةَ النَّبويَّةَ لا نَسْتَطيعُ أن نَحكُمَ لها بالصِّفةِ الأدَبيَّةِ؛ فإنَّها لم تَتَعدَّ إيصالَ المَعنى المُرادِ وتَبْليغَه، دونَ مُحاوَلةٍ لتَنْسيقِ الكَلامِ؛ ولِهذا جاءَتْ خالِيةً مِن أساليبِ البَيانِ الفَنِّيِّ، اللَّهُمَّ إلَّا نادِرًا، وإن جاءَتْ فإنَّما هي عَفْوُ الخاطِرِ دونَ القَصْدِ أو التَّكلُّفِ، شأنُها شأنُ الكِتابةِ في العَصْرِ الجاهِليِّ، إلَّا أنَّ الكِتابةَ في عَصْرِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ قد أخَذَتْ خُطوةً عَريضةً في الأفُقِ، وذلك حينَ كَثُرَ الاعْتِمادُ عليها، وصارَتْ أمْرًا لا غِنى للنَّاسِ عنه، فتَطوَّرَتِ الكِتابةُ وسارَعَتْ إلى الأخْذِ بأقْلامِ البَيانِ، فجاءَتْ بَيانيَّةً شيئًا فشيئًا [405] يُنظر: ((الأدب في عصر النبوة والراشدين)) لصلاح الدين الهادي (ص: 139). .

انظر أيضا: