موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: النَّثْرُ في عَصْرِ صَدْرِ الإسْلامِ


ذَكَرْنا في الجُزْءِ الخاصِّ بالشِّعْرِ أنَّ الإسْلامَ لم يَمنَعِ الشِّعْرَ ولا نَهى عنه، بلْ زادَه بألْفاظِه ومَعانيه، كما هذَّبَ أُسْلوبَه ومَوْضوعاتِه، وارْتَقى بتَراكيبِه وصُوَرِه، فسارَ على نَهْجِه الشُّعَراءُ والأُدَباءُ.
أمَّا بالنَّسبةِ للنَّثْرِ فقد أعْطاه الإسْلامُ أهَمِّيَّةً عُظْمى، وارْتَقى به بعْدَما كانَ مُتلاشِيًا في الجاهِليَّةِ، مُقْتصِرًا -تَقْريبًا- على الخَطابةِ وبعضِ الحِكَمِ والأمْثالِ، فرَفَعَه إلى أعْلى المَنازِلِ، وارْتَقى بمَكانتِه إلى أن صارَ فوْقَ الشِّعْرِ.
ولمَّا كانَ فَنُّ النَّثْرِ يَعْتمِدُ كُلِّيًّا على الكِتابةِ؛ ولِهذا شَكَّكَ المُؤَرِّخونَ في وُجودِ النَّثْرِ في الجاهِليَّةِ أصْلًا، فإنَّ الإسْلامَ قدِ اهْتمَّ بالكِتابةِ اهْتِمامًا بالِغًا؛ إذ كانَ أوَّلُ ما نَزَلَ مِنه يَدْعو إلى القِراءةِ والكِتابةِ، فقالَ تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 - 5] ، كما نوَّهَ بطَبيعةِ القُرآنِ -الَّذي هو دُسْتورُ الدِّينِ- أنَّه مَكْتوبٌ، فقالَ: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور: 1 - 3]، وقالَ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21، 22].
بلْ أمَرَ بالكِتابةِ في شُؤونِ الحَياةِ، كما في المُدايَناتِ، بقَولِه: يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أوْ ضَعِيفًا أوْ لَا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة: 282].
وقدِ اهْتمَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالكِتابةِ حتَّى إنَّه أطْلَقَ سَراحَ الأسْرى يَوْمَ بَدْرٍ على أن يُعَلِّمَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم عَدَدًا مِن صِبْيانِ الأنْصارِ الكِتابةَ [382] أخرجه أحمد في ((المسند)) (2216)، والحاكم في ((المستدرك)) (2621)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (1168) عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وقد كانَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُتَّابٌ يَكْتُبونَ الوَحْيَ بيْنَ يَدَيه؛ كالخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ الأرْبَعةِ، وزَيدِ بنِ ثابِتٍ، ومُعاوِيةَ بنِ أبي سُفْيانَ، كما كانَ مِن الصَّحابةِ مَن يَكتُبُ لنفْسِه القُرآنَ، كعائِشةَ وابنِ مَسْعودٍ وغيْرِهما.
كما كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُرسِلُ الرَّسائِلَ إلى مُلوكِ الفُرْسِ والرُّومِ والقِبْطِ ونَحْوِهم، كما اتَّسعَتْ رُقْعةُ الدَّوْلةِ الإسْلاميَّةِ بعْدَ ذلك، واسْتَعمَلَ الخُلَفاءُ الرَّاشِدونَ الرَّسائِلَ في المُكاتَباتِ بيْنَهم وبيْنَ أمَرائِهم وعُمَّالِهم.
كلُّ هذه الأمورِ كانَتْ جَديرةً أن تَسْموَ بالنَّثْرِ الأدَبيِّ وتَرفَعَ مِن شَأنِه.
أمَّا الرُّكْنُ الثَّاني مِن أرْكانِ النَّثْرِ وهو الخُطبةُ، فإنَّ الإسْلامَ قد أولاها أكْبَرَ الاهْتِمامِ؛ إذ كانَتْ وَسيلةَ الدَّعوةِ وبَيانِ أمورِ الدِّينِ، فهَيَّأ صورتَها، وضَبَطَ أحْكامَها، وجَعَلَ لها صورةً تَرْتسِمُ عليها مَلامِحُها. وبِهذا يَظهَرُ الدَّوْرُ الَّذي أدَّاه الإسْلامُ للأدَبِ العَربيِّ عامَّةً، وللنَّثْرِ خاصَّةً. وفيما يأتي تَفْصيلٌ لأهمِّ فُنونِ النَّثْرِ في عَصْرِ صَدْرِ الإسْلامِ.

انظر أيضا: