موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ السَّابِعُ: الغَزَلُ


لمَّا كانَ الإسْلامُ يَدْعو في أهمِّ ما يَدْعو إليه إلى العِفَّةِ والنَّقاءِ وغَضِّ البَصَرِ، كانَ طبيعيًّا أن يكونَ التَّشْبيبُ بالمَرأةِ والتَّغزُّلُ بها مَرْغوبًا عنه؛ لِما فيه مِن المُجونِ وفُحْشِ القَوْلِ، وقد نَظَّمَ الإسْلامُ العَلاقةَ بيْنَ الرَّجُلِ والمَرأةِ، وأحاطَ تلك العَلاقةَ بهالةٍ مِن العِفَّةِ والوَقارِ، وإذا بالشُّعَراءِ لا يَدْنونَ مِن المَرأةِ إلَّا في حَذَرٍ وحَيطةٍ؛ ومِن ثَمَّ أضْفى الإسْلامُ على شِعْرِ الغَزَلِ بَراءةً وطُهْرًا ونَقاءً على نَحْوٍ هيَّأ لظُهورِ الغَزَلِ العُذْريِّ بعْدَ ذلك، إلَّا أنَّه قد بَقيَ مِن آثارِ ذلك الغَزَلِ ما كانَ العَربُ يُمهِّدونَ به قَصائِدَهم، فيَقِفُ على الأطْلالِ ويَتغزَّلُ بالمَحْبوبةِ -وإن لم تكنْ ثَمَّ مَحْبوبةٌ- إحْياءً لسَنَنِ الشِّعْرِ القَديمِ الَّتي دَرَجَ عليها العَربُ، وليُحرِّكَ ما في القَلْبِ مِن بَقايا الشَّبابِ؛ حتَّى يَسْتجيبَ الطَّبْعُ للشَّاعِرِ وتَسْلَسَ له الخَواطِرُ، كما قالَ مالِكُ بنُ زُغْبةَ الباهِليُّ:
وما كانَ طبِّي حُبَّها غَيْرَ أنَّه
تُقامُ بسَلْمى للقَوافي صُدورُها
ولولا ذلك لَما أباحَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للشُّعَراءِ أن يَسْتهِلُّوا أشْعارَهم بتلك الأشْياءِ، ولا أنْصَتَ لكَعْبِ بنِ زُهَيْرٍ حينَ جاءَ يُنشِدُه قَصيدتَه "بانَتْ سُعادُ"، وما فيها مِن التَّغزُّلِ وذِكْرِ المَفاتِنِ [361] يُنظر: ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/76). .
فمِن القَصائِدِ الَّتي اسْتُهلَّتْ بالمُقدِّماتِ الغَزَليَّةِ قَوْلُ كَعْبِ بنِ زُهَيْرٍ:
‌بانَتْ ‌سُعادُ ‌فقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ
مُتيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ
وما سُعادُ غَداةَ البَيْنِ إذ رَحَلوا
إلَّا أغَنُّ غَضيضُ الطَّرْفِ مَكْحولُ
هَيْفاءُ مُقْبِلةً عَجْزاءُ مُدبِرةً
لا يُشْتكى قِصَرٌ مِنها ولا طولُ
تَجْلو عَوارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابْتَسمَتْ
كأنَّه مَنهَلٌ بالرَّاحِ مَعْلولُ
شُجَّتْ بِذي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحْنيةٍ
صافٍ بِأبْطَحَ أضْحى وهْو مَشْمولُ
تَنْفي الرِّياحُ القَذى عنهُ وأفْرَطَه
مِن صَوْبِ سارِيةٍ بيضٌ يَعاليلُ
أكْرِمْ بِها خُلَّةً لو أنَّها صَدَقَتْ
مَوْعودَها أو لو انَّ النُّصْحَ مَقْبولُ
لكنَّها خُلَّةٌ قد سِيطَ مِن دَمِها
فَجْعٌ ووَلْعٌ وإخْلافٌ وتَبْديلُ
فما تَدومُ على حالٍ تكونُ بها
كما تَلَوَّنُ في أثْوابِها الغُولُ
ولا تَمَسَّكُ بالعَهْدِ الَّذي زَعَمَتْ
إلَّا كما يُمسِكُ الماءَ الغَرابيلُ
كانَتْ مَواعيدُ عُرْقوبٍ لها مَثَلًا
وما مَواعيدُها إلَّا الأباطيلُ
فلا يَغُرَّنْكَ ما مَنَّتْ وما وَعَدَتْ
إنَّ الأمانيَّ والأحْلامَ تَضْليلُ [362] ((ديوان كعب بن زهير)) (ص: 60).
ومِنه قَوْلُ حسَّانَ بنِ ثابِتٍ رَضيَ اللهُ عنه يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ [363] ((ديوان حسان بن ثابت)) (ص: 17). :
عَفَتْ ذاتُ الأصابِعِ فالجِواءُ
إِلى عَذْراءَ مَنزِلُها خَلاءُ
دِيارٌ مِن بَني الحَسْحاسِ قَفرٌ
تُعَفِّيها الرَّوامِسُ والسَّماءُ
وكانَتْ لا يَزالُ بها أنيسٌ
خِلالَ مُروجِها نَعَمٌ وشاءُ
فدَعْ هَذا ولكنْ مَن لِطَيفٍ
يُؤَرِّقُني إذا ذَهَبَ العِشاءُ
لِشَعْثاءَ الَّتي قد تَيَّمَتْهُ
فليس لِقَلْبِهِ مِنها شِفاءُ
كأنَّ خَبيأةً مِن بَيْتِ رَأسٍ
يكونُ مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ
على أنْيابِها أو طَعْمُ غَضٍّ
مِن التُّفَّاحِ هَصَّرَهُ اجْتِناءُ
إذا ما الأشْرِباتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا
فهُنَّ لِطَيِّبِ الرَّاحِ الفِداءُ
وكانَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه يَنْهى عنِ الشِّعْرِ إلَّا ما دَعا إلى مَكارِمِ الأخْلاقِ، فدَخَلَ يَوْمًا المَسجِدَ فإذا حسَّانُ يُنشِدُ فيه، فقالَ: أرُغاءً كرُغاءِ البَكْرِ؟ فقالَ حسَّانُ: دَعْني عنك يا عُمَرُ، فواللهِ إنَّك لتَعلَمُ لقد كنْتُ أُنْشِدُ في هذا المَسجِدِ مَن هو خَيْرٌ مِنك فما يُغَيِّرُ عليَّ ذلك! قالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ [364] يُنظر: ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (1/ 28)، ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/76). .

انظر أيضا: