موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الرَّابِعُ: الرِّثاءُ


لمَّا كانَ شِعْرُ الرِّثاءِ تُحرِّكُه عاطِفةٌ صادِقةٌ حَزينةٌ على فَقْدِ المَيِّتِ، كانَ الرِّثاءُ مِن أصْدَقِ الشِّعْرِ لَهْجةً؛ فإنَّ الرَّاثيَ لا يَطمَعُ مِن المَيِّتِ في عَطاءٍ أو مُكافأةٍ.
وقد كانَ طَبيعيًّا أن تَنْفتِقَ قَريحةُ الشُّعَراءِ بشيءٍ مِن الشِّعْرِ في رِثاءِ مَوْتاهم، سَواءٌ في الجاهِليَّةِ أو الإسْلامِ، لِهذا لم يَمنَعِ الإسْلامُ مِن شِعْرِ الرِّثاءِ، وإنَّما قيَّدَه بقَيْدِ الشَّرْعِ، فلا بأسَ أن يَذكُرَ الشَّاعِرُ حُزْنَه وأسَفَه على فَقْدِ المَيِّتِ، وأن يَبْكيَ عليه ويُعدِّدَ مَآثِرَه ومَفاخِرَه، على عادةِ الشُّعَراءِ في كلِّ عَصْرٍ وأوانٍ. إلَّا أنَّه لا يَجوزُ في ذلك الشِّعْرِ التَّبرُّمُ مِن قَضاءِ اللهِ وقَدَرِه.
وقد ألْهَبَ هذا الغَرَضَ مِن الشِّعْرِ في عَصْرِ صَدْرِ الإسْلامِ كَثْرةُ المَغازي والسَّرايا والفُتوحِ الَّتي تَرْتقي فيها أرْواحُ كَثيرٍ مِن الشُّهداءِ مِن المُسْلِمينَ، ويَسقُطُ فيها الكَثيرُ مِن قَتْلى الكافِرينَ، وكلٌّ مِن الفَريقينِ كانَ يَنظِمُ القَصائِدَ في رِثاءِ مَوْتاه، ويَبْكي عليهم بالقَوافي، لكنَّ رِثاءَ الكُفَّارِ اخْتَلفَ عن رِثاءِ المُسْلِمينَ؛ فالكُفَّارُ كانوا يَرْثونَ مَوْتاهم بالبُكاءِ والعَويلِ والجَزَعِ، وأمَّا المُسْلِمونَ فكانَ رِثاؤُهم مَزيجًا مِن ذِكْرِ هَوْلِ المُصيبةِ الَّتي حلَّتْ وتَعدادِ مَناقِبِ الشَّهيدِ، وبَيانِ أنَّ الشُّهَداءَ أحْياءٌ عنْدَ اللهِ، فهُمْ لم يَفقِدوا مِنهم إلَّا أجْسادًا، ثُمَّ يَلْجَؤونَ إلى اللهِ بالدُّعاءِ للشُّهَداءِ، في اسْتِسْلامٍ تامٍّ لقَضاءِ اللهِ ورِضًا بما قَضاه.
وأصْدَقُ ذلك الرِّثاءِ لَهْجةً وعاطِفةً، وأكْثَرُه حُزْنًا: ذلك الشِّعْرُ الَّذي أنْشَدَه الشُّعَراءُ في رِثاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فقدْ كانَ مَوْتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فاجِعةً طاشَتْ بالعُقولِ وأعْضَلَتِ القُلوبَ، وأظْلَمَتْ بها البِلادُ واشْرَأبَّتْ بها الفِتَنُ.
ومِنه قَوْلُ بعضِ الأعْرابِ يَرْثي النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
يا خَيْرَ مَن دُفِنَتْ في القاعِ أعْظُمُهُ
فطابَ مِن نَشْرِهِنَّ القاعُ والأكَمُ
رُوحي الفِداءُ لقَبْرٍ أنتَ ساكِنُهُ
فيه العَفافُ وفيهِ الجُودُ والكَرَمُ
وفيه شَمْسُ التُّقى والدِّينِ قد غَرَبَتْ
مِن بعْدِ ما أشْرَقَتْ مِن نورِهِ الظُّلَمُ
حاشا لوَجْهِكَ أن يَبْلى وقد هُدِيَتْ
بالشَّرْقِ والغَرْبِ مِن أنْوارِهِ الأُمَمُ
لَئِنْ رَأيْناهُ قَبْرًا إنَّ باطِنَه
لرَوْضةٌ مِن رِياضِ الخُلْدِ تَبْتسِمُ
طافَتْ بهِ مِن نوَاحيهِ مَلائِكةٌ
تَغْشاهُ في كُلِّ ما يَوْمٍ وتَزْدحِمُ [353] يُنظر: ((مرآة الزمان)) لسبط ابن الجوزي (4/262)، ((الحماسة المغربية)) (4/214).
وقالَ كَعْبُ بنُ مالِكٍ:
ونائِحةٍ حَرَّى تَحرَّقُ بالبُكا
وتَلطِمُ مِنها خَدَّها والمُقلَّدا
على هالِكٍ بعْدَ النَّبيِّ مُحمَّدٍ
ولو عَقَلَتْ لم تَبْكِ إلَّا مُحمَّدا
فُجِعْنا بخَيْرِ النَّاسِ حَيًّا ومَيِّتًا
وأدْناهُ مِن أهْلِ السَّمواتِ مَقْعَدا
وأعْظَمِهِ فَقْدًا على كُلِّ مُسلِمٍ
وأعْظَمِهم في النَّاسِ كُلِّهمُ يَدا
إذا كانَ مِنه القَوْلُ كانَ مُوفَّقًا
وإن كانَ حَيًّا كانَ نورًا مُجَدَّدا
وقد وازَنَتْ أخْلاقُهُ المَجْدَ والتُّقى
فلم تَلْقَهُ إلَّا رَشيدًا ومُرشِدا [354] ((ديوان كعب بن مالك)) (ص: 198).
وقالَ كَعْبٌ أيضًا في رِثاءِ حَمْزةَ بنِ عبْدِ المُطَّلِبِ [355] يُنظر: ((سيرة ابن هشام)) (2/157)، ((عيون الأثر)) لابن سيد الناس (2/ 48). :
طَرَقَتْ هُمومُك فالرُّقادُ مُسَهِّدُ
وجَزِعْتَ أن سُلِخَ الشَّبابُ الأغْيَدُ
ودَعَتْ فُؤادَك لِلهَوى ضَمْريَّةٌ
فهَواك غَوْرِيٌّ وصَحْوُك مُنجِدُ
فدَعِ التَّمادِيَ في الغَوايَةِ سادِرًا
قد كنْتَ في طَلَبِ الغَوايةِ تُفنَدُ
ولقدْ أنَى لك أن تَناهى طائِعًا
أو تَسْتَفيقَ إذا نَهاك المُرشِدُ
ولقدْ هُدِدْتُ لفَقْدِ حَمْزةَ هَدَّةً
ظَلَّتْ بَناتُ الجَوْفِ مِنها تُرعَدُ
ولوَ أنَّهُ فُجِعَتْ حِراءُ بمِثلِهِ
لَرَأيْتُ راسيَ صَخْرِها يَتَبدَّدُ
قَرْمٌ تَمَكَّنَ في ذُؤابةِ هاشِمٍ
حيثُ النُّبوَّةُ والنَّدى والسُّؤْدُدُ
والعاقِرُ الكومَ الجِلادَ إذا غَدَتْ
ريحٌ يَكادُ الماءُ مِنها يَجمُدُ
والتَّارِكُ القِرْنَ الكَمِيَّ مُجَدَّلًا
يَوْمَ الكَريهةِ والقَنا يَتَقَصَّدُ
وتَراهُ يَرفُلُ في الحَديدِ كأنَّهُ
ذو لِبْدَةٍ شَثْنُ البَراثِنِ أرْبَدُ
عَمُّ النَّبيِّ مُحمَّدٍ وصَفيُّهُ
وَرَدَ الحِمَامَ فَطابَ ذاك المَوْرِدُ
وأتى المَنِيَّةَ مُعْلِمًا في أُسْرةٍ
نَصَروا النَّبيَّ ومِنهمُ المُسْتَشْهَدُ

انظر أيضا: