موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّالِثُ: القَوْلُ بضَعْفِ الشِّعْرِ في عَصْرِ صَدْرِ الإسْلامِ


ذَكَرَ بعضُ الباحِثينَ أنَّ الشِّعْرَ أصابَه الضَّعْفُ والوَهْنُ والخُمولُ عنْدَ مَجيءِ الإسْلامِ، وأنَّ المُسْلِمينَ انْصَرفوا عنِ الشِّعْرِ وتَرَكوا رِوايتَه والعِنايةَ به حتَّى أصابَه الوَهْنُ والضَّعْفُ، وأنَّ الشُّعَراءَ أهْمَلوا الشِّعْرَ؛ فمِنهم مَن صارَ مُقِلًّا، ومِنهم مَن تَرَكَ الشِّعْرَ جُمْلةً.
واتَّكَؤوا في ذلك على قَوْلِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: "كانَ الشِّعْرُ عِلمَ قَوْمٍ لم يكنْ لهم عِلمٌ أصَحُّ مِنه"، وأنَّ المُسْلِمينَ في بدايةِ الأمْرِ كانوا في شُغْلٍ عن الشِّعْرِ ورِوايتِه؛ قالَ ابنُ سَلَّامٍ: "فجاءَ الإسْلامُ فتَشاغلَتْ عنه العَربُ، وتَشاغَلوا بالجِهادِ وغَزْوِ فارِسَ والرُّومِ، ولَهَتْ عنِ الشِّعْرِ ورِوايتِه، فلمَّا كَثُرَ الإسْلامُ وجاءَتِ الفُتوحُ واطْمأنَّتِ العَربُ بالأمْصارِ راجَعوا رِوايةَ الشِّعْرِ، فلم يَؤولوا إلى دِيوانٍ مُدَوَّنٍ ولا كِتابٍ مَكْتوبٍ، وألَّفوا ذلك وقد هلَكَ مِن العَربِ مَن هلَكَ بالمَوْتِ والقَتْلِ، فحَفِظوا أقَلَّ ذلك وذَهَبَ عليهم مِنه كَثيرٌ" [332] (( طبقات فحول الشعراء)) لابن سلام الجمحي (1/25). .
كما عضَّدوا زَعْمَهم ذلك بأنَّ الإسْلامَ قد حَطَّ مِن شأنِ الشِّعْرِ والشُّعَراءِ، ووَصَفَهم بالغَوايةِ والانْحِرافِ عنِ الجادَّةِ في قَوْلِه تَعالى:
ويقولونَ: إنَّ الإسْلامَ قد حَظَرَ بعضَ الأغْراضِ الَّتي تَقدَحُ القَرائِحَ وتُثيرُ المَلَكةَ وتَجعَلُ الشِّعْرَ مُتأجِّجًا يَلتَهِبُ الْتِهابًا، كذِكْرِ الخَمْرِ، والتَّفَحُّشِ بالغَزَلِ، وذِكْرِ النِّساءِ، والحَميَّةِ والعَصَبيَّةِ.
كما أنَّ الإسْلامَ قد مَنَعَ بعضًا مِن بَواعِثِ الشِّعْرِ الَّتي كانَتْ تُعينُ الشَّاعِرَ على تَحْسينِ شِعْرِه وتَجْويدِه، كالعَطايا والهِباتِ والمُكافآتِ؛ فقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((إذا رَأيْتُم المَدَّاحينَ فاحْثوا في وُجوهِهم التُّرابَ )) [333] أخرجه مسلم (3002). ، وكانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يَزجُرُ النَّاسَ عن المَدائِحِ الكاذِبةِ.
ولأنَّ الشِّعْرَ بابُه الكَذِبُ ومِحْرابُه الشَّرُّ، فلِذلك نَبَغَ فيه الجاهِليُّونَ وأجادوا، ومِن كَلامِهم: "أعْذَبُ الشِّعْرِ أكْذَبُه"، فلمَّا أسْلَمَ الشُّعَراءُ وكَفُّوا ألْسِنتَهم عنِ الشَّرِّ وأقاموها في مَحاريبِ الخيْرِ، نزَلَ شِعْرُهم هابِطًا وقَلَّتْ جَودتُه، وقد قيلَ لحَسَّانَ: لانَ شِعْرُك -أو هَرِمَ شِعْرُك- في الإسْلامِ يا أبا الحُسامِ، فقالَ: يا بنَ أخي، إنَّ الإسْلامَ ‌يَحجُزُ ‌عن ‌الكَذِبِ، وإنَّ الشِّعْرَ يَزينُه الكَذِبُ [334] ينظر: ((الاستيعاب)) لابن عبد البر (1/346). .
يقولُ الأصْمَعيُّ: (‌الشِّعْرُ ‌نَكَدٌ بابُه الشَّرُّ، فإذا دَخَلَ في الخَيْرِ ضَعُفَ، هذا حسَّانُ بنُ ثابِتٍ فَحْلٌ مِن فُحولِ الجاهِليَّةِ، فلمَّا جاءَ الإسْلامُ سَقَطَ شِعْرُه) [335] ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/296). .
كذلك اسْتَخدَمَ الإسْلامُ الشِّعْرَ لنَشْرِ الدَّعْوةِ والدِّفاعِ عنِ الدِّينِ فقط، وتَرَكَ سائِرَ فُنونِ الشِّعْرِ، كما أنَّه بذلك جَعَلَ اتِّجاهَ الشِّعْرِ دينيًّا لا مَعْنويًّا، والشِّعْرُ ألْصَقُ بالدُّنيا أكْثَرَ مِنه بالدِّينِ.
هذه هي الأدَلَّةُ والأسْبابُ الَّتي يَأخُذُ بها القائِلونَ بضَعْفِ الشِّعْرِ الإسْلاميِّ، والصَّوابُ أنَّنا إذا وازنَّا بيْنَ الشِّعْرِ الإسْلاميِّ وشِعْرِ فُحولِ الشُّعَراءِ في الجاهِليَّةِ فسنَجِدُ فارِقًا في الجَودةِ والنَّظْمِ، وأنَّ شُعَراءَ الجاهِليَّةِ فاقوا شُعَراءَ الإسْلامِ في بعضِ الأغْراضِ، ولكنَّ هذا لا يَعْني أنَّ الشِّعْرَ الإسْلاميَّ قد انْحَدَرَ مِن القِمَّةِ إلى الحَضيضِ، وأنَّ فَتْرةَ صَدْرِ الإسْلامِ كانَتْ فَجوةً مُنْقطِعةً مَلأها الصَّمْتُ والخُمولُ، وأنَّها خالِيةٌ مِن الفُحولِ والشُّعَراءِ المُجيدينَ، بل إنَّ الشِّعْرَ فيها كانَ قَويًّا، واسِعَ الأغْراضِ، مُتعدِّدَ المَوْضوعاتِ، قَويَّ الأسْلوبِ، مُحْكَمَ النَّسْجِ، تامَّ السَّبْكِ، قَويَّ البِنْيةِ، اسْتَحدَثَ الإسْلامُ فيه أغْراضًا وهذَّبَ فيه أُخرى.
فوَصْفُ الشِّعْرِ في هذه الحِقبةِ الزَّمانيَّةِ بالضَّعْفِ هو تَجاوُزٌ ومَيْلٌ عنِ الصَّوابِ، ويَشهَدُ لِهذا أنَّ شُعَراءَ المُسْلِمينَ كانوا يَفوقونَ شُعَراءَ الجاهِليَّةِ في الأغْراضِ الَّتي دَعَمَها الإسْلامُ وأجَّجَ نيرانَها، كالفَخْرِ والحَماسةِ والهِجاءِ ونَحْوِ ذلك، فما رَدَّ شاعِرٌ مُسلِمٌ على هِجاءِ شاعِرٍ مِن الكُفَّارِ إلَّا ألْجَمَه وأسْكَتَه، وكانَ هِجاؤُه خَيْرًا مِن هِجائِه، رَغْمَ أنَّه ما زالَ على الجاهِليَّةِ، لم يَتقيَّدْ بحُدودِ الإسْلامِ ولم يَنْتَهِ عن دَوافِعِ وبَواعِثِ الشِّعْرِ، كالخَمْرِ والتَّشْبيبِ ونَحْوِ ذلك.
ودَليلُ ذلك أنَّ وَفْدَ تَميمٍ لمَّا أتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفيهم الأقْرَعُ بنُ حابِسٍ وعُيَيْنةُ بنُ حِصْنٍ وغيْرُهما، قالوا: يا مُحمَّدُ، جِئْناك نُفاخِرُك، فأْذَنْ لخَطيبِنا وشاعِرِنا، فأذِنَ لخَطيبِهم فتَكلَّمَ، ثُمَّ أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثابِتَ بنَ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ فرَدَّ عليه، ثُمَّ قامَ شاعِرُهم الزِّبْرقانُ بنُ بَدْرٍ، فأنْشَدَ، ثُمَّ قامَ حسَّانُ فرَدَّ عليهم، ثُمَّ خرَجَ الوَفْدُ مِن عنْدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ الأقْرَعُ لعُيَيْنةَ: أسَمِعْتَ ما سَمِعْتُ، ما سَكَتَ حتَّى ظَنَنْتُ أنَّ سَقْفَ البَيْتِ سوف يَقَعُ علينا! فقالَ عُيَيْنةُ: أوَجَدْتَ ذلك؟ واللهِ لقدْ تكلَّمَ شاعِرُهم فما سَكَتَ حتَّى أظْلَمَ عليَّ البَيْتُ، وحيلَ بيْني وبيْنَ النَّظَرِ إليك! وقالَ الأقْرَعُ: إنَّ لِهذا الرَّجُلِ لشأنًا، ثُمَّ دَخَلا بعْدَ ذلك في الإسْلامِ [336] يُنظر: ((تاريخ المدينة)) لابن شبة (2/524). !
فلو كانَ الإسْلامُ سَبَبًا لضَعْفِ الشِّعْرِ لتَفوَّقَ شاعِرُ بَني تَميمٍ، وهو ما زالَ جاهليًّا لم يُسلِمْ بعْدُ.
فإن كانَتْ قد انْدَثرَتْ دَواعٍ ودَوافِعُ في ظِلِّ الإسْلامِ، فهناك دَواعٍ ودَوافِعُ أُخرى قد نشِطَتْ، وإن كانَ هناك أغرْاضٌ أماتَها الإسْلامُ فهناك أغْراضٌ أُخرى اسْتَحدَثَها وأحْياها، وإن كانَ هناك شُعَراءُ قد خمَلَ ذِكْرُهم وضَعُفَ شِعْرُهم فهناك شُعَراءُ أُخَرُ قد فَحُلَ شِعْرُهم واسْتَحكَمَتْ مَلَكتُهم [337] ينظر: ((مقدمة لدِراسة الأدب الإسلامي)) ليحيى الجبوري (ص:63). .
وأمَّا مَسألةُ الخَيْرِ والشَّرِّ وأنَّ الشِّعْرَ بابُه الشَّرُّ فهذا أمْرٌ غيْرُ مُسلَّمٍ به؛ فلا يَقبَلُ عَقْلٌ أن يكونَ النَّجاحُ والقُوَّةُ مَقْصورَينِ على مَوْضوعاتٍ مُعيَّنةٍ إذا خَرَجَ عنها الشَّاعِرُ نَزَلَ شِعْرُه ساقِطًا.
ولو كانَ ذلك الأمْرُ صَحيحًا لَما نَبَغَ شِعْرُ الجاهِليِّينَ الَّذين سَخَّروا شِعْرَهم في الخَيْرِ، كزُهَيْرِ بنِ أبي سُلْمى وأمَيَّةَ بنِ أبي الصَّلْتِ وغيْرِهما؛ فإنَّ أكْثَرَ شِعْرِهما في الحِكْمةِ والإصْلاحِ ونَحْوِ ذلك.
وأمَّا الخَبَرُ الَّذي يُرْوى عن حسَّانَ بنِ ثابِتٍ، وهو قَوْلُه: إنَّ الشِّعْرَ يَزينُه الكَذِبُ، فهذا خَبَرٌ مَشْكوكٌ في صِحَّتِه؛ إذ يَتعارَضُ معَ مَذهِبِ حسَّانَ في جَودةِ الشِّعْرِ الَّذي قَرَّرَه بقَوْلِه:
وإنَّ أحْسَنَ بَيْتٍ أنتَ قائِلُه
‌بَيْتٌ ‌يُقالُ ‌إذا أنْشَدْتَهُ صَدَقا
وإنِّما الشِّعْرُ لُبُّ المَرْءِ يَعرِضُه
على المَجالِسِ إنْ كَيْسًا وإنْ حُمُقا [338] ((ديوان حسان بن ثابت)) (ص: 174).
وأمَّا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جعَلَ اتِّجاهَ الشِّعْرِ دينيًّا لا دُنيويًّا، فهذا سَبَبٌ في تَقْويةِ الشِّعْرِ لا إضْعافِه؛ فإنَّ الأُدَباءَ اتَّفَقوا على أنَّ أفْضَلَ الشِّعْرِ ما كانَ خارِجًا عن اعْتِقادٍ وصِدْقٍ؛ لهذا كلَّما ضَعُفَتْ عاطِفةُ الشَّاعِرِ أو تَلاشَتْ أثَّرَ ذلك سَلْبًا في الشِّعْرِ، بدَليلِ أنَّ مَدائِحَ الشُّعَراءِ مِن أجْلِ التَّكسُّبِ والعَطايا لا تُضاهي مَدائِحَهم الصَّادِقةَ لمَن يَسْتحقُّونَ المَديحَ؛ ولِذا فإذا كانَ الشَّاعِرُ يَرْجو بشِعْرِه نَصْرَ دينِه ورَفْعَ رايتِه، كانَ ذلك أقْوَى لَعاطِفتِه، وأكْثَرَ إثارةً وتَحْريضًا على تَحْبيرِ الشِّعْرِ وتَحْسينِه.

انظر أيضا: