موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الأوَّلُ: الخَطابةُ


الخُطبةُ في اللُّغةِ: اسمٌ للكَلامِ الَّذي يَتكلَّمُ به الخَطيبُ [272] ينظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (1/361). .
وفي الاصْطِلاحِ: فَنُّ مُخاطَبةِ الجُمْهورِ الَّذي يَعْتمِدُ على الإقْناعِ والاسْتِمالةِ والتَّأثيرِ، فهي كَلامٌ بَليغٌ ‌يُلْقى ‌في ‌جَمْعٍ ‌مِن ‌النَّاسِ لإقْناعِهم برَأيٍ، أو اسْتِمالتِهم إلى مَبدَأٍ، أو تَوْجيهِهم إلى ما فيه الخَيْرُ لهم في دُنيا أو آخِرةٍ [273] ينظر: ((قصة الأدب في الحجاز)) لعبد الله عبد الجبار ومحمد عبد المنعم خفاجي (ص:299). .
 وقد كانَ للخُطَباءِ في الجاهِليَّةِ مَنزِلةٌ عاليةٌ جدًّا؛ فالخَطيبُ لِسانُ القَبيلةِ والمُنافِحُ عنها، وحامي عِرْضِها بلِسانِه، فكانَتِ القَبيلةُ الخالِيةُ مِن الخُطَباءِ عُرْضةً للقَبائِلِ الأخرى؛ لذلك عَلَتْ مَنزِلةُ الخَطيبِ، وراحَ الشُّعَراءُ يَفْتخِرونَ بالخَطابةِ، ويَتغنَّونَ بها فيما يَتغنَّونَ به مِن المَفاخِرِ، وقد زادَ الخَطابةَ رِفْعةً أنَّها كانَتْ مِهْنةَ الأشْرافِ والرُّؤَساءِ والنَّابِهينَ مِن القَبائِلِ [274] ينظر: ((قصة الأدب في الحجاز)) لعبد الله عبد الجبار ومحمد عبد المنعم خفاجي (ص:300). .
وقد كانَ الشَّاعِرُ أوَّلَ الأمْرِ مُقدَّمًا على الخَطيبِ؛ إذِ الشِّعْرُ أصْعَبُ نَظْمًا وتَأليفًا، ولا يَتأتَّى لكلِّ أحَدٍ، غيْرَ أنَّ الشُّعَراءَ سَلَكوا به غيْرَ سَبيلِ الجادَّةِ، فصاروا يَسْتَجْدونَ به ويَتَكسَّبونَ بمَدْحِ العَظيمِ والحَقيرِ، فعَدَلَ النَّاسُ عن الشُّعَراءِ إلى الخُطَباءِ.
قالَ أبو عَمْرِو بنُ العَلاءِ: (كانَ الشَّاعِرُ في الجاهِليَّةِ يُقَدَّمُ على الخَطيبِ؛ لفَرْطِ حاجتِهم إلى الشِّعْرِ الَّذي يُقَيِّدُ عليهم مَآثِرَهم، ويُفخِّمُ شأنَهم، ويُهوِّلُ على عَدُوِّهم ومَن غَزاهم، ويُهَيِّبُ مِن فُرْسانِهم، ويُخوِّفُ مِن كَثْرةِ عَدَدِهم، ويَهابُهم شاعِرُ غيْرِهم فيُراقِبُ شاعِرَهم، فلمَّا كَثُرَ الشِّعْرُ والشُّعَراءُ، واتَّخَذوا الشِّعْرَ مَكْسَبةً ورَحَلوا إلى السُّوقةِ، وتَسرَّعوا إلى أعْراضِ النَّاسِ، صارَ الخَطيبُ عنْدَهم ‌فوْقَ ‌الشَّاعِرِ؛ ولِذلك قالَ الأوَّلُ: «الشِّعْرُ أدْنى مُروءةِ السَّرِيِّ، وأسْرى مُروءةِ الدَّنِيِّ») [275] ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/202). .
وقد بلَغَتْ مَنزِلةُ الخَطابةِ والخَطيبِ أن كانَ الشُّعَراءُ أنْفُسُهم يَتَفاخَرونَ بأنَّ فيهم خَطيبًا مُفوَّهًا، كما قالَ قَيْسُ بنُ عاصِمٍ المِنْقَريُّ مُفْتخِرًا بنفْسِه وقَبيلتِه:
‌إنِّي ‌امْرُؤٌ ‌لا ‌يَعْتَري خُلُقي
دَنَسٌ يُفنِّدُه ولا أَفْنُ
مِن مِنقَرٍ في بَيْتِ مَكْرُمةٍ
والأصْلُ يَنبُتُ حَوْلَه الغُصْنُ
خُطَباءُ حينَ يَقومُ قائِلُهم
بِيضُ الوُجوهِ مَصاقِعٌ لُسْنُ
لا يَفْطَنونَ لعَيْبِ جارِهمُ
وهُمُ لحِفْظِ جِوارِهم فُطْنُ [276] ينظر: ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/188)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 136).
مَوْضوعاتُ الخَطابةِ:
اعْتَنى الجاهِليُّونَ بالخُطبةِ أَكْثَرَ ممَّا اعْتَنَوا به مِن غيْرِها مِن سائِرِ الفُنونِ النَّثْريَّةِ؛ فكانَ الخُطَباءُ يَحفِلونَ بخُطَبِهم، ويَتَخيَّرونَ لها أشْرَفَ المَعاني، وأقْوى الألْفاظِ، وأشَدَّها وَقْعًا على القُلوبِ؛ ليكونَ تَأثيرُها أعْظَمَ، ويقالُ: إنَّهم كانوا يَخطُبونَ، وعليهم العَمائِمُ، وبأيْديهم المَخاصِرُ، ويَعْتمِدونَ على الأرْضِ بالقِسِيِّ، ويُشيرونَ بالعِصِيِّ والقَنا، راكِبينَ أو واقِفينَ على مُرْتفَعٍ مِن الأرْضِ [277] يُنظر: ((في تاريخ الأدب الجاهلي)) لعلي الجندي (ص: 264). .
وهذا لشِدَّةِ تَأثيرِ الخُطبةِ وعَظيمِ وَقْعِها على النُّفوسِ، كما أنَّ الخَطابةَ اسْتُعمِلَتْ في أغْراضٍ كَثيرةٍ؛ مِنها:
1- المُفاخَراتُ والمُنافَراتُ:
عَرَفَ الجاهِليُّونَ لَوْنًا مِن الهِجاءِ والتَّفاخُرِ فيما بيْنَهم، وهو المُفاخَراتُ والمُنافَراتُ، وهو مُحاوَرةٌ كَلاميَّةٌ بيْنَ رَجُلَينِ أو أَكْثَرَ، وفيها يَتَباهى كلٌّ مِن المُتَفاخِرَينِ بالأحْسابِ والأنْسابِ، ويَشيدُ بما له مِن خِصالٍ، وما قامَ به مِن جَلائِلِ الأعْمالِ، وكانَتْ تَحدُثُ بيْنَ القَبائِلِ كرَبيعةَ ومُضَرَ، وبَكْرٍ وتَغْلِبَ مِن رَبيعةَ، وقَيْسٍ وتَميمٍ مِن مُضَرَ، وقد تَغَلْغَلتِ المُفاخَراتُ في بُطونِهم حتَّى كانَتْ بيْنَ ابنَيِ العَمِّ في العَشيرةِ الواحِدةِ.
وفي أكْثَرِ الأحْيانِ كانَتِ المُفاخَراتُ تَشتدُّ إلى دَرَجةِ أن يَتَحاكَمَ المُتَفاخِرانِ إلى رَجُلٍ حَكيمٍ يَفصِلُ بيْنَهما، فرُبَّما فصَلَ بيْنَهما وفَضَّلَ أحَدَهما على الآخَرِ، ويُسمَّى الغالِبُ حينَئذٍ نافِرًا والمَغلوبُ مَنْفورًا، ورُبَّما عَدَلَ عن التَّفْضيلِ إلى الإصْلاحِ، ويَقومُ في القَوْمِ خَطيبًا، يَحُثُّهم على الأخُوَّةِ والوَحْدةِ، ونَبْذِ الفُرقةِ والاخْتِلافِ [278] يُنظر: ((في تاريخ الأدب الجاهلي)) لعلي الجندي (ص: 263)، ((قصة الأدب في الحجاز)) لعبد الله عبد الجبار ومحمد عبد المنعم خفاجي (ص: 317). .
ومن تلك المُنافَراتِ أنَّ قُرَيشًا نافَرَتْ خُزاعةَ، فاحْتَكموا إلى هاشِمِ بنِ عبْدِ مَنافٍ، فقامَ خَطيبًا وقالَ: (أيُّها النَّاسُ: نحن آلُ إبْراهيمَ، وذُرِّيَّةُ إسْماعيلَ، وبَنو النَّضْرِ بنِ كِنانةَ، وبَنو قُصَيِّ بنِ كِلابٍ، وأرْبابُ مَكَّةَ، وسُكَّانُ الحَرَمِ، لنا ذِروةُ الحَسَبِ، ومَعدِنُ المَجْدِ، ولكلٍّ في كلٍّ حِلْفٌ يَجِبُ عليه نُصْرتُه، وإجابةُ دَعْوتِه، إلَّا ما دَعا إلى عُقوقِ عَشيرةٍ، وقَطْعِ رَحِمٍ.
يا بَني قُصَيٍّ: أنتم كغُصْنَيْ شَجَرةٍ، أيُّهما كُسِرَ أوْحَشَ صاحِبَه، والسَّيْفُ لا يُصانُ إلَّا بغِمْدِه، ورامي العَشيرةِ يُصيبُه سَهْمُه، ومَن أمْحَكَه اللَّجاجُ أخْرَجَه إلى البَغْيِ.
أيُّها النَّاسُ: الحِلْمُ شَرَفٌ، والصَّبْرُ ظَفَرٌ، والمَعْروفُ كَنْزٌ، والجودُ سُؤْدُدٌ، والجَهْلُ سَفَهٌ، والأيَّامُ دُوَلٌ، والدَّهْرُ ذو غِيَرٍ، والمَرْءُ مَنْسوبٌ إلى فِعلِه ومأخوذٌ بعَمَلِه، فاصْطَنِعوا المَعْروفَ تَكْسِبوا الحَمْدَ، ودَعوا الفُضولَ تَجانَبْكم السُّفَهاءُ، وأكْرِموا الجَليسَ يَعمُرْ ناديكم، وحاموا الخَليطَ يُرغَبْ في جِوارِكم، وأنْصِفوا مِن أنْفُسِكم يُوثَقْ بِكم، وعليكم بمَكارِمِ الأخْلاقِ فإنَّها رِفعةٌ، وإيَّاكم والأخْلاقَ الدَّنيَّةَ فإنَّها تُضيِّعُ الشَرَفَ وتَهدِمُ المَجْدَ، وإنَّ نَهْنَهةَ الجاهِلِ أهْوَنُ مِن جَريرتِه، ورَأسُ العَشيرةِ يَحمِلُ أثْقالَها، ومَقامُ الحَليمِ عِظَةٌ لِمَن انْتفَعَ به). فقالَتْ قُرَيشٌ: رَضينا بك أبا نَضلَةَ [279] ((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي صفوت (1/ 75)، ((في تاريخ الأدب الجاهلي)) لعلي الجندي (ص: 263). .
2- خُطَبُ إصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ وإطْفاءِ نائِرةِ الحَرْبِ:
كانَ للخُطَباءِ أثَرٌ كَبيرٌ في إخْمادِ الفِتَنِ والحُروبِ الَّتي اسْتَشْرَتْ بيْنَ القَبائِلِ والبُطونِ، فرُبَّما أوْقَفَتِ الكَلِمةُ حَرْبًا ضَروسًا قبْلَ بدايتِها، كما فَعَلَ هاشِمُ بنُ عبْدِ مَنافٍ حينَ احْتَكمَتْ إليه قُريْشٌ وخُزاعةُ، وكصَنيعِ هَرِمِ بنِ قُطْبةَ الفَزاريِّ حينَ تَنافَرَ إليه عامِرُ بنُ الطُّفَيلِ وعَلْقَمةُ بنُ عُلاثةَ.
كما أنَّ الخُطَباءَ كانوا يُساعِدونَ في حَقْنِ الدِّماءِ وتَثْبيتِ السِّلْمِ بيْنَ الفَريْقَينِ، فكما أنْشَدَ زُهَيْرُ بنُ أبي سُلْمى مُعلَّقتَه في الصُّلْحِ بيْنَ عَبْسٍ وذُبْيانَ، كذلك كانَ قَيْسُ بنُ خارِجةَ، حينَ قامَ خَطيبًا بعْدَ انْتِهاءِ الحَرْبِ وعَقْدِ الصُّلْحِ، فخَطبَ خُطبةً عَصْماءَ، قامَ فيها مِن طُلوعِ الشَّمْسِ إلى غُروبِها، يَأمُرُ بالتَّواصُلِ ويَنْهى عن التَّقاطُعِ، دونَ أن يُكرِّرَ كَلِمةً أو يُعيدَ مَعنًى، فسُمِّيَتْ "العَذْراءَ"؛ لأنَّه كانَ أبا عُذْرِها [280] ينظر: ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/281)، ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 37). .
3- خُطَبُ المُناسَباتِ الاجْتِماعيَّةِ كالزَّواجِ والإصْهارِ:
اعْتادَ العَربُ أن يَقومَ في مَجلِسِ الزَّواجِ أحَدُ أقارِبِ الخاطِبِ، فيَخطُبَ في الحاضِرينَ، يَذكُرُ لهم مَناقِبَ الخاطِبِ ومَآثِرَه، ويَعرِضَ أمْرَ الخِطبةِ بيْنَ أيْديهم، فيُجيبُه إلى ذلك خَطيبٌ آخَرُ مِن أهْلِ المَخْطوبةِ. وقدِ اعْتادَ العَربُ أن يَدخُلَ الإطْنابُ خُطبةَ الطَّالِبِ، في حينِ تَعْتَمِدُ خُطبةُ الرَّدِّ على الإيجازِ.
ومِن أمْثِلةِ هذا خُطبةُ أبي طالِبٍ حينَ أرادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَخطُبَ خَديجةَ، فقامَ أبو طالِبٍ خَطيبًا، وقالَ:
"الحَمْدُ للهِ الَّذي جَعَلَنا مِن ذُرِّيَّةِ إبْراهيمَ، وزَرْعِ إسْماعيلَ، وضِئْضِئِ مَعَدٍّ، وعُنصُرِ مُضَرَ، وجَعَلَنا حَضَنةَ بَيْتِه، وسُوَّاسَ حِزْبِه، وجَعَلَ لنا بَيْتًا مَحْجوجًا، وحَرَمًا آمِنًا، وجَعَلَنا الحُكَّامَ على النَّاسِ. ثُمَّ إنَّ ابنَ أخي هذا مُحمَّدَ بنَ عبْدِ اللهِ لا يُوزَنُ به رَجُلٌ إلَّا رَجَحَ به، فإن كانَ في المالِ قُلٌّ، فإنَّ المالَ ظِلٌّ زائِلٌ، وأمْرٌ حائِلٌ، ومُحمَّدٌ مَن قد عَرَفْتُم قَرابتَه، وقد خَطَبَ خَديجةَ بِنْتَ خُوَيِلدٍ، وبَذَلَ لها مِن الصَّداقِ ما آجِلُه وعاجِلُه مِن مالي، وهو واللهِ بعْدَ هذا له نَبَأٌ عَظيمٌ، وخَطَرٌ جَليلٌ" [281] ((إمتاع الأسماع)) للمقريزي (6/ 29)، ((المواهب اللدنية بالمنح المحمدية)) للقسطلاني (1/ 117). .
4- خُطَبُ الإرْشادِ والوَعْظِ:
وهي الخُطَبُ الَّتي كانَتْ تُلْقى في مَجامِعِ النَّاسِ وأسْواقِهم لإرْشادِهم لخَيْرٍ أو تَوْجيهِهم لمَعْروفٍ، وقد اشْتَهرَ في هذا النَّوْعِ مِن الخُطَبِ قُسُّ بنُ ساعِدةَ؛ فقد كانَ أُسْقُفًا لنَجْرانَ، وكانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وكانَ يَخطُبُ في النَّاسِ في سوقِ عُكاظٍ، ورآه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخطُبُ قبْلَ البَعثةِ. ومِن أشْهَرِ خُطَبِه: "يا أيُّها النَّاسُ، اجْتَمِعوا واسْمَعوا وعُوا، مَن عاشَ مات، ومَن ماتَ فات، وكلُّ ما هو آتٍ آت. ثُمَّ قالَ: أَمَّا بعْدُ، فإنَّ في السَّماءِ لخَبَرًا، وإنَّ في الأرْضِ لعِبَرًا، نُجومٌ تَغورُ، وبِحارٌ تَمورُ ولا تَغورُ، وسَقْفٌ مَرْفوع، ومِهادٌ مَوْضوع، أقْسَمَ قُسٌّ قَسَمًا باللهِ وما أَثِمَ، لتَطلُبُنَّ مِن الأمْرِ شَحَطًا، ولئِنْ كانَ بعضُ الأمْرِ رِضًا إنَّ للهِ في بعضِه سَخَطًا، وما بِهذا لَعِبًا، وإنَّ مِن وَراءِ هذا عَجَبًا. يا مَعشَرَ إياد، أين ثَمودُ وعاد، وأين الآباءُ والأجْداد؟ أين المَعْروفُ الَّذي لم يُشْكَر، والظُّلْمُ الَّذي لم يُنكَر؟ أقْسَمَ قُسٌّ قَسَمًا باللهِ وما أَثِمَ، إنَّ للهِ دينًا هو أَرْضى مِن دينٍ نحن عليه، ما بالُ النَّاسِ يَذهَبونَ فلا يَرجِعونَ، أنَعِموا فأقاموا، أو تُرِكوا فناموا؟!
في الذَّاهِبينَ الأوَّلي
نَ مِن القُرونِ لنا بَصائِرْ
لمَّا رأيْتُ مَوارِدًا
للمَوْتِ ليس لها مَصادِرْ
ورأيْتُ قَوْمي نَحْوَها
يَمْضي الأصاغِرُ والأكابِرْ
لا يَرجِعُ الماضي ولا
يَنْجو مِن الباقينَ غابِرْ
أيْقَنْتُ أنِّي لا مَحا
لةَ حيثُ صارَ القَوْمُ صائِرْ [282] ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 253)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/ 215).
5- خُطَبُ الحَماسةِ والتَّحْفيزِ للقِتالِ:
كانَ الخُطَباءُ قُبيلَ الغاراتِ والغَزَواتِ يَستَحِثُّونَ النَّاسَ على القِتالِ والثُّبوتِ، وعَدَمِ الفِرارِ والانْهزامِ، وكانَ لِذلك أعَظَمُ الأثَرِ في المُقاتِلينَ؛ فمِن ذلك خُطبةُ هانِئِ بنِ قَبيصةَ البَكْريِّ، يَحُضُّ قَوْمَه على القِتالِ يَوْمَ ذي قارٍ، وهو يَوْمٌ مَشْهورٌ مِن أيَّامِهم، فقالَ: (يا مَعشَرَ بَكْرٍ! هالِكٌ مَعْذور خَيْرٌ مِن ناجٍ فَرور، إنَّ الحَذَرَ لا يُغْني مِن القَدَر، وإنَّ الصَّبْرَ مِن أسْبابِ الظَفَر، المَنيَّةَ ولا الدَّنيَّةَ، اسْتِقبالُ المَوْتِ خَيْرٌ مِنِ اسْتِدبارِه، الطَّعْنُ في ثَغْرِ النُّحور أكْرَمُ مِنه في الأعْجازِ والظُّهور، يا آلَ بَكْرٍ قاتِلوا، فما للمَنايا مِن بُدٍّ) [283] ((أمالي القالي)) (1/ 169)، ((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي صفوت (1/ 37). .
خَصائِصُ الخَطابةِ في العَصْرِ الجاهِليِّ:
1- لم يُكثِرِ الجاهِليُّونَ مِن الخُطَبِ الطَّويلةِ، بل جاءَتْ أغْلَبُ خُطَبِهم قَصيرةً لعَدَمِ تَعدُّدِ الأغْراضِ فيها، وعَدَمِ وُجودِ الأسُسِ والقَواعِدِ الَّتي تَقومُ عليها الخُطَبُ.
2- تَمْتازُ هذه الخُطَبُ بالنَّبْرةِ الخَطابيَّةِ الهادِئةِ الَّتي تَعْتمِدُ على التَّأمُّلِ وسياقِ الأدِلَّةِ والبَراهينِ للتَّأثيرِ في السَّامِعِ.
3- تَعْتمِدُ الخُطبةُ على الارْتِجالِ وحُضورِ الذِّهْنِ، مِن غيْرِ سابِقِ إعْدادٍ أو تَحْضيرٍ لها.
4- لم يكُنِ الخَطيبُ يَتأنَّقُ في اخْتِيارِ الألْفاظِ ذاتِ النَّغْمةِ الموسيقيَّةِ، أو تَكلُّفِ السَّجْعِ، ولم يكنْ يَقصِدُ المُحسِّناتِ البَديعيَّةَ ولا يَتَعمَّدُها، بل كانَ يَأتي كلُّ ذلك في كَلامِهم على السَّجيَّةِ.
5 - جاءَتْ خُطَبُهم موجَزةً قَليلةَ المَباني كَثيرةَ المَعاني؛ لأنَّ ذلك ألْصَقُ بالنَّفْسِ وأقْرَبُ للقَلْبِ وأفْضَلُ في الرِّوايةِ والحِفْظِ.
6- كانَ الخُطَباءُ يَتَخيَّرونَ الألْفاظَ المُتَداوَلةَ والمَعانيَ المُؤثِّرةَ الَّتي تُسيطِرُ على العُقولِ والقُلوبِ.
7- كانَ الخَطيبُ أحْيانًا يُضَمِّنُ خُطبتَه بعضَ الأبْياتِ الشِّعْريةِ لِما في ذلك مِن جَذْبِ انْتِباهِ السَّامِعِ وإيصالِ المُرادِ إلى المُتلقِّي.
8- قُرْبُ المَعنى ووُضوحُه وعَدَمُ الإغْرابِ فيه.
9- شُيوعُ الحِكْمةِ فيها [284] ينظر: ((النثر في العَصْر الجاهلي)) لهاشم مناع (ص:102)، ((قصة الأدب في الحجاز)) لعبد الله عبد الجبار ومحمد عبد المنعم خفاجي (ص: 303). .
مِن أشْهَرِ خُطَباءِ الجاهِليَّةِ:
لمَّا كانَ الخَطيبُ في القَبيلةِ لِسانَها الَّذي يَتَكلَّمُ عنها، وراعيَها الَّذي يَذودُ عنها الخُصومَ، وحَكيمَها الَّذي تَحْتكِمُ إليه؛ كانَتْ كلُّ قَبيلةٍ تَسْعى إلى أن يكونَ فيها الخُطَباءُ، كما حرَصَتْ على أن يكونَ فيها الشُّعَراءُ؛ ولِهذا قلَّما تَجِدُ قَبيلةً جاهِليَّةً ليس فيها خَطيبٌ؛ ففي قُرَيشٍ مَثَلًا: عُتْبةُ بنُ رَبيعةَ، وسُهَيلُ بنُ عَمْرٍو، وهاشِمُ بنُ عبْدِ مَنافٍ، ونُفَيلُ بنُ عبْدِ العُزَّى -جَدُّ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ- وغيْرُهم.
وكانَ عَمْرُو بنُ عمَّارٍ الطَّائيُّ خَطيبًا لمَذْحِجٍ كُلِّها، كما كانَ هانِئُ بنُ قَبيصةَ خَطيبَ بَني بَكْرٍ، وكانَ زُهَيْرُ بنُ جَنَابٍ خَطيبَ كَلْبٍ وقُضاعةَ وشاعِرَها، وكانَ رَبيعةُ بنُ جُذارٍ الأسَديُّ خَطيبَ بَني أسَدٍ.
وفي المَدينةِ كانَ قَيْسُ بنُ الشَّمَّاسِ وابنُه ثابِتٌ -خَطيبُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وسَعْدُ بنُ الرَّبيعِ، ومَسْلَمةُ بنُ مَخْلَدِ بنِ الصَّامِتِ -خالُ حسَّانَ بنِ ثابِتٍ- وغيْرُهم.
وكانَ مِن الخُطَباءِ البُلَغاءِ والحُكَّامِ الرُّؤَساءِ: أكْثَمُ بنُ صَيْفيٍّ حَكيمُ العَربِ وخَطيبُ تَميمٍ، وهَرِمُ بنُ قُطْبةَ بنِ سيَّارٍ الفَزاريُّ، ولَبيدُ بنُ رَبيعةَ الشَّاعِرُ [285] ينظر: ((النثر في العَصْر الجاهلي)) لهاشم مناع (ص:49). .

انظر أيضا: