موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الأوَّلُ: مَعْرفةُ العَربِ بالنَّثْرِ الفَنِّيِّ


يَسْتطيعُ الباحِثُ أن يَجِدَ في العَصْرِ الجاهِليِّ آثارًا تَدُلُّ على أنَّهم قد عَرَفوا النَّثْرَ الأدَبيَّ بفُنونِه المُخْتلِفةِ، أو على الأقَلِّ عَرَفوا بعضَ أنْواعِه؛ فالخَطابةُ كانَتْ مَعْروفةً آنَذاك، كما رُويَتْ لنا أشْهَرُ خُطَبِهم، وعَرَفْنا أبْرَزَ خُطَبائِهم، وقد كانَ أبو طالِبٍ خَطيبًا مُبرِّزًا مُفوَّهًا، كذلك تَدُلُّ بعضُ الأخْبارِ على أنَّهم عَرَفوا الأدَبَ القَصَصيَّ، واهْتَمُّوا برِوايةِ تلك القِصَصِ والنَّوادِرِ، وأنَّهم كانوا يَقْطعونَ مَلَلَهم وسآمتَهم بذِكْرِها، وقد وَرَدَ في كُتُبِ السِّيرةِ أنَّ النَّضْرَ بنَ الحارِثِ كانَ يَعلَمُ شيئًا مِن تلك القِصَصِ، فكانَ يَقُصُّ على النَّاسِ قِصَّةً أسْطوريَّةً فارِسيَّةً شَهيرةً، وهي قِصَّةُ إسْفِنْديارَ ورُسْتُمَ الَّتي دارَتْ حَوْلَها المَلْحَمةُ الشَّهيرةُ الشَّاهنامةُ، الَّتي ألَّفَها الفِرْدَوسيُّ، فكانَ النَّضْرُ يُعارِضُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتلك الأخْبارِ، ويقولُ: "اكْتَتَبَها كما اكْتَتَبْتُها، فبماذا مُحمَّدٌ أحْسَنُ حَديثًا مِنِّي؟!" [265] يُنظر: ((سيرة ابن هشام)) (1/ 300)، ((السيرة النبوية)) لابن كثير (2/ 52). ، فدَلَّ ذلك على مَعْرفةِ الكِتابةِ الأدَبيَّةِ خاصَّةً [266] ينظر: ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 15). .
ولِذلك ذَهَبَ أَكْثَرُ العُلَماءِ إلى أنَّ العَرَبَ قبْلَ الإسْلامِ كانوا قد عَرَفوا النَّثْرَ الفَنِّيَّ، وأنَّهم اسْتَخْدموا أنْواعًا كَثيرةً مِنه، بل أجادوه إجادةً تامَّةً، ويَشهَدُ لِذلك فوْقَ ما ذَكَرْنا:
1- وُجودُ النَّثْرِ الفَنِّيِّ في الأمَمِ القَديمةِ، مِثلُ الفُرْسِ والهُنودِ والمِصْريِّينَ القُدَماءِ قبْلَ الميلادِ بقُرونٍ كَثيرةٍ، فما المانِعُ أن يكونَ للعَربِ كذلك نَثْرٌ أدَبيٌّ قبْلَ الميلادِ أو بعْدَه؟!
2- إنْزالُ القُرآنِ وتَحدِّي اللهِ به البُلَغاءَ والفُصَحاءَ مِن العَربِ يَدُلُّ على أنَّهم عَرَفوا ذلك النَّوعَ مِن الأدَبِ وأجادوه، وإلَّا فما إعْجازُ القُرآنِ إذا نَزَلَ على قَوْمٍ بلُغةٍ أو أُسْلوبٍ لا عَهْدَ لهم به؟!
3- بَقاءُ كَثيرٍ مِن صُوَرِ النَّثْرِ الفَنِّيِّ في مَصادِرِ الأدَبِ وأمَّهاتِ كُتُبِه مِن خَطابةٍ جَيِّدةٍ ونَصائِحَ بَليغةٍ، وإن كانَ مُعظَمُ هذا النَّثْرِ قد فُقِدَ وضاعَ، فإنَّ النُّصوصَ القَليلةَ تَدُلُّ على وُجودِ الكَثيرِ مِنه [267] ينظر: ((قصة الأدب في الحجاز)) لعبد الله عبد الجبار ومحمد عبد المنعم خفاجي (ص: 246) .
وقد رَوى لنا الرُّواةُ نُصوصًا نَثْريَّةً تُعَدُّ غايةً في البَلاغةِ والإبْداعِ الفَنِّيِّ؛ فمِنها قولُ أمِّ مَعبَدٍ في وَصْفِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حينَ مَرَّ عليها ساعةَ الهِجْرةِ وطَلَبَ مِنها لَبَنًا، فقالَتْ: إنَّ الشَّاةَ قد أعْيَتْ وخَلَّفَها الجُهْدُ عنِ الغَنَمِ، فمَسَحَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسمَّى اللهَ ودَعا لها، فحَلَبَتْ شيئًا كَثيرًا! فلمَّا جاءَ زَوْجُها اسْتَفْهَمَ عن ذلك، فقالَتْ: مَرَّ بنا رَجُلٌ مُبارَكٌ حالُه كَذا وكَذا، فقال: صِفيه لي يا أمَّ مَعبَدٍ، قالَتْ: (رَجُلٌ ظاهِرُ الوَضاءةِ، أبْلَجُ الوَجْهِ، حَسَنُ الخُلُقِ، لم تَعِبْه نُحْلةٌ، ولم تَزْرِ بِهِ صَعلَةٌ، وَسيمٌ قَسيمٌ، في عَيْنَيه دَعَجٌ، وفي أشْفارِه وَطَفٌ، وفي صَوْتِه صَحَلٌ، وفي عُنُقِه سَطَعٌ، وفي لِحْيتِه كَثاثةٌ، أَزَجُّ أَقرَنُ، إن صَمَتَ فعليه الوَقارُ، وإن تَكلَّمَ سَما وعَلاه البَهاءُ، أَجمَلُ النَّاسِ وأبْهاه مِن بَعيدٍ، وأحْسَنُه وأحْلاه مِن قَريبٍ، حُلْوُ المَنطِقِ، فَصْلٌ لا نَزْرٌ ولا هَذْرٌ، كأنَّ مَنطِقَه خَرَزاتُ نَظْمٍ يَتَحدَّرْنَ، لا يَأسَ مِن طولٍ، ولا تَقتَحِمُه عَيْنٌ مِن قِصَرٍ، غُصْنٌ بيْنَ غُصْنَينِ، فهو أنْضَرُ الثَّلاثةِ مَنظَرًا، وأحْسَنُهم قَدْرًا، له رُفَقاءُ يَحُفُّونَ به، إن قالَ أنْصَتوا لقَوْلِه، وإن أمَرَ تَبادَروا إلى أمْرِه، مَحْفودٌ مَحْشودٌ، لا عابِسٌ ولا مُفَنِّدٌ) [268] أخرجه الطبراني (4/48) (3605)، والحاكم (4274)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (1/276). .
وأرْجَعَ هؤلاء العُلَماءُ السَّبَبَ في ضَياعِ ذلك الكَمِّ الهائِلِ مِن الفَنِّ الأدَبيِّ الجاهِليِّ إلى طَبيعةِ العَربِ آنَذاك؛ فإنَّ العَربَ كما قالَ الجاحِظُ: (وكلُّ شيءٍ للعَربِ فإنَّما هو بَديهةٌ وارْتِجالٌ، وكأنَّه إلْهامٌ وليسَتْ هناك مُعاناةٌ ولا مُكابَدةٌ ولا إجالةُ فِكْرةٍ ولا اسْتِعانةٌ، وإنَّما هو أن يَصرِفَ وَهْمَه إلى جُملةِ المَذهَبِ وإلى العَمودِ الَّذي إليه يَقصِدُ، فتَأتيه المَعاني أرْسالًا، وتَنْثالُ عليه الألْفاظُ انْثِيالًا، ثُمَّ لا يُقيِّدُه على نفْسِه ولا يُدَرِّسُه أحَدًا مِن وَلَدِه.
وكانوا أُمِّيِّينَ لا يَكْتُبونَ، ومَطْبوعينَ لا يَتَكلَّفونَ، وكانَ الكَلامُ الجَيِّدُ عنْدَهم أظْهَرَ وأَكْثَرَ، وهم عليه أقْدَرَ وأقْهَرَ، وكلُّ واحِدٍ في نفْسِه أنْطَقُ، ومَكانُه مِن البَيانِ أرْفَعُ، وخُطَباؤُهم أوْجَزُ، والكَلامُ عليهم أسْهَلُ، وهو عليهم أيْسَرُ مِن أن يَفْتَقِروا إلى تَحَفُّظٍ أو يَحْتاجوا إلى تَدارُسٍ. وليس هُمْ كمَن حَفِظَ عِلمَ غيْرِه واحْتَذى على كَلامِ مَن كانَ قبْلَه، فلم يَحفَظوا إلَّا ما علِقَ بقُلوبِهم والْتَحمَ بصُدورِهم واتَّصَلَ بعُقولِهم مِن غيْرِ تَكلُّفٍ ولا قَصْدٍ ولا تَحَفُّظٍ ولا طَلَبٍ، وإنَّ شيئًا مِن الَّذي في أيْدينا جُزْءٌ مِنه لبِالمِقدارِ الَّذي لا يَعلَمُه إلَّا مَن أحاطَ بقَطْرِ السَّحابِ وعَدِّ التُّرابِ، وهو اللهُ الَّذي يُحيطُ بما كانَ، والعالِمُ بما سيَكونُ) [269] ((البيان والتبيين)) للجاحظ (3/ 20). .
على أنَّ بعضَ المُسْتشرِقينَ قد نفَوا مَعْرفةَ العَربِ الجاهِليِّينَ بالنَّثْرِ الفَنِّيِّ، وتابَعَهم على ذلك بعضُ المُعاصِرينَ، ومِنهم الدُّكتورُ طه حسين الَّذي سَبَقَ وأنْكَرَ أَكْثَرَ الشِّعْرِ الجاهِليِّ كذلك، وزعَمَ أنَّ أَكْثَرَه ممَّا نحَلَه الرُّواةُ في العَصْرِ الأمَويِّ، ولم يَبْنِ هؤلاء آراءَهم على أدِلَّةٍ عِلميَّةٍ قويَّةٍ، بل كلُّ أقْوالِهم مُجرَّدُ افْتِراضاتٍ لا الْتفاتَ إليها.

انظر أيضا: