موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الرَّابِعَ عشَرَ: مَنزِلةُ الشُّعَراءِ عنْدَ الجاهِليِّينَ


كانَ الشَّاعِرُ لِسانَ القَبيلةِ المُفوَّهَ، وكاتِبَها الَّذي يُخلِّدُها في التَّاريخِ، والحَكَمَ الَّذي تَحْتكِمُ إليه في الأُمورِ العَقْليَّةِ والحِسِّيَّةِ، خاصَّةً أنَّهم كانوا يَعْتقِدونَ في الشَّاعِرِ مِن السِّحْرِ وقُوى الجِنِّ، وأنَّه يَخطُرُ له ما لا يَخطُرُ للبَشَرِ، ويَسْتطيعُ ما لا يَسْتطيعُه غيْرُه مِن النَّاسِ.
وأكْبَرُ آيةٍ على هذا أنَّ القَبيلةَ كانَتْ إذا نبَغَ فيها شاعِرٌ أقامَتِ الدُّنيا احْتِفالًا بتلك المُناسَبةِ، قالَ ابنُ رَشيقٍ: (كانَتِ القَبيلةُ مِن العَربِ إذا نبَغَ فيها شاعِرٌ أتَتِ القَبائِلُ فهنَّأَتْها، وصَنَعَتِ الأطْعِمةَ، واجْتَمعَ النِّساءُ يَلعَبْنَ بالمَزاهِرِ، كما يَصْنَعونَ في الأعْراسِ، ويَتَباشَرُ الرِّجالُ والوِلْدانُ؛ لأنَّه حِمايةٌ لأعْراضِهم، وذَبٌّ عن أحْسابِهم، وتَخْليدٌ لمَآثِرِهم، وإشادةٌ بذِكْرِهم) [262] ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (1/ 65). .
وقد عرَفَ ذلك الفَضْلَ المُسْتَشْرِقُ نولدكه فقالَ: (الشَّاعِرُ الجاهِليُّ نَبيُّ قَبيلتِه، وزَعيمُها في السِّلْمِ، وبَطَلُها في الحَرْبِ، تَطلُبُ الرَّأيَ عنْدَه في البَحْثِ عن مَراعٍ جَديدةٍ، وبكَلِمتِه وَحدَها تُضرَبُ الخِيامُ وتُحَلُّ، كما كانَ يَحْدو الرَّحَّالةَ العِطاشَ في التَّنْقيبِ عنِ الماءِ) [263] ((الأدب الجاهلي قضاياه أغراضه أعلامه فنونه)) لطليمات والأشقر (ص: 53). .
بلْ كانَ الشَّاعِرُ سَفيرَ قَوْمِه لدى المُلوكِ، فيَدخُلُ على كِسْرى وقَيْصَرَ، والغَساسِنةِ والمَناذِرةِ، كما كانَ النَّابِغةُ والأعْشى وغيْرُهم، فتُهيَّأُ له المَجالِسُ، ويَعرِضُ قَضيَّةَ قَوْمِه ومَطالِبَهم.
ولِهذا كانَتِ القَبائِلُ حَريصةً على رِوايةِ شِعْرِ شاعِرِها، فكانوا يَتَناقَلونَه جيلًا بعْدَ جيلٍ؛ إذ هذا الشِّعْرُ هو الَّذي يُدَوِّنُ مَفاخِرَهم، ويُعدِّدُ مآثِرَهم، ويَدفَعُ عنهم المَثالِبَ والنَّقائِصَ، ويَرُدُّ افْتِراءَ الخُصومِ ونِكايةَ الأعْداءِ.
قال أبو عَمْرِو بنُ العَلاءِ: (كانَ الشَّاعِرُ في الجاهِليَّةِ يُقَدَّمُ على الخَطيبِ؛ لفَرْطِ حاجتِهم إلى الشِّعْرِ الَّذي يُقيِّدُ عليهم مآثِرَهم ويُفخِّمُ شأنَهم، ويُهوِّلُ على عَدُوِّهم ومَن غَزاهم، ويُهيِّبُ مِن فُرسانِهم، ويُخوِّفُ مِن كَثْرةِ عَدَدِهم، ويَهابُهم شاعِرُ غيْرِهم فيُراقِبُ شاعِرَهم) [264] ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 203). .

انظر أيضا: