موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ السَّادِسُ: الغَزَلُ


وهو وَصْفُ المَرأةِ وما يَجِدُه الشَّاعِرُ تِجاهَها مِن الحُبِّ والهَوى وتَأجُّجِ نارِ الشَّوْقِ، وهو أهَمُّ أغْراضِ الشِّعْرِ وألْصَقُها بنفْسِ الشَّاعِرِ؛ إذ يُعبِّرُ عن غَريزتِه ومُتطلَّباتِ فِطْرتِه الَّتي فطَرَه اللهُ عليها؛ ولِذلك كانَ الغَزَلُ أصْدَقَ الشِّعْرِ وأخْلَصَه؛ إذ لا يُرْجى به نَوالٌ أو عَطيَّةٌ، ولا يُتَّهَمُ فيه بالغُلُوِّ والشَّطَطِ كسائِرِ الأغْراضِ، وقد كانَ الرَّجُلُ العَربيُّ يُمجِّدُ الجَمالَ الأنْثَويَّ؛ لأنَّه جَميعُ ما لديه مِن الجَمالِ، فشبَّهَ المَرْأةَ بالكَواكِبِ، وهي أعْظَمُ وأجْمَلُ ما يَرى، وهامَ بِها هُيامَ اليونانِ الأقْدَمينَ بأرْبابِهم، فأصْبَحَ الغَزَلُ جُزْءًا مِن نفْسِه، وبلَغَ مِن شِدَّةِ عِنايتِهم بالغَزَلِ والنَّسيبِ أن جعَلوه مَطلَعَ قَصائِدِهم، وبدايةَ قولِهم؛ وذلِك لأنَّ الغَزَلَ قَريبٌ مِن النُّفوسِ، لائِطٌ بالقُلوبِ؛ لِما جعَلَ اللهُ في تَرْكيبِ العِبادِ مِن مَحبَّةِ الغَزَلِ وإلْفِ النِّساءِ، فليس يَكادُ أحَدٌ يَخْلو مِن أن يكونَ مُتعلِّقًا مِنه بسَبَبٍ، أو ضارِبًا فيه بسَهْمٍ [193] ينظر: ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/76). .
وقدْ بَدأَ الغَزَلُ في الجاهِليَّةِ عَفيفًا يَتَوافَقُ معَ طَبيعةِ العَربِ ونَخْوتِهم وغَيْرتِهم على نِسائِهم، فكانَ الشَّاعِرُ يَتَغزَّلُ بجَمالِ رُوحِ مَحْبوبتِه، وحُسْنِ خُلُقِها وحَيائِها، كقولِ الشَّنْفَرى [194] ((المفضليات)) للضبي (ص: 109)، ((التذكرة الحمدونية)) لبهاء الدين ابن حمدون (6/ 162). :
لقدْ أعْجَبتْني لا سَقُوطًا قِناعُها
إِذا ما مَشَتْ ولا بِذاتِ تَلَفُّتِ
تَبيتُ بُعَيدَ النَّوْمِ تُهْدي غَبوقَها
لِجارتِها إذا الهَديَّةُ قَلَّتِ
تَحُلُّ بِمَنْجاةٍ مِن اللَّوْمِ بَيْتَها
إِذا ما بُيوتٌ بالمَذمَّةِ حُلَّتِ
كأنَّ لها في الأَرضِ نِسْيًا تَقُصُّهُ
على أمِّها وإِنْ تُكَلِّمْكَ تَبْلَتِ
أُميْمةُ لا يُخْزِي نَثاها حَليلَها
إذا ذُكِرَ النِّسْوانُ عَفَّتْ وجَلَّتِ
إذا هو أَمْسى آبَ قُرَّةَ عَيْنِهِ
مآبَ السَّعيدِ لم يَسَلْ أَيْنَ ظَلَّتِ
ثُمَّ لم يَلبَثْ أنِ اسْتَحالَ الغَزَلُ إلى ذِكْرِ الأوْصافِ والمَحاسِنِ، وما ظهَرَ مِن المَرْأةِ، كوَجْهِها وشَعْرِها، ولم يكنْ ذلِك مُسْتهجَنًا شَنيعًا عنْدَ المَرْأةِ؛ إذ لم تكنْ العَربيَّةُ تَأنَفْ أن تُوصَفَ مَحاسِنُها، إنَّما كانَ الشَّأنُ في ريبةِ النَّظَرِ ودَنَسِ الفُؤادِ، وذلك الَّذي كانَ يَسْتَطيرُ له الشَّرُّ بيْنَهم، وتُعقَدُ عليه الغاراتُ؛ فهو غَزَلُ الأسِنَّةِ لا غَزَلُ الألْسِنةِ.
وقدْ لَمَعَ هذا النَّوْعُ مِن الغَزَلِ، فأَكْثَرَ مِنه الشُّعَراءُ، كقولِ المُرَقِّشِ الأصْغَرِ:
ألَا حَبَّذا وَجْهٌ تُرينا بَياضَهُ
ومُنْسَدِلاتٍ كالمَثانِي فَواحِما
وما زالَ الغَزَلُ يَنسَلُّ شيئًا فشيئًا حتَّى وَصَلَ إلى التَّغزُّلِ بكلِّ مَفاتِنِ المَرْأةِ، كقولِ عَمْرِو بنِ كُلْثومٍ في وَصْفِ صاحِبتِه [195] ((ديوان عمرو بن كلثوم)) (ص: 68). :
تُريكَ إذا دَخَلْتَ على خَلاءٍ
وقدْ أَمِنَتْ عُيونَ الكاشِحينا
ذِراعَي عَيْطَلٍ أَدْماءَ بِكْرٍ
هِجانِ اللَّوْنِ لمْ تَقرَأْ جَنينا
وثَدْيًا مِثْلَ حُقِّ العاجِ رَخْصًا
حَصانًا مِن أُكُفِّ اللَّامِسينا
ونَحْرًا مِثْلَ ضَوْءِ البَدْرِ وافى
بِأتْمامٍ أُناسًا مُدْلِجينا
ومَتْنَيْ لَدْنَةٍ سَمَقَتْ وطالَتْ
رَوادِفُها تَنوءُ بِما وَلينا
ومأْكَمةً يَضيقُ البابُ عنهَا
وكَشْحًا قدْ جُنِنْتُ بِهِ جُنونَا
وسارِيتَيْ بَلَنْطٍ أو رُخامٍ
يَرِنُّ خَشَاشُ حَلْيِهما رَنينا
وكانَ الشَّاعِرُ العَربيُّ رَقيقَ النَّسيبِ، تَجْري القَصيدةُ على لِسانِه، فلا تَكشِفُ سِتْرًا ولا تَفضَحُ أحَدًا؛ وذلك لنَقاءِ الفِطْرةِ العَربيَّةِ، وصَفاءِ الغَزَلِ العَربيِّ، إلَّا في نَفَرٍ قَليلٍ مِن شُذَّاذِ العَرَبِ الَّذين تَعهَّروا في شِعْرِهم.
فكانَ امْرُؤُ القَيْسِ أوَّلَ مَن تَعَهَّرَ في شِعْرِه مِن العَربِ وشَبَّبَ بالنِّساءِ، وتَغزَّلَ بهنَّ غَزَلًا صَريحًا فاحِشًا، يَذكُرُ فيه السَّوآتِ والعَوْراتِ؛ إذ كانَ أبوه مِن مُلوكِ كِنْدةَ، فظَهَرَتْ في غَزَلِه الحَضارةُ اليَمنيَّةُ، وأفْسَدَتْها صَعْلكةُ الرَّجُلِ؛ إذ كانَ على أنَّه ابنُ مَلِكٍ لا يَسْتَتْبِعُ إلَّا صَعاليكَ العَربِ وذُؤْبانَهم، فَضْلًا عن أنَّ خالَه المُهَلْهِلَ كانَ زيرَ نِساءٍ، كلِفَ بالنِّساءِ وتَعلَّقَ بِهنَّ، فانْتَقلَتْ عَدْواه إلى امْرِئِ القَيْسِ، وقدْ شَبَّبَ حتَّى بنِساءِ أبيه، وكانَ هذا سَبَبَ نَفْيِه [196] يُنظر: ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/75) .
وقدْ ذَكَرَ امْرُؤُ القَيْسِ في شِعْرِه أخْبارًا وقِصَصًا له في المُجونِ والفُحْشِ يَخْتلِطُ فيها الصِّدْقُ والكَذِبُ، مِنها خَبَرُ "يومِ دارةِ جُلْجُلٍ"، ومِنها قِصَصٌ أخرى ذَكَرَها في مُعلَّقتِه، كقولِه [197] ((ديوان امرئ القيس، تحقيق المصطاوي)) (ص: 26). :
ألَا رُبَّ يَوْمٍ لكَ مِنْهُنَّ صالِحٍ
ولا سيَّما يَومٍ بِدارةِ جُلْجُلِ
ويَوْمَ عَقَرْتُ للعَذارى مَطيَّتي
فيا عَجَبًا مِن كُورِها المُتَحَمَّلِ
فظَلَّ العَذارى يَرْتَمينَ بلَحْمِها
وشَحْمٍ كهُدَّابِ الدِّمَقسِ المُفَتَّلِ
ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزةٍ
فقالَتْ: لكَ الوَيْلاتُ إنَّكَ مُرْجِلي
تقولُ، وقد مالَ الغَبيطُ بنا معًا
عَقَرْتَ بَعيري يا امْرَأَ القَيْسِ، فانْزِلِ
فقلْتُ لَها: سيري، وأَرْخي زِمامَهُ
ولا تُبْعِديني مِن جَناكِ المُعَلَّلِ
فمِثْلِكِ حُبْلى قدْ طَرَقْتُ وَمُرضِعٍ
فألْهَيتُها عن ذي تَمائِمَ مُحْوِلِ
إذا ما بكَى مِن خَلْفِها انْصَرَفَتْ لهُ
بشِقٍّ وتَحتي شِقُّها، لم يُحَوَّلِ
وأَكْثَرُ ما يُظَنُّ في تلك الأخْبارِ أنَّها مُخْتلَقةٌ مَكْذوبةٌ؛ فامْرُؤُ القَيْسِ كانَ يُحِبُّ التَّشْبيبَ والتَّغزُّلَ، بَيْدَ أنَّه لم تكنِ النِّساءُ تُحِبُّه ولا تُطيقُ عِشْرتَه، وقدْ تَزوَّجَ امْرأةً مِن طَيِّئٍ، فدَخَلَ بِها، فأبْغَضَتْه مِن لَيلتِه، فكَرِهَتْ مَكانَه، فجَعَلَتْ تقولُ له: يا خيْرَ الفِتيانِ، أصْبَحْتَ أصْبَحْتَ، فنَظَرَ فإذا اللَّيلُ كما هو، فقالَ: قد عرَفْتُ ما صَنَعْتِه اللَّيلةَ، فما كَرِهْتِ منِّي؟ قالَتْ: كَرِهْتُ مِنك أنَّك خَفيفُ العُجْزةِ، ثَقيلُ الصَّدْرِ، سَريعُ الإراقةِ، بَطيءُ الإفاقةِ، فطَلَّقَها [198] يُنظر: ((أمثال العرب)) للمفضل الضبي (ص: 123)، ((بلاغات النساء)) لابن طيفور (ص: 116). .
فلا يَبْعُدُ أن يكونَ قد اخْتَلقَ تلك القِصَصَ ليُثبِتَ أنَّه زيرُ نِساءٍ، وأنَّ النِّساءَ يَتَكالَبْنَ عليه [199] يُنظر: ((الأدب الجاهلي قضاياه أغراضه أعلامه فنونه)) لزكي طليمات وعرفات الأشقر (ص: 129). .
خَصائِصُ الغَزَلِ الجاهِليِّ:
- الأصالةُ والصِّدْقُ النَّابِعُ مِن المَشاعِرِ والعاطِفةِ والغَريزةِ.
- طُغْيانُ الغَزَلِ على سائِرِ الأغْراضِ الأخرى.
- اخْتِلافُ الغَزَلِ باخْتِلافِ الصِّبغةِ الفَرْديَّةِ لكلِّ شاعِرٍ؛ فمِنهم الشَّريفُ العَفيفُ، ومِنهم غيْرُ ذلك.
- الصَّراحةُ والوُضوحُ؛ فالشَّاعِرُ كانَ يُعبِّرُ عمَّا في داخِلِه مِن مَيْلٍ إلى الأنْثى، والتَّعْبيرِ عن رَغَباتِه، ووَصْفِ جَمالِها وأنوثتِها دونَ مُوارَبةٍ أو غُموضٍ.
- قُدْرةُ الغَزَلِ الجاهِليِّ على وَصْفِ البيئةِ الجاهِليَّةِ القَديمةِ؛ حيثُ كانوا في تَصْويرِهم المَرأةَ دَوْمًا ما يُشبِّهونَها بالنَّباتِ والحَيَوانِ والسَّماءِ والصَّحْراءِ وغيْرِ ذلِك.
- عُذوبةُ ألْفاظِ الغَزَلِ وسُهولتُها؛ إذِ الباعِثُ عليها إنَّما هو الفِطْرةُ والشُّعورُ الصَّادِقُ، ولا مَجالَ للإغْرابِ أو بَيانِ مدى فُحولةِ الشَّاعِرِ وثَرْوتِه اللُّغويَّةِ [200] يُنظر: ((الأدب الجاهلي قضاياه أغراضه أعلامه فنونه)) لزكي طليمات وعرفات الأشقر (ص: 131). .

انظر أيضا: