موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: مَوْضوعاتُ الشِّعْرِ الجاهِليِّ


اعْتَرتِ الشَّاعِرَ الجاهِليَّ مَشاعرُ مُخْتلِفةٌ مِن الحُبِّ والحَنينِ، والشَّوْقِ والإعْجابِ، والحُزْنِ والخَوْفِ، والامْتِنانِ والعُجْبِ، وغيْرِ ذلِك. ومِن طَبيعةِ الحالِ أن يَتغيَّرَ الغَرَضُ الشِّعْريُّ بحسَبِ كلِّ شُعورٍ يَتَناوَبُه؛ فحينًا يَقرِضُ الشِّعْرَ للوَصْفِ أوِ الرِّثاءِ، وتارةً للفَخْرِ، وأخرى للمَدْحِ أوِ الهِجاءِ، وأحْيانًا للغَزَلِ، ورُبَّما دفَعَتْه الظُّروفُ إلى الاعْتِذارِ.
ولم يَهتمَّ الأقْدمونَ بتَقْسيمِ الشِّعْرِ بحسَبِ المَوْضوعِ أوِ الغَرَضِ، بقَدْرِ ما كانَ يُهِمُّهم جَمْعُ الأشْعارِ، حتَّى إنَّهم لمَّا قَسَّموا الأشْعارَ إنَّما اعْتَبَروا في تَقْسيمِها طَبَقةَ صاحِبِها مِن الشِّعْرِ، كما فَعَلَ ابنُ سَلَّامٍ في طَبَقاتِ فُحولِ الشُّعَراءِ.
ولعلَّ أوَّلَ مَن قسَّمَ الشِّعْرَ إلى مَوْضوعاتٍ أبو تَمَّامٍ حَبيبُ بنُ أوْسٍ الطَّائيُّ، حينَ جعَلَ "الحَماسةَ" على عَشَرةِ أبْوابٍ كما ذَكَرْنا، وهي: "الحَماسةُ، والمَراثي، والأدَبُ، والنَّسيبُ، والهِجاءُ، والأضْيافُ والمَديحُ، والصِّفاتُ، والسَّيْرُ، والنُّعاسُ، والمُلَحُ، ومَذمَّةُ النِّساءِ"، وإن كانَ تَمْييزُه غيْرَ دَقيقٍ؛ حيثُ أفْرَدَ مَذمَّةَ النِّساءِ، وهي داخِلةٌ في الهِجاءِ، كما أنَّ الحَديثَ عن الأضْيافِ يَقَعُ بيْنَ الفَخْرِ والمَدْحِ. والسَّيْرُ والنُّعاسُ داخِلانِ في الصِّفاتِ، كما أنَّه أغْفَلَ تَمامًا مَوْضوعَ الاعْتِذارِ.
قال أبو هِلالٍ العَسْكَريُّ: (كانَتْ أقْسامُ الشِّعْرِ في الجاهِليَّةِ خَمْسةً؛ المَديحَ والهِجاءَ والوَصْفَ، والتَّشْبيبَ والمَراثيَ، حتَّى زادَ النَّابِغةُ فيها قِسْمًا سادِسًا وهو الاعْتِذارُ، فأحْسَنَ فيه) [154] ((ديوان المعاني)) لأبي هلال العسكري (1/ 91). . وهذا تَقْسيمٌ جيِّدٌ، غيْرَ أنَّ الاعْتِذارَ داخِلٌ في المَدْحِ، كما أنَّه نَسيَ الحَماسةَ، وهي أحد أكْبَرِ أغْراضِ الشِّعْرِ.
وجعَلَ ابنُ رَشيقٍ مَوْضوعاتِ الشِّعْرِ في كِتابِه العُمْدةِ تِسعةً، وهي: "النَّسيبُ والمَديحُ، والافْتِخارُ والرِّثاءُ، والاقْتِضاءُ والاسْتِنجازُ، والعِتابُ، والوَعيدُ والإنْذارُ، والهِجاءُ، والاعْتِذارُ". ومِن السَّهْلِ أن يُرَدَّ مَوْضوعُ الاقْتِضاءِ والاسْتِنجازِ إلى المَديحِ، والوَعيدُ والإنْذارُ إلى الهِجاءِ، وأن يُضَمَّ العِتابُ إلى الاعْتِذارِ، إلَّا أنَّه نَسيَ كذلك مَوْضوعَ الوَصْفِ.
ولا نَسْتطيعُ أن نَجزِمَ بأقْدميَّةِ أحَدِ تلك الأغْراضِ في الشِّعْرِ الجاهِليِّ، وأيُّها ظَهَرَ أوَّلًا، إلَّا أنَّه يَبْدو أنَّ تلك الأغْراضَ قد نشَأتْ نَتيجةَ الشِّعْرِ الدِّينيِّ؛ فإنَّهم كانوا أوَّلَ الأمْرِ يُنشِدونَ لآلِهتِهم، ويُطالِبونَها  بالنَّصْرِ على أعْدائِهم، ثُمَّ نتَجَ عن ذلك هِجاءُ أعْدائِهم وتَسْفيهُهم لهم، ومَدْحُ فُرْسانِهم وأبْطالِهم، ورِثاءُ الأمْواتِ، وهو في الأصْلِ تَعْويذاتٌ للميِّتِ حتَّى يَطمئِنَّ في قَبْرِه، وفي أثْناءِ ذلك يُمجِّدونَ قُوى الطَّبيعةِ المُقدَّسةِ الَّتي تَكمُنُ في آلِهتِهم وتَبعَثُ فيهم الخَوْفَ [155] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (1/ 195)، ((الأدب الجاهلي؛ قضاياه وأغراضه وأعلامه وفنونه)) لزكي طليمات وعرفات الأشقر (ص: 61). .
وسوف يَقْتصِرُ الحَديثُ هنا على بَيانِ بعضِ تلك المَوْضوعاتِ الشِّعْريَّةِ، وهي:

انظر أيضا: