موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ العاشِرُ: وَحْدةُ القَصيدةِ الجاهِليَّةِ


يُشتَرَطُ في القَصيدةِ أن تَتَحقَّقَ فيها الوَحْدةُ العُضْويَّةُ، وذلك أن تأتيَ القَصيدةُ مُحْكَمةَ البِناءِ، مُتكامِلةَ الأجْزاءِ، ذاتَ تَسَلْسُلٍ مَنْطقيٍّ، مُترابِطةَ الجُمَلِ والأبْياتِ بحيثُ لا يَسْتطيعُ أحَدٌ أن يُقدِّمَ بَيْتًا على بَيْتٍ، أو يُؤخِّرَ مَقْطوعةً عن مَقْطوعةٍ، حتَّى قالوا: إنَّ القَصيدةَ مِثلُ الكائِنِ الحَيِّ، له أعْضاءٌ ثابِتةٌ في مَواضِعِها، فإذا قدَّمْنا عُضْوًا على عُضْوٍ فسَدَ البِناءُ والتَّرْكيبُ الإنْسانيُّ، وخالَفَ الفِطرةَ الَّتي هو عليها، فكذلك القَصيدةُ إذا لحِقَها التَّقْديمُ والتَّأخيرُ فهذا يُعَدُّ عَيْبًا فيها.
قالَ الحاتِميُّ: (مَثَلُ القَصيدةِ مَثَلُ الإنْسانِ في اتِّصالِ بعضِ أعْضائِه ببَعضٍ؛ فمتى انْفَصلَ واحِدٌ عنِ الآخَرِ وبايَنَه في صِحَّةِ التَّركيبِ، غادَرَ الجِسْمَ ذا عاهةٍ تَتَخوَّنُ مَحاسِنَه، وتُعَفِّي مَعالِمَه) [142] ((زهر الآداب وثمر الألباب)) لأبي إسحاق القيرواني (3/651). .
وقدِ اتَّهمَ بعضُ الأُدَباءِ والقُرَّاءِ القَصيدةَ الجاهِليَّةَ القَديمةَ بأنَّها مُتفكِّكةُ الأجْزاءِ، غايةُ ما فيها وَحْدةُ البَيْتِ فحَسْبُ؛ فالبَيْتُ أوِ البَيْتانِ يَتَرابَطانِ فيما بيْنَهما وتَجمَعُهما فِكرةٌ واحِدةٌ وغَرَضٌ واحِدٌ، أمَّا بِناءُ القَصيدةِ ككُلٍّ فهي مُتراميةُ الأجْزاءِ، يَسْتطيعُ المَرْءُ أن يُقدِّمَ بعضَ الأبْياتِ على بعضٍ مِن غيْرِ أن يُؤثِّرَ ذلِك في بِناءِ القَصيدةِ ومَفْهومِها.
وهذا ادِّعاءٌ يُنافي الحَقيقةَ؛ فكلُّ بَيْتٍ مِن أبْياتِ القَصيدةِ الجاهِليَّةِ مُتَماسِكٌ معَ ما قبْلَه، مُحكَمُ النَّسْجِ معَ ما بعْدَه، فإن حدَثَ تَغيُّرٌ في النَّظْمِ والتَّرْتيبِ أخَلَّ ذلِك بالمَعنى الَّذي يُريدُ الشَّاعِرُ أن يُوصِلَه إلى السَّامِعِ، ولا تأتي القَصيدةُ مُفرَّقةً خالِيةً مِن الوَحْدةِ إلَّا إذا كانَ الشَّاعِرُ ضَعيفَ المَلَكةِ، والشُّعَراءُ كانوا يَهْجونَ بعضَهم بعَدَمِ تَوافُرِ الوَحْدةِ في القَصيدةِ، ومِثالُ ذلِك قولُ الشَّاعِرِ:
وشِعْرٍ كبَعْرِ الكَبْشِ فَرَّقَ بيْنَهُ
لِسَانُ دَعِيٍّ في القَريضِ دَخيلِ [143] يُنظر: ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/75)، ((الكامل)) للمبرد (2/120)، ((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون (7/289).
وكما قالَ خَلَفٌ:
وبَعْضُ قَريضِ الشِّعْرِ أوْلادُ عِلَّةٍ
يَكُدُّ لِسانَ النَّاطِقِ المُتَحَفِّظِ [144] يُنظر: ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (1/111)، ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/75)، ((العمدة)) لابن رشيق (1/257).
ولِذلك قالَ عُمَرُ بنُ لَجَإٍ لبعضِ الشُّعَراءِ: أنا أشْعَرُ مِنك، قيلَ: وبمَ ذلِك؟ فقالَ: لأنِّي أقولُ البَيْتَ وأخاه، وأنتَ تَقولُ ‌البَيْتَ ‌وابنَ ‌عَمِّه [145] ينظر: ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/90). .
والَّذي دفَعَ أصْحابَ هذا القولِ إلى اتِّهامِ الشِّعْرِ الجاهِليِّ بتلك الفِريةِ إنَّما هو أحَدُ أمْرَينِ لا ثالِثَ لهما؛ الأوَّلُ: الإغْرابُ والتَّنقُّصُ مِن مآثِرِ السَّابِقينَ والحَطُّ مِن قَدْرِهم، والثَّاني: عَدَمُ القِراءةِ المُتمحِّصةِ للشِّعْرِ الجاهِليِّ، خاصَّةً معَ وُروِدِ بعضِ القَصائِدِ ناقِصةً في بعضِ الرِّواياتِ، يَسْتدعي تَمامُ النَّظَرِ سَبْرَ تلك القَصيدةِ واسْتِكمالَها مِن الرِّواياتِ الأخرى.
ولِهذا يقولُ الأسْتاذُ مَحْمود شاكِر: (وعِلَّةُ تَفشِّي هذه المَقالةِ الخَبيثةِ في اتِّهامِ الشِّعْرِ الجاهِليِّ عامَّةً بالتَّفكُّكِ والاخْتِلالِ هي عِلَّةُ العَصْرِ الَّذي صار أبْناؤُه يَتلمَّسونَ المَعابةَ لأسْلافِهم وآبائِهم، في خَبَرٍ مَطْروحٍ أو كَلِمةٍ شارِدةٍ أو ظاهِرةٍ مَحْدودةٍ، فيَبْنونَ عليها تَعْميمًا في الحُكْمِ، يُتيحُ لأحَدِهم أن يَشْفيَ ما في النَّفْسِ مِن حُبِّ القَدْحِ والتَّردِّي في طَلَبِ المَذمَّةِ، أو أن يَتقلَّدَ شِعارَ التَّجْديدِ أوِ الإغْرابِ؛ طَلَبًا للذِّكْرِ وحُبًّا للصِّيتِ.
وكَثيرٌ مِن القَصائِدِ الَّتي وقَفْتُ عليها مُختلَّةَ البِناءِ في رِوايةٍ مِن رِواياتِ العُلَماءِ القُدَماءِ الثِّقاتِ، أمْكنَني بالتَّقصِّي والتَّفْتيشِ أنَّ أجْمَعَ لها رِواياتٍ أخرى مُخْتلِفةً في المَخْطوطِ والمَطْبوعِ مِن الكُتُبِ والدَّواوينِ، فصَحَّحَ بعضُ هذه النُّصوصِ بعضًا، حتَّى وجَدْتُها قدِ اسْتَقامَتْ على نَهْجٍ واضِحٍ يَنْفي عنها افْتِقارَها إلى صِحَّةِ البِناءِ، أو إلى ما يُسمُّونَه "الوَحْدةَ"، ولكنْ للتَّقصِّي والتَّفْتيشِ شُروطٌ يُغفِلُها كَثيرٌ مِن الدَّارِسينَ) [146] ((نمط صعب ونمط مخيف)) لمحمود شاكر (ص: 43، 44). .
على أنَّ العَربَ الجاهِليِّينَ قد صَبُّوا اهْتِمامَهم على ما يُسَمَّى وَحْدةَ البَيْتِ، وهو أن يكونَ كلُّ بَيْتٍ يَتَضمَّنُ مَعنًى في نفْسِه، لا يَفْتقِرُ في بَيانِه عمَّا قبْلَه أو ما بعْدَه، ولا يَعني هذا تَفكُّكَ القَصيدةِ وافْتِقارَها إلى الوَحْدةِ العُضويَّةِ، بلْ إنَّ ذلِك مِثلُ الكَلِمةِ المُفرَدةِ الَّتي تُؤدِّي مَعنًى مُعْجَميًّا مَفْهومًا بذاتِه، لكنْ لا يَتَّضِحُ ذلِك كَمالَ الاتِّضاحِ إلَّا إذا جاءَتْ في مَوقِعِها في جُمْلتِها. وهذا النَّوْعُ مِن الوَحْدةِ هو ما قالَ فيه ابنُ رَشيقٍ: (ومِنَ النَّاسِ مَن يَسْتحسِنُ الشِّعْرَ مَبْنيًّا بعضُه على بعضٍ، وأنا أسْتَحسِنُ أن يكونَ كلُّ بَيْتٍ قائِمًا بنفْسِه، لا يَحْتاجُ إلى ما قبْلَه ولا إلى ما بعْدَه، وما سِوى ذلِك فهو عنْدي تَقْصيرٌ) [147] ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (1/ 261). .
فعلى سَبيلِ المِثالِ إذا تَأمَّلْنا قَولَ الشَّاعِرِ:
صَفَحْنا عن بَني ذُهْلٍ
وقُلْنا: ‌القَوْمُ ‌إخْوانُ
عَسى الأيَّامُ أن يَرْجِعْ
نَ حَيًّا كالَّذي كانوا
فلمَّا صرَّحَ الشَّرُّ
وأمْسى وهْو عُرْيانُ
ولم يَبْقَ سِوى العُدوا (م) نِ دِنَّاهُمْ كَما دانوا
مَشيْنا مِشيةَ اللَّيثِ
بَدا واللَّيثُ غَضْبانُ
بضَرْبٍ فيه تَوْهينٌ
وتَضْجيعٌ وإذْعانُ
وطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ
وهَى والزِّقُّ مَلْآنُ
وفي الشَّرِّ نَجاةٌ حي
نَ لا يُنْجيكَ إحْسانُ [148] ينظر: ((ديوان الحماسة)) للبحتري (ص:137).
تَرى أنَّ المَقْطوعةَ برُمَّتِها تُفيدُ غَرَضًا واحِدًا، وهو أنَّ قَوْمَه صَفَحوا عن جَهالةِ بَني ذُهْلٍ، وتَحَمَّلوا إساءتَهم بداعي الأُخوَّةِ، حتَّى إذا كشَّروا عن أنْيابِ الحَرْبِ وصَرَّحوا لهم بوَجْهِ الكَراهيَةِ، لم يَبْقَ مَجالٌ للصَّفْحِ، فتَكالَبَ قَوْمُه عليهم، وكَرُّوا عليهم كَرَّةً أبادَتْهم عن آخِرِهم.
غيْرَ أنَّ كلَّ بَيْتٍ مِن تلك الأبْياتِ انْفَردَ بمَعنًى مِن المَعاني الجُزْئيَّةِ الَّتي لم يُحتَجْ في بَيانِها إلى ما قبْلَه أو ما بعْدَه مِن الأبْياتِ؛ ففي البَيْتِ الأوَّلِ ذَكَرَ صَفْحَ قَوْمِه عن بَني ذُهْلٍ، وفي الثَّاني بيَّنَ سَببَ الصَّفْحِ، وهو أنَّه رُبَّما تُعيدُ الأيَّامُ الأُخوَّةَ على ما كانَتْ عليه، وفي الثَّالِثِ ذَكَرَ سَبَبَ اخْتِلافِ الحالِ عمَّا كانَتْ عليه، وهو تَصْريحُهم بالشَّرِّ، وفي الرَّابِعِ يُبيِّنُ أنَّ الحالَ صارتْ مِن الخُطورةِ بحيثُ لا يَحْتمِلُ سِوى العُدوانِ، وفي الخامِسِ بَيانُ صِفةِ القُدومِ عليهم والهُجومِ على قُراهم، وفي السَّادِسِ صِفةُ الضَّرْبِ، والسَّابِعِ صِفةُ الطَّعْنِ، وفي الثَّامِنِ حِكْمةٌ مِن حِكَمِ الشَّاعِرِ الَّتي تَنْطبِقُ على جَميعِ تلك الأبْياتِ معًا.
فإذا تَدبَّرَ القارِئُ الأبْياتَ وجَدَ أنَّها جَميعًا تَتَكاتَفُ في وَحْدةٍ عُضْويَّةٍ، بحيثُ لا يَجوزُ حَذْفُ بَيْتٍ أو تَقْديمُه على غيْرِه أو تَأخيرُه.
أمَّا عن الوَحْدةِ المَوْضوعيَّةِ فإنَّ فَريقًا مِن النُّقادِ هاجَموا القَصيدةَ العَربيَّةَ الجاهِليَّةَ، وقالوا إنَّها خالِيةٌ مِن الوَحْدةِ المَوْضوعيَّةِ.
ومَعنى الوَحْدةِ المَوْضوعيَّةِ: أن تَأتيَ القَصيدةُ في مَوْضوعٍ واحِدٍ لا تَتَعدَّاه إلى غيْرِه.
وهُمْ في رَأيِهم هذا مُتأثِّرونَ بالآدابِ الغَربيَّةِ، فلمَّا رَأَوُا القَصيدةَ في الشِّعْرِ الإنْكليزيِّ وغيْرِه تَدورُ حَوْلَ مَوْضوعٍ واحِدٍ، ظنُّوا أنَّ ذلك هو الشِّعْرُ حقًّا، وأنَّ ما عداه ضَرْبٌ مِن السُّخْفِ والهَزْلِ، وساعَدَهم على هذا قِلَّةُ عِلمِهم بالشِّعْرِ الجاهِليِّ وطَبيعتِه، فأَكْثَرُهم لا يَحفَظُ الشِّعْرَ الجاهِليَّ، ولا يَعرِفُ مِنه إلَّا البَيْتَ والبَيْتَينِ، وإنَّما يُردِّدُ ما ردَّدَه النَّقَلةُ والرُّواةُ.
يقولُ طه حسين: (ما سَمِعْتُ مِن خُصومِ الشِّعْرِ القَديمِ حَديثَهم عن وَحْدةِ القَصيدةِ عنْدَ المُحْدَثينَ وتَفَكُّكِها عنْدَ القُدَماءِ إلَّا ضَحِكْتُ وأَغْرَقتُ في الضَّحِكِ، والعَجيبُ أنْ تَنْشَأَ الأساطيرُ في العَصْرِ الحَديثِ، وأن تَنْموَ ويَعظُمَ أمْرُها، وتُسَيطِرَ على العُقولِ، معَ أنَّ عَهْدَ الأساطيرِ قدِ انْقَضى، وأصْبَحَ العَقْلُ الحَديثُ أذْكى وأرْقى وأدْنى إلى الحَذَرِ والفِطْنةِ مِن أن يُذعِنَ لها أو يَنْخدِعَ بها، وتَفكُّكُ القَصيدةِ العَربيَّةِ واقْتِصارُ وَحْدتِها على الوَزْنِ والقافِيةِ دونَ المَعنى أسْطورةٌ مِن هذه الأساطيرِ الَّتي أنشَأَها الافْتِنانُ بالأدَبِ الأوْروبيِّ الحَديثِ، والقُصورُ عن تَذوُّقِ الأدَبِ العَربيِّ القَديمِ، والَّذين يُنكِرونَ الوَحْدةَ المَعْنويَّةَ للقَصيدةِ العَربيَّةِ القَديمةِ إنَّما يُدفَعونَ إلى هذا الإنْكارِ لسَبَبَينِ:
الأوَّلُ: أنَّهم لا يَدرُسونَ الشِّعْرَ القَديمَ كما يَنْبغي، ولا يَتعمَّقونَ في أسْرارِه ومَعانيه، وإنَّما يَدرُسونَه دَرْسَ تَقْليدٍ، ويُصَدِّقونَ فيه ما يُقالُ لهم مِنَ الكَلامِ، في غيْرِ تَحْقيقٍ ولا اسْتِقصاءٍ، وهم يَحْفَظونَ مِنه البَيْتَ والأبْياتَ، وقَلَّ مِنهم مَن يَحفَظُ القَصيدةَ كامِلةً، ويَدرُسُها كامِلةً، فَضْلًا عن أن يَحفَظَ القَصائِدَ الطِّوالَ ...، وهُمْ مِن هذه النَّاحيةِ يَجْهَلونَ هذا الشِّعْرَ، ويَقْضونَ عليه حينَ يَقْضونَ قَضاءَ الجُهَّالِ.
والسَّببُ الآخَرُ الَّذي يَدفَعُ المُثقَّفينَ المُحْدَثينَ إلى إنْكارِ هذه الوَحْدةِ المَعْنويَّةِ في القَصيدةِ يَأتي مِن أنَّهم يَقْبَلونَ ما يَقولُه الرُّواةُ، وما يَنْقُلونَه إليهم، في غيْرِ تَحفُّظٍ ولا احْتِياطٍ ولا تَحْقيقٍ، ويَنْسَونَ أنَّ كثيرًا جدًّا مِن الشِّعْرِ القَديمِ لم يُنقَلْ إلى الأجْيالِ مَكْتوبًا، وإنَّما نَقلَتْه الذَّاكِرةُ، فأضاعَتْ مِنه وخلَطَتْ فيه، ولم تُحسِنِ الرِّوايةَ، فكَثُرَ الاضْطِرابُ في هذا الشِّعْرِ، وخُيِّلَ إلى المُحدَثينَ أنَّ هذا الاضْطِرابَ طَبيعيٌّ في الشِّعْرِ القَديمِ) [149] ((حديث الأربعاء)) لطه حسين (ص: 36-38). .
على أنَّ هؤلاء المُتَهجِّمينَ على الشِّعْرِ الجاهِليِّ، الَّذين اتَّهموه بتَعدُّدِ المَوْضوعاتِ وعَدَمِ الوَحْدةِ، لو أنْعَموا النَّظَرَ في القَصيدةِ الجاهِليَّةِ، ودَرَسوا ظُروفَ إنْشادِ القَصيدةِ النَّفْسيَّةَ والطَّبيعيَّةَ، وطَبيعةَ الحَياةِ في المُجْتمَعِ الجاهِليِّ، لَوَجَدوا أنَّ القَصيدةَ وإن تَعدَّدَتْ أغْراضُها فإنَّها تَصُبُّ في نَهْرٍ واحِدٍ، وتَدورُ في فَلَكِ مَوْضوعٍ واحِدٍ، فإنَّ الشَّاعِرَ قد يَبدَأُ قَصيدتَه بالغَزَلِ أو ببُكاءِ الأطْلالِ تَمْهيدًا يَربِطُ به بيْنَ حالتِه الشِّعْريَّةِ وبيْنَ غَرَضِه الَّذي ساقَ الشِّعْرَ له، فما ذِكْرُ الأطْلالِ والبُكاءُ عليها ووَصْفُ ما أصابَه مِن الرِّحلةِ إلَّا فِكرةٌ ثانويَّةٌ تَخدُمُ الغَرَضَ الأوَّليَّ والمَوْضوعَ الأساسيَّ للمَوْضوعِ.
 على أنَّ بعضَ الباحِثينَ يَذهَبُ بالمُقدِّمةِ الطَّلَليَّةِ إلى تَأويلٍ آخَرَ، يَدفَعُ إلى القولِ بتَماسُكِ القَصيدةِ وإثْباتِ وَحْدتِها المَوْضوعيَّةِ، وذلِك حينَ يَرى أنَّ الأطْلالَ الَّتي يَتَحدَّثُ عنها الشَّاعِرُ ليستْ على حَقيقتِها، وإنَّما هي رَمْزٌ يَسْتخدِمُه الشَّاعِرُ، ويَرمُزُ به لمَوْضوعِه الَّذي يَتَحدَّثُ عنه؛ فالطَّلَلُ رَمْزٌ للزَّمَنِ الَّذي يَتَّسِمُ -رَغْمَ ما يَشوبُه مِن القَسْوةِ- بالإيجابيَّةِ، فليس الطَّلَلُ قَيْدًا أو إشْكالًا مُغلَقًا في حَياةِ الإنْسانِ، وإنَّما هو إطارٌ يَتَمنَّاه الشَّاعِرُ ويَنْتمي إليه، ويَتَمنَّى أن يَعودَ [150] ينظر: ((قراءة ثانية لشعرنا القديم)) لمصطفى ناصف (ص:61). .
وفي هذا السَّبيلِ يَتَّجِهُ الدُّكتورُ مُحمَّد أبو موسى، ويَذهَبُ إلى تَفْسيرِ المُقدِّمةِ الطَّلَليَّةِ لزُهَيْرٍ في مُعلَّقتِه على هذا النَّحْوِ، فيُوضِّحُ فَكَّ تلك الرُّموزِ بقولِه: (وكَلِمةُ: "أمِّ أوْفى" أصْلُ مَعْناها الوَفاءُ، ولا وَفاءَ أوْجَبُ عنْدَ النَّاس مِن الوَفاءِ بعَهْدِ صُلْحٍ يَنبِذُ النَّاسُ الحَرْبَ به، ويَأمَنُ بعضُهم بعضًا به، وقد وُجِدَتْ عَلاقةٌ ظاهِرةٌ بيْنَ أسْماءِ الصَّاحِبةِ ومَضْمونِ القَصائِدِ في شِعْرٍ كَثيرٍ، وقد نَبَّهْتُ على ذلِك، ونُصيبُ ونُخْطِئُ ونَرْجو أن يكونَ خَطَؤُنا سَبيلًا إلى صَوابِ غيْرِنا، ثُمَّ إنَّ كَلِمةَ الدِّمْنةِ بمَعنى آثارِ الدِّيارِ وما اسْودَّ مِنها تَأتي كَثيرًا بمَعنى الحِقْدِ والضَّغينةِ في القَلْبِ، الَّتي لا يُفصِحُ عنها صاحِبُها، وذَكَرَ زُهَيْرٌ الدِّمْنةَ بِهذا المَعنى، واسْتَبعَدَ أن تكونَ مِن أخْلاقِ الكِرامِ في مَدْحِه لهَرِمٍ بقَولِه:
يَطلُبُ بالوِتْرِ أقْوامًا فيُدرِكُهمْ
حينًا ولا يُدرِكُ الأَعْداءَ بالدِّمَنِ [151] بيتٌ من بَحرِ البسيط لزهير بن أبي سلمى، لم أقِفْ عليه في ديوانِه. ويُنظر: ((مختارات شعراء العرب)) لابن الشجري (2/ 7).
يُريدُ: ليستِ الضَّغينةُ والحِقْدُ الكامِنُ في النُّفوسِ طَريقًا يَسلُكُه في قِتالِ الأقْوامِ، وإنَّما شأنُه شأنُ الأقْوياءِ يَطلُبُ وِتْرَه بسَيْفِه جِهارًا نَهارًا.
ثُمَّ إنَّ النَّباتَ الَّذي يَنبُتُ على دِمَنِ الثَّرى يَأتي في كَلامِهم مَثَلًا للعَلاقاتِ الَّتي ظاهِرُها المُسالَمةُ وفي باطِنِها البَغْضاءُ، وذلِك كقولِ الشَّاعِرِ الَّذي رَواه ابنُ الأنْباريِّ [152] بيتٌ من الطَّويل لزفر الكلابي. يُنظر: ((شرح نقائض جرير والفرزدق)) لأبي عبيدة معمر بن المثنى (3/ 896)، ((حماسة البحتري)) (ص: 68). وبلا نسبة في ((شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات)) لابن الأنباري (ص: 237). :
وقدْ يَنبُتُ المَرْعى على دِمَنِ الثَّرى   وتَبْقى حَزازاتُ النُّفوسِ كما هيا
وهذه الدِّمْنةُ الَّتي لم تَتَكلَّمْ تُشيرُ إشارةً ظاهِرةً إلى ما طَوى عليه الحُصَينُ بنُ ضَمْضَمٍ كَشْحَه، وأنَّه تُوشِكُ أن تكونَ المُسْتكنَّةَ، وضَعَ قولَه: "فلا هو أبْداها ولم يَتكلَّمِ"، بإزاءِ قولِه: "دِمَنٌ لم تَكلَّمِ") [153] ((الشعر الجاهلي دِراسة في منازع الشعراء)) لمحمد أبو موسى (ص340).
فتَبيَّنَ بهذا أنَّ مُقدِّماتِ الشِّعْرِ الجاهِليِّ مُتلاصِقةٌ بالغَرَضِ كتَلاصُقِ الجِلْدِ باللَّحْمِ، ويَتَرتَّبُ على ذلك أنَّ الشِّعْرَ الجاهِليَّ تَوافَرتْ فيه الوَحْدةُ العُضْويَّةُ والمَوْضوعيَّةُ، وتَكامَلتْ أجْزاؤُه، واتَّصلَتْ مُقدِّمتُه بمَوْضوعِه، وجاءَ تامَّ النَّسْجِ والتَّرْكيبِ، على أنَّ تَوافُرَ الوَحْدةِ المَوْضوعيَّةِ وعَدَمَها ليست مَناطًا للحُكْمِ على القَصائِدِ بالجَودةِ؛ بلِ العِبْرةُ بحُسْنِ التَّعْبيرِ ورَوْعةِ البَيانِ وتَمامِ إيصالِ المَعنى، فحتَّى وإن افْتَقدَتِ القَصيدةُ الجاهِليَّةُ الوَحْدةَ المَوْضوعيَّةَ فإنَّ الشِّعْرَ الجاهِليَّ يَبْقى أسْمى ما وصَلَنا مِن المادَّةِ الأدَبيَّةِ العَربيَّةِ، الَّتي ظلَّتْ على مَرِّ السِّنينَ ميزانًا تُقاسُ به بَلاغةُ الشَّاعِرِ ونُبوغُه.

انظر أيضا: