موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّالِثُ: رِوايةُ الشِّعْرِ في أواخِرِ عَصْرِ بَني أُمَيَّةَ حتَّى تَدْوينِ الشِّعْرِ وكِتابتِه


ظهَرَ في النِّصْفِ الثَّاني مِن عَهْدِ الأُمَويِّينَ رُواةٌ للشِّعْرِ على نَمَطٍ مُختلِفٍ عمَّا كانَ عليه الرُّواةُ قَديمًا؛ فقدْ ذَكَرْنا أنَّ الرُّواةَ كانوا عُمومَ أبْناءِ القَبيلةِ الَّذين يَفخَرونَ بما رَواه شاعِرُهم في ذِكْرِ مَآثِرِهم ونَحْوِ ذلِك، أو كانَ الرُّواةُ مِن الشُّعَراءِ الَّذين يُحسِنونَ رِوايةَ الشِّعْرِ ونَظْمَه، إلَّا أنَّه معَ اسْتِقرارِ الأمْرِ واتِّساعِ رُقْعةِ الدَّولةِ، ظهَرَ الرُّواةُ العُلَماءُ الَّذين انْبَعثوا مِنَ الحَواضِرِ إلى البَوادي، واحْتَرفوا جَمْعَ الشِّعْرِ ورِوايتَه دونَ أن يكونوا مِن أهْلِه الَّذين يَنْظِمونَه ويَقرِضونَه، فاعْتَنَوا بجَمْعِ الشِّعْرِ مُطلَقًا ورِوايتِه، فتَتَبَّعوا الشُّعَراءَ والرُّواةَ في كُلِّ القَبائِلِ والمُدُنِ، فسمِعوا وحفِظوا وضَبَطوا، أو قيَّدوا ما سمِعوه.
ومِن أهَمِّ هؤلاءِ الرُّواةِ أبو عَمْرِو بنُ العَلاءِ، وحَمَّادٌ الرَّاويةُ، وخَلَفٌ الأَحْمَرُ، ومُحمَّدُ بنُ السَّائِبِ الكَلبيُّ، والمُفضَّلُ الضَّبِّيُّ، وغيْرُهم، ومعَ مُرورِ الوَقْتِ وتَشعُّبِ العِلمِ كانَ طَبيعيًّا أن يَنالَ الاختِلافُ مِن هؤلاء ما نالَ أصْحابَهم اللُّغويِّينَ، فتَفرَّقَ الرُّواةُ إلى مَدْرسَتَينِ مُختَلِفتَينِ:
مَدْرَسةُ البَصْرةِ: ورأسُها أبو عَمْرِو بنُ العَلاءِ التَّميميُّ، الإمامُ الثِّقةُ، صاحِبُ القِراءةِ وشَيخُ العَربيَّةِ، وهو أحَدُ مُؤَسِّسي المَدْرَسةِ البَصْريَّةِ في اللُّغةِ والنَّحْوِ.
وتَلاه في تلك المَدْرَسةِ معَ صِدْقِه وأمانتِه وضَبْطِه عبْدُ المَلِكِ بنُ قُرَيبٍ الأصْمَعيُّ، الَّذي عاصَرَ نَظيرَه خَلَفًا الأحْمَرَ المَشْهورَ بالكَذِبِ والوَضْعِ كذلك، إلَّا أنَّ الأصْمَعيَّ كانَ يَقِفُ له ويُفنِّدُ قولَه.
ومَدْرَسةُ الكوفةِ: ورَأسُها حَمَّادُ بنُ سابورَ، المَشْهورُ بحَمَّادٍ الرَّاويةِ، كانَ ماجِنًا كاذِبًا فاسِدَ المُروءةِ، اشْتَهرَ بالوَضْعِ في الرِّوايةِ، معَ كَثْرةِ حِفْظِه وسَعَةِ عِلْمِه، ونَظيرُه في عَدَمِ الضَّبْطِ، والتَّخْليطِ والكَذِبِ: جَنَّادُ بنُ واصِلٍ الكوفيُّ، وكذلك بَرْزَخٌ العَروضيُّ.
وقد حَظِيَتْ مَدْرَسةُ الكوفةِ ببَعضِ الثِّقاتِ الحُفَّاظِ أمْثالِ المُفضَّلِ الضَّبِّيِّ صاحِبِ المُفَضَّليَّاتِ، الَّذي كان عالِمًا بأخْبارِ الجاهِليَّةِ وأيَّامِها وأشْعارِ العَربِ فيها وأنْسابِهم، وقدِ اتَّفقَ البَصْريُّونَ والكوفيُّونَ على فَضْلِه وصِدْقِه وإمامتِه.
وقد عرَفَتْ مَدْرَسةُ البَصْرةِ التَّشدُّدَ في قَبولِ الرِّواياتِ ونِسبةِ الأبْياتِ والقَصائِدِ إلى الشُّعَراءِ المُبَرَّزينَ، وهذا أمْرٌ لم تَعْتَدْه مَدْرَسةُ الكوفةِ [99] يُنظر: ((الأغاني)) لأبي الفرج الأصفهاني (6/ 89)، ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (1/147)، ((نمط صعب نمط مخيف)) لمحمود شاكر (ص: 38). .
وعلى أيْدي رُواةِ المَدْرستَينِ ومَن بعْدَهم تَمَّ تَدْوينُ الشِّعْرِ الجاهِليِّ على صُوَرٍ وأحْوالٍ مُخْتلِفةٍ؛ فمِنهم مَن دَوَّنَ اخْتِياراتِه مِن الشِّعْرِ؛ كصَنيعِ المُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ في "المُفَضَّليَّاتِ"، والأَصْمَعيِّ في "الأصْمَعيَّاتِ"، وغَيْرِهما، ثُمَّ انْتَشرَتْ حَرَكةُ التَّدْوينِ في اللُّغةِ والأدَبِ والشِّعْرِ عُمومًا؛ وذلِك اسْتِشعارًا مِنهم بحاجةِ النَّاسِ الشَّديدةِ للشِّعْرِ وعِنايتِهم الكَبيرةِ به، ولِخَوْفِ العُلَماءِ على الشِّعْرِ مِن الضَّياعِ، وخاصَّةً عنْدَما فسَدَتِ السَّليقةُ العَربيَّةُ، واخْتَلطَ العَربُ بالأعاجِمِ، فدَوَّنوا الأشْعارَ وكتَبوها خَشيةَ الضَّياعِ أوِ التَّحْريفِ والتَّبْديلِ، واشْتَدَّتْ عِنايتُهم بذلِك، وانْتَشرَتْ حَرَكةُ التَّدْوينِ في اللُّغةِ والأدَبِ والشِّعْرِ، فجاءَتِ الكُتُبُ بعْدَ ذلِك تَترَى، ولولاها لَضاعَ الشِّعْرُ ولَطُمِسَتْ مَعالِمُ اللُّغةِ.

انظر أيضا: