موسوعة اللغة العربية

الفَصْلُ الثَّامِنُ: أسْبابُ الإبْداعِ الأدَبيِّ، ومُعَوِّقاتُه


الأدَبُ العَربيُّ شأنُه شأنُ أيِّ نَشاطٍ إنْسانيٍّ يَخضَعُ لمُؤثِّراتٍ مُخْتلِفةٍ تُؤثِّرُ فيه إيجابًا وسَلْبًا؛ فهناك العَديدُ مِنَ المُؤثِّراتِ الَّتي تَفرِضُ نفْسَها على الحَياةِ الأدَبيَّةِ، ويُؤثِّرُ وُجودُها إيجابًا وسَلْبًا في ارْتِقاءِ العَمَلِ الفَنِّيِّ وانْحِطاطِه.
ومِن أبْرَزِ هذه المُؤثِّراتِ بصورةٍ إجْماليَّةٍ ما يأتي:
1- الطَّبْعُ والمَوْهِبةُ: إنَّ أوَّلَ آلاتِ العَمَلِ الأدَبيِّ وأهمَّ أدَواتِه هو وُجودُ المَلَكةِ القادِرةِ على النَّسْجِ والتَّأليفِ، فإذا لم يكنِ الَّذي يُنشِئُ العَمَلَ الأدَبيَّ مَوْهوبًا مَفْطورًا على الإنْشاءِ والتَّدْوينِ، لم يُفِدْه شيءٌ، بل كانَ غايةُ ما يَصِلُ إليه أن يَسبِكَ نَصًّا فِكريًّا يَفتقِرُ إلى مَلمَسِ الأديبِ وأُسلوبِه؛ ولِهذا قال ضِياءُ الدِّينِ بنُ الأثيرِ: (اعْلَمْ أنَّ صِناعةَ تَأليفِ الكَلامِ مِنَ المَنْظومِ والمَنْثورِ تَفتقِرُ إلى آلاتٍ كَثيرةٍ، وقد قيلَ: يَنْبغي للكاتِبِ أن يَتعلَّقَ بكلِّ عِلمٍ، حتَّى قيلَ: كلُّ ذي عِلمٍ يَسوغُ له أن يَنسُبَ نفْسَه إليه فيقولَ: فُلانٌ النَّحْويُّ، وفُلانٌ الفَقيهُ، وفُلانٌ المُتكلِّمُ، ولا يَسوغُ له أن يَنسُبَ نفْسَه إلى الكِتابةِ فيقولَ: فُلانٌ الكاتِبُ؛ وذلك لِما يَفتقِرُ إليه مِنَ الخَوْضِ في كلِّ فَنٍّ.
ومِلاكُ هذا كلِّه الطَّبْعُ؛ فإنَّه إذا لم يكنْ ثَمَّ طَبْعٌ فإنَّه لا تُغْني تلك الآلاتُ شيئًا، ومَثَلُ ذلك كمَثَلِ النَّارِ الكامِنةِ في الزِّنادِ، والحَديدةِ الَّتي يُقدَحُ بها؛ ألَا تَرى أنَّه إذا لم يكنْ في الزِّنادِ نارٌ لا تُفيدُ تلك الحَديدةُ شيئًا؟!) [32] ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 27). .
2- الأحْوالُ الاجْتِماعيَّةُ:
سبَقَ أن ذَكَرْنا أنَّ الأديبَ يَتأثَّرُ ببيئتِه ومُجْتمَعِه، وأنَّ الشِّعرَ إنَّما هو مَظهَرٌ اجْتِماعيٌّ قبْلَ أن يكونَ لَونًا أدَبيًّا؛ فإنَّ الأديبَ إنَّما يَتحدَّثُ ليُبيِّنَ مَشاكِلَ قومِه ويُعالِجَها، بل إنَّ اللُّغةَ يَتِمُّ تَناوُلُها مِنَ المَنْظورِ الاجْتِماعيِّ قبْلَ أيِّ مَنْظورٍ آخَرَ.
لِذا فمِنَ البَدَهيِّ أن تَتَباينَ مُسْتَوياتُ أداءِ الأديبِ باخْتِلافِ الحالةِ الاجْتِماعيَّةِ الَّتي يَمُرُّ بها؛ فمَثَلًا تَشيعُ في كُتُبِ الأدَبِ مَفاخِرُ الشُّعَراءِ والخُطَباءِ بانْتِصارِ قَوْمِهم على أعْدائِهم، في حينِ يَنْعدِمُ أو يَندُرُ أن تَرى شاعِرًا أو ناثِرًا يَكتُبُ شيئًا بعْدَ انْهِزامِ قَوْمِه.
كذلك فإنَّ المُجْتمَعَ إذا كان مُشجِّعًا للشُّعراءِ والأُدَباءِ والعُلَماءِ، يَدعَمُهم ويُؤازِرُهم ويَرْوي عنهم ويَنقُلُ مآثِرَهم، كان ذلك أدْعى للشَّاعِرِ على اسْتِكمالِ طَريقِه، في حينِ أنَّ مُجْتمَعًا إذا أهْمَلَ ذلك قَلَّ أن يُؤثِّرَ ذلك في أُدَبائِه بصورةٍ إيجابيَّةٍ، أو على الأقَلِّ ألَّا يَتأثَّرَ أدَبُه به.
ولا يَعْني هذا أنَّ الأديبَ إنَّما يَنشَطُ قَلَمُه ويَتَّقِدُ ذِهْنُه إذا خَلا المُجتمَعُ مِنَ المَشاكِلِ والأزَماتِ؛ فإنَّ الشَّاعِرَ لِسانُ مُجْتمَعِه ومُصلِحُهم، وكم مِن مَصائِبَ أَجَّجتْ مَوهِبةَ الشُّعراءِ وألْهَبتْها، وما أكْثَرَ النِّزاعاتِ الَّتي انْتَهتْ بنَظْمِ شاعِرٍ أو تَأليفِ أديبٍ، وأخرى اتَّقدَتْ بكَلِمةٍ جَرَتْ معَ الرِّيحِ!
والمُرادُ أنَّ بعضَ الأزَماتِ والمَواقِفِ الاجْتِماعيَّةِ تَمُرُّ على الأديبِ فتُخرِسُه، فلا يَسْتطيعُ معَها أن يَنطِقَ ببِنْتِ شَفَةٍ، وأخرى تَجعَلُ قَريحتَه بارِدةً فاتِرةً، لا يَنهَضُ لها قَلَمٌ ولا تَطرَبُ لها أُذُنٌ، والإشْكاليَّةُ عِنْدَما يَعُمُّ مُناخٌ عامٌّ سَلْبيٌّ تِجاهَ الإبْداعِ والمُبْدِعينَ، وازْدِراءٌ لأصْحابِ العَطاءِ الحَقيقيِّ على حِسابِ الشَّهَواتِ المادِّيَّةِ الآنيَّةِ، فهنا يَكمُنُ الخَلَلُ الحَقيقيُّ الَّذي تَضْمحِلُّ فيه حَرَكةُ الإبْداعِ في سائِرِ العُلومِ والفُنونِ.
3- الأحْوالُ السِّياسيَّةُ:
إذا كانتِ الحَياةُ بأسْرِها تَتأثَّرُ بالأحْوالِ السِّياسيَّةِ للبِلادِ، فمِن الطَّبيعيِّ أن يَتأثَّرَ الأديبُ بذلك، خاصَّةً أنَّه إنْسانٌ مِن بَني الوَطَنِ، يَتأثَّرُ بما يَتأثَّرُ به مُجْتمَعُه، وفَوقَ هذا فهو مِرآةُ شَعْبِه ولِسانُ مُجْتمَعِه.
فلا عَجَبَ إذَنْ أن تَتأثَّرَ الحَياةُ الأدَبيَّةُ بتَغايُرِ الأحْوالِ السِّياسيَّةِ؛ ولِهذا تَرى أوْجَ ازْدِهارِ الأدَبِ في عُصورِ الاسْتِقرارِ السِّياسيِّ، في حينِ يُلجِئُ القَهْرُ والاسْتِبدادُ الأُدَباءَ إلى السُّكوتِ، فَضْلًا عنِ التَّملُّقِ والمُداهَنةِ بمَدْحِ الحاكِمِ الظَّالِمِ ووَصْفِه بما ليس فيه.
4- الأحْوالُ الاقْتِصاديَّةُ:
 لا رَيْبَ أنَّ الحَياةَ الاقْتِصاديَّةَ تُؤثِّرُ في المُجْتمَعِ بأسْرِه؛ فإنَّ المُجْتمَعَ إذا هُدِّدَ في أمْنِه الماليِّ كان أبْعَدَ عن نَسْجِ الشِّعرِ وتَأليفِ النَّثْرِ.
ولِهذا اعْتَنى الشُّعَراءُ بذِكْرِ الحَرْثِ والزَّرْعِ، ووَصْفِ الأنْهارِ والأمْطارِ وهُبوبِ الرِّيحِ ونَحْوِ ذلك؛ تَقْديرًا مِنهم لأهمِّيَّةِ الاسْتِقرارِ الاقْتِصاديِّ.
ولِهذا كان يَتَغنَّى الشُّعَراءُ بالأماجِدِ في أقْوامِهم، الَّذين يُفرِّقونَ المالَ في ضُعَفاءِ النَّاسِ وفُقَرائِهم، وما امْتَدحوا بَخيلًا مُمسِكًا يَضَنُّ بما آتاه اللهُ على أهْلِه وذَويه.
وعلى النَّقيضِ ظهَرَتْ جَماعةُ شُعَراءِ الصَّعاليكِ، الَّذين يَتَلصَّصونَ ويَنهَبونَ الأمْوالَ مِن الأغْنياءِ؛ لا ليَنْتفِعوا بها، وإنَّما ليُوزِّعوها على الفُقَراءِ، فكانَ مِن أشْهَرِ الصَّعاليكِ تَأبَّطَ شَرًّا، وعُرْوةُ بنُ الوَرْدِ، والشَّنْفَرى، وغَيْرُهم، الَّذين أكْثَروا في شِعرِهم مِن ذِكْرِ غاراتِهم الَّتي شَنُّوها على الأثْرياءِ، وكيف أفْلَتوا مِن مَوْتٍ مُحقَّقٍ، وكيف اسْتَبْسلَ بعضُهم في الدِّفاعِ عن حُقوقِ الفُقَراءِ.

انظر أيضا: