موسوعة اللغة العربية

الفَصلُ الثَّاني: ابنُ الأثيرِ (ت: 606هـ)


أبو السَّعادات مجدُ الدِّينِ المُبارَكُ بنُ أبي الكَرمِ مُحَمَّد بن مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الكريمِ بنِ عَبدِ الواحِدِ الشَّيبانيُّ، الشَّافعيُّ، المعروفُ بابنِ الأثيرِ الجَزَريِّ، الأديبُ، النَّحْويُّ.
مَوْلِدُه:
وُلِد سَنةَ أربعٍ وأربعين وخَمسِ مِائةٍ.
مِن مَشَايِخِه:
أبو الفَضلِ الطوسي، وسعيدُ بنُ المبارَكِ الدَّهَّان، ويحيى بن سَعْدُون، وعبدُ المُنعِمِ بنُ كُلَيبٍّ، ويَعيشُ بنُ صَدَقةَ، وابنُ سَكينةَ.
ومِن تَلَامِذَتِه:
ابنُ الدبيثي، والقُوصي، ومجدُ الدِّينِ العقيليُّ، وشَرَفُ الدِّينِ ابنُ عَساكِرَ، وفَخرُ الدِّينِ بنُ البخاريِّ.
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:
العَلَّامةُ، الفَقيهُ، المُحَدِّثُ، النَّسَّابةُ، العالِمُ بصَنعةِ الحِسابِ والإنشاءِ، الكاتِبُ البَليغُ، أشهرُ العُلماءِ ذِكْرًا، وأكبَرُ النُّبَلاءِ قَدْرًا، وأحَدُ الأفاضِلِ المُشارِ إليهم، وكان بارِعًا في التَّرَسُّلِ مَعَ الأمانة والتَّواضُعِ والكَرَمِ، وكان وَرِعًا عاقِلًا بهيًّا، ذا بِرٍّ وإحسانٍ، وكان فاضِلًا وسيِّدًا كامِلًا قَد جَمَعَ بَينَ عِلمِ العَرَبيَّة والقُرآنِ والنَّحوِ واللُّغةِ، والحَديثِ وشُيوخِه وصِحَّتِه وسَقَمِه، والفِقْهِ، وكانت دارُه مَجْمَعَ الفُضَلاءِ، وكان مُكَمَّلًا في الفضائِلِ، حَصَلَ له مَرَضٌ مُزمِنٌ (فالج) أبطَلَ يَدَيه ورِجْلَيه وعَجزَ عَنِ الكِتابةِ، وأقامِ بدارِه وأنشَأ رِباطًا بَقَريةٍ مِن قُرَى الموصِلِ ووقَفَ أملاكَه عليه فأقامَ به.
مُصنَّفاتُه:
مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((جامِعُ الأُصولِ في أحاديثِ الرَّسول))، وكتاب: ((النِّهايةُ في غَريبِ الحَديثِ والأَثَر))، وكتاب: ((الإنصاف في الجَمعِ بين الكَشْف والكَشَّاف في تفسير القُرآنِ الكريم))، وكتاب: ((المصطفى والمختار في الأدعية والأذكار))، وكتاب: ((البديع في شرح الفُصول في النَّحْو لابن الدَّهَّان))، وكتاب: ((الشَّافي في شرح مسند الإمام الشَّافعي)).
عَقيدتُه:
ظهَرَت في مُصَنَّفاتِ أبي السَّعاداتِ ملامِحُ عَقيدتِه الأشعَريَّةِ، ويتجلَّى ذلك في قَولِه: ((اليَدُ تُطلَقُ في اللُّغةِ على الجارِحةِ، والنِّعْمةِ، والقُوَّةِ، والقُدرةِ، والمُلْكِ، والسُّلطانِ، والطَّاعةِ، والجَماعةِ، والغِياثِ، ومَنْعِ الظُّلْمِ، والقَهْرِ، والإحسانِ، والذِّلَّةِ، والاستِسلامِ، والنَّقْدِ ضِدِّ النَّسيئةِ. وهذه المعاني جميعُها وارِدةٌ في العَرَبيَّةِ كثيرةُ الإطلاقِ، ولولا الإطالةُ لذكَرْنا أمثِلةً صَحيحةً واستِشْهاداتٍ ثابتةً مِنَ القُرآنِ العزيزِ، والحَديثِ، والشِّعرِ، والكَلامِ الفَصيحِ.
فإذا تدبَّرْنا قَولَه: «فكأنَّما يضَعُها في يَدِ الرَّحمنِ» وعرَضْنا لَفظَ اليَدِ على هذه المُسَمَّياتِ المذكورةِ، رأينا أحسَنَ ما يناسِبُها وأشبَهَها بها بعد امتِناعِها من إطلاقِها على الجارِحةِ، أن يُضافَ إلى يَدِ القُدرةِ والنِّعمةِ، فيُستعارُ للنِّعْمةِ والقُدرةِ، ويضافُ وَضْعُ الصَّدَقةِ إليها، أي: كأنما يضَعُها في يَدِ قُدرتِه وسُلطانِه ونِعْمَتِه ولُطفِه ورَأفتِه؛ ألا ترى كيف أضاف اليَدَ إلى الرَّحمنِ مرَّتينِ مِن بينِ أسمائِه الحُسنى على كثرَتِها؛ إيذانًا باللُّطْفِ والرَّأفةِ والرَّحمةِ، ولم يقُلْ: في يَدِ الجَبَّارِ، ولا يَدِ القَهَّارِ، ولا غيرِ ذلك من باقي الأسماءِ التي ليس فيها ما في الرَّحمنِ. والسَّبَبُ في هذا التأويلِ: أنَّه لَمَّا دلَّ الدَّليلُ القَطعيُّ على أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لا يجوزُ أن يكونَ جِسْمًا ولا جَوْهرًا ولا عَرَضًا، ولا يجوزُ أن يجريَ عليه أحكامُ الأجسامِ والجواهِرِ مِن الحُلولِ والاستِقرارِ، وغَيرِ ذلك مما أوجَبَ العَقْلُ الصَّحيحُ والدَّليلُ الصَّريحُ نَفْيَه عنه، وجاءت لَفظةُ اليَدِ- احتَجْنا أن نحمِلَها على وَجهٍ يُجمَعُ فيه بين الأمرَينِ))
[536] ينظر: ((الشافي في شرح مسند الشافعي)) لأبي السعادات ابن الأثير (3/ 145). .
وقال أيضًا: ((وأمَّا الاستواءُ على العَرْشِ فالمُسلِمون فيه مختَلِفون، والذي ذهب إليه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فيه مذهبانِ:
أحدُهما: أنَّهم أجْرَوا هذه اللَّفْظةَ على ظاهِرِها مجرى غيرِها من آياتِ الصِّفاتِ وأحاديثِها، فلا يُؤَوِّلونها، وقالوا: الاستواءُ صِفةٌ مِن جملةِ صفاتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ لا يُعلَمُ ما هو، ويُنفى عنه التَّشبيهُ والاستقرارُ الذي هو مِن صِفاتِ الإسلامِ، تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الظَّالِمون عُلُوًّا كبيرًا. هذا مَذهَبُ كثيرٍ مِن صالحي السَّلَفِ وأكثَرِ المحَدِّثينَ رحمةُ الله عليهم، أَمَرُّوا الآياتِ والأحاديثَ على ظاهِرِها هَرَبًا من الوُقوعِ فيما لا يَعلَمونَ عاقِبَتَه ولا يتحَقَّقون مَعِيَّتَه، وسُلوكًا في طريقِ السَّلامةِ مِن الزَّيغِ والزَّلَلِ. وهذا وإن كان طريقًا صالِحةً ومَحَجَّةً سالِمةً فإنَّ راكِبَها يدَّرِعُ من التضَرُّرِ جِلْبابًا، ويستَمطِرُ مِن التقليدِ سَحابًا، قانعًا بالوقوفِ عندَ أصحابِ اليمينِ، راضيًا بالتأخُّرِ عن مقاماتِ السَّابِقينَ، ولعَمْرِي قد قال فَضْلًا وحاز من التوفيقِ حَظًّا.
وأمَّا المذهَبُ الثَّاني: وهو الذي صار إليه المحقِّقون من أهلِ الإيمانِ، الفائِزون بالرِّضوانِ؛ فإنَّهم اعتَبَروا الآياتِ والأخبارَ الوارِدةَ، فما جاز إطلاقُ ظاهِرِه على اللهِ عزَّ وجَلَّ وما دلَّت عليه أوضاعُ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ أَجْرَوه بظاهِرِه، ولا يحتاجون فيه إلى تأويلٍ لاستمرارِه في مَنهَجِ الصِّحَّةِ والصِّدقِ، وما لم يجُزْ إطلاقُ ظاهِرِه على اللهِ عزَّ وجَلَّ لقيامِ الدَّليلِ على استِحالةِ إطلاقِ ظاهِرِه عليه أَوَّلُوه تأويلًا تَقْتَضيه اللُّغةُ العَرَبيَّةُ. وقد اطَّرَدَت العادةُ بمِثْلِه فِرارًا من إطلاقِ ظاهِرِه عليه ما لا يجوزُ إطلاقُه على اللهِ عزَّ وجَلَّ، فقالوا في الاستواءِ: إنَّه بمعنى الاستيلاءِ والقُدرةِ عليه، وقد أطلق أهلُ اللُّغةِ الاستواءَ بهذا المعنى في غيرِ الآيةِ، وإنما خُصَّ الاستيلاءُ بالعَرْشِ؛ لأنَّ العَرْشَ أعظَمُ الموجوداتِ، وهو محيطٌ بالكُرسيِّ الذي وَسِعَ السَّمَواتِ والأرضَ، وإذا أضاف الاستيلاءَ إلى أعظَمِ مَوجوداتِه كان ما دونَه أَولى بالاستيلاءِ. هذا ما قاله الرَّاسِخون في العِلْمِ الذين أخبَرَ اللهُ عزَّ وجَلَّ عنهم أنَّهم هم الذين يَعلَمونَ تأويلَ كِتابِه))
[537] ينظر: ((الشافي في شرح مسند الشافعي)) لأبي السعادات ابن الأثير (2/ 151). .
وقال أيضًا: ((في حديثِ القيامةِ: «يَكشِفُ عن ساقِه» السَّاقُ في اللُّغةِ: الأمرُ الشَّديدُ. وكَشْفُ السَّاقِ مَثَلٌ في شِدَّةِ الأمرِ، كما يُقالُ للأقطَعِ الشَّحيحِ: يَدُه مغلولةٌ، ولا يَدَ ثَمَّ ولا غُلَّ، وإنَّما هو مَثَلٌ في شِدَّةِ البُخْلِ. وكذلك هذا؛ لا ساقَ هناك ولا كَشْفَ)) [538] ينظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لأبي السعادات ابن الأثير (2/ 422). .
وَفَاتُه:
تُوفِّي سَنةَ ستٍّ وسِتِّ مِائةٍ [539] يُنظر: ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (5/ 2268) ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (4/ 141)، ((تذكرة الحفاظ)) للذهبي (4/ 129)، ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (8/ 366)، ((طبقات الشافعية)) للإسنوي (1/ 71)، ((التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول)) لصديق حسن خان (ص: 88). .

انظر أيضا: