موسوعة اللغة العربية

الفَصلُ التاسِعُ والثلاثون: ابنُ قُتَيبةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)


أبو مُحَمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ مُسلمِ بنِ قُتَيبةَ الدِّينَوَريُّ، وقيل: المرْوَزيُّ، العلَّامةُ، الكبيرُ، ذو الفنون، النَّحْويُّ اللُّغويُّ.
مَوْلِدُه:
وُلِد ببغدادَ سَنةَ ثلاثَ عَشْرةَ ومائَتَينِ.
مِن مَشَايِخِه:
إسحاقُ بنُ راهَوَيهِ، ومحمد بن زياد الزِّياديُّ، وأبو حاتمٍ السِّجِسْتانيُّ.
ومِن تَلَامِذَتِه:
ابنُه أحمَدُ، وابنُ دُرُسْتُوَيْهِ الفارسيُّ، وعبيد الله السُّكَّري.
عَقيدَتُه:
اختلَف المؤرِّخون في بيانِ عَقيدتِه؛ فقيل: كان من الكَرَّامِيَّة [225] الكَرَّامِّيَّة: طائفةٌ تُنسَب إلى مؤسِّسِها محمَّد بنُ كَرَّام بن عراق بن حزبة السِّجستاني، المتوفى سنة (255 هـ)، ومن بِدَع الكَرَّامِّية قولهم في المعبود تعالى: إنه جسمٌ لا كالأجسامِ. يُنظر: ((العرش)) للذهبي (1/ 139). ، كما وصَفَه البَيْهقيُّ بذلك، وذكر الدَّارَقُطنيُّ أنَّه كان يميلُ إلى التَّشبيهِ. وقال الحافِظُ العَلائيُّ: لم يكُنْ كذلك، بل كان على مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ في عدَمِ التأويلِ، وليس في كُتُبِه ما يدُلُّ على ذلك. وذكَرَ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ أنَّه كان ناصبيًّا يُعادي أهلَ البَيتِ؛ ولهذا قال الحاكِمُ: (اجتَمَعَتِ الأمَّةُ على أنَّ القُتيبيَّ كذَّابٌ)؛ إذ كان في الحاكِمِ تَشيُّعٌ ومَيْلٌ لآلِ البَيتِ؛ ولهذا قال فيه ما قال [226] ينظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (6/ 566)، ((لسان الميزان)) لابن حجر (5/ 9). .
غَيرَ أنَّ كُتُبَ ابنِ قُتَيبةَ جَميعًا تدلُّ على أنَّ الرَّجُلَ كان على السُّنَّةِ لا يَنْفي الصِّفاتِ ولا يُؤَوِّلُها ولا يُشَبِّهُ اللهَ بَخْلِقه، كما أنَّه كثيرًا ما يذكُرُ عليَّ بنَ أبي طالِبٍ ويترَضَّى عليه.
فمن ذلك أنَّه بعد أن أثبَتَ النَّظَرَ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ في الآخِرةِ، قال: (فإنْ قالوا لنا: كيف ذلك النَّظَرُ والمنظورُ إليه؟
قُلْنا: نحن لا نَنْتَهي في صفاتِه -جَلَّ جلالُه- إلَّا إلى حيث انتهى إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا ندفَعُ ما صَحَّ عنه؛ لأنَّه لا يقومُ في أوهامِنا، ولا يستقيمُ على نَظَرِنا، بل نؤمِنُ بذلك من غيرِ أن نقولَ فيه بكَيفيَّةٍ أو حَدٍّ، أو أن نقيسَ على ما جاء ما لم يأتِ. ونرجو أن يكونَ في ذلك من القَولِ والعَقدِ سَبيلُ النَّجاةِ، والتخَلُّصُ مِن الأهواءِ كُلِّها غدًا إن شاء اللهُ تعالى) [227] ينظر: ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قتيبة (ص: 301). .
وقال أيضًا: (ولا نقولُ: أُصبُعٌ كأصابِعِنا، ولا يَدٌ كأيدينا، ولا قَبضةٌ كقَبَضاتِنا؛ لأنَّ كُلَّ شَيءٍ منه -عزَّ وجَلَّ- لا يُشبِهُ شيئًا منَّا) [228] ينظر: ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قتيبة (ص: 303). .
وهذا فَضْلًا عن كتابِه: "الاختِلافُ في اللَّفظِ والرَّدُّ على الجَهميَّةِ"، وهو كتابٌ وضَعَه لبيانِ مَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ، وتفنيدِ حُجَجِ الجَهْميَّةِ وشُبَهِهِم.
وقد عقَدَ فيه فصلًا بعُنوانِ: «الرَّدُّ على النَّواصِبِ والرَّوافِضِ»، كأنَّه يتبرَّأُ فيه من تُهمةِ النَّصْبِ التي وجَّهها الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ إليه. يقولُ في ذلك الفَصْلِ: (وقد رأيتُ هؤلاء أيضًا حينَ رَأَوا غُلُوَّ الرَّافِضةِ في حُبِّ عليٍّ وتقديمِه على ما قَدَّمه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصحابتُه عليه، وادِّعاءَهم له شَرِكةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في نبُوَّتِه وعِلْمِ الغَيبِ للأئمَّةِ مِن وَلَدِه، وتلك الأقاويلَ والأُمورَ السِّرِّيَّةَ التي جَمَعَتْ إلى الكَذِبِ والكُفرِ إفراطَ الجَهْلِ والغَباوةِ، ورَأَوا شَتْمَهم خيارَ السَّلَفِ وبُغْضَهم وتبَرُّؤَهم منهم- قابلوا ذلك أيضًا بالغُلُوِّ في تأخيرِ عليٍّ -كَرَّم اللهُ وَجْهَه- وبَخْسِه حَقَّه، ولَحَنوا في القَولِ وإن لم يَعْرِضوا إلى ظُلْمِه، واعتَدَوا عليه بسَفْكِ الدِّماءِ بغَيرِ حَقٍّ، ونَسَبوه إلى المُمالأةِ على قَتْلِ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، وأخرَجوه بجَهْلِهم مِن أئمَّةِ الهُدى إلى جُملةِ أئِمَّةِ الفِتَنِ، ولم يُوجِبوا له اسمَ الخلِافةِ لاختِلافِ النَّاسِ عليه، وأوجبوها ليَزيدَ بنِ مُعاويةَ لإجماعِ النَّاسِ عليه! واتَّهَموا من ذكَرَه بغَيرِ خَيرٍ ... والسَّلامةُ لك ألَّا تَهلِكَ بمَحَبَّتِه ولا تَهلِكَ ببُغْضِه، وألَّا تحتَمِلَ ضِغْنًا عليه بجِنايةِ غَيرِه، فإنْ فعَلْتَ فأنت جاهِلٌ مُفرِطٌ في بُغْضِه، وأن تَعرِفَ له مَكانَه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالتَّربيةِ والأُخُوَّةِ والصِّهْرِ، والصَّبرِ في مجاهَدةِ أعدائِه وبَذْلِ مُهجَتِه في الحُروبِ بَيْنَ يدَيه مع مكانِه في العِلمِ والدِّينِ والبَأسِ والفَضْلِ مِن غَيرِ أن تتجاوَزَ به الموضِعَ الذي وصفه به خِيارُ السَّلَفِ لِما تَسمَعُه من كثيرٍ مِن فضائلِه؛ فهم كانوا أعلَمَ به وبغَيرِه، ولأنَّ ما أجمعوا عليه هو العِيانُ الذي لا يُشَكُّ فيه) [229] ينظر: ((الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية)) لابن قتيبة (ص: 55). .
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:
كان ثقةً دَيِّنًا فاضلًا، رأسًا في عِلمِ اللِّسانِ العَرَبيِّ، والأخبارِ، وأيَّامِ النَّاسِ، عالِمًا باللُّغةِ والنَّحْوِ وغَريبِ القُرآنِ ومعانيه، والشِّعرِ، والفِقهِ، مِن كِبارِ العُلَماءِ المُشهورين، عنده فنونٌ جَمَّةٌ، وعُلومٌ مُهِمَّةٌ.
مُصنَّفاتُه:
مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((تأويل مختَلِف الحديثِ))، وكتاب: ((أدَب الكاتِب))، وكتاب: ((المعارف))، وكتاب: ((الشِّعر والشُّعراء))، وكتاب: ((الرَّد على الشُّعوبيَّة)).
وَفَاتُه:
تُوفِّي سَنةَ ستةٍ وسَبعينَ ومِائَتَينِ [230] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (10/ 168)، ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقفطي (2/ 147)، ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (3/ 42)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (13/ 296). .

انظر أيضا: