موسوعة اللغة العربية

الفَصلُ التاسِعُ: الخَلِيلُ بنُ أحمدَ الفَرَاهِيديُّ (ت: 170 هـ)


أبو عَبدِ الرَّحمنِ الخَلِيلُ بنُ أحمدَ بنِ عَمرِو بنِ تَمِيم، الفَرَاهِيديُّ الأَزْدِي اليَحْمَدي، النَّحْوي، اللُّغَوي.
مَولِدُه:
وُلِد بالبَصْرة سنة مائةٍ.
مِن مشايخِه:
عِيسَى بن عُمَر، وأبو عَمْرو بنُ العَلَاء، وأيوب السختياني.
ومِن تَلامِذَتِه:
سِيبَوَيْه، والنَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ، واللَّيْثُ بنُ المُظفَّر، والأَصْمَعِي، والمؤرج بن عمرو السدوسي.
مَنزِلتُه ومكانتُه:
كان الخليلُ الغايةَ في استخراجِ مَسائِلِ النَّحوِ وتصحيحِ القِيَاس فيه، وهو الذي استنبط عِلمَ العَرُوض، وضَبَط اللُّغَة، وحَصَر أشعارَ العَرَب بها؛ فاسْتَخْرَج خمسةَ عَشَر بَحْرًا، ثم اسْتَدْرَك عليه "الأَخْفَشُ الأَوْسَطُ" البحرَ السَّادِسَ عَشَرَ، وأسْمَاه: (البحر المُحْدَث، ويُسمَّى أيضًا: بحْرَ الخَبَب أو بحْرَ المُتَدَارَك).
وكان رحمه الله رأسًا في لسانِ العَرَبِ دَيِّنًا ووَرِعًا، قانعًا مُتواضعًا، كبيرَ الشَّأنِ، يُقال: إنَّه دعا اللهَ أن يَرزُقَه عِلمًا لم يُسْبَق إليه؛ ففُتِح له بالعَرُوضِ. وقيل: إنه مرَّ بالصَّفَّارين فأخذه مِن وَقْع المِطْرَقة على الطَّسْت.
وقد ذُكِر عنه أنه كان يُقطِّع العَروُض، فدخل عليه ولَدُه في تلك الحالة، فَخَرَج إلى النَّاس وقال: إن أبي قد جُنَّ! فدخل النَّاسُ عليه فرأوه يقطِّع العَرُوض، فأخبروه بما قال ابنُه، فقال له:
لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا أقُولُ عَذَرْتَنِي
أوْ كُنْتُ أفْهَمُ مَا تقولُ عَذَلْتُكَا
لكِنْ جَهِلْتَ مَقَالَتِي فَعَذَلْتَنِي
وَعَلِمْتُ أنَّكَ جاهِلٌ فَعَذَرْتُكَا
وقد لازمه سِيبَوَيْه وأخذ عنه، وعامةُ الحكاية في كتاب سِيبَوَيْه إنما هي عن الخَلِيل؛ فكلَّما قال سِيبَوَيه: سألتُه، أو قال: «قال» مِن غير أن يَذكُرَ قَائِلَه؛ فهو الخَلِيلُ بنُ أحمدَ.
عَقيدتُه:
كان الخَليلُ أوَّلَ الأمرِ يَعتَقِدُ مَذهَبَ الخوارِجِ الإباضيَّةِ، ثمَّ إنَّه رجع عن ذلك بَعْدَما جالس أيُّوبَ السَّخْتِيانيَّ.
وكان الخَليلُ صاحِبَ سُنَّةٍ؛ قال إبراهيمُ الحَربيُّ: (كان أهلُ البَصْرةِ -يَعني أهلَ العَرَبيَّةِ منهم- أصحابَ أهواءٍ إلَّا أرَبعةً؛ فإنَّهم كانوا أصحابَ سُنَّةٍ: أبو عَمْرِو بنُ العَلاءِ، والخَليلُ بنُ أحمَدَ، ويُونُسُ بنُ حبَيبٍ، والأصمعيُّ) [49] ينظر: ((نزهة الألباء في طبقات الأدباء)) لكمال الدين الأنباري (ص: 34)، ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (12/ 180). .
وقال رجلٌ للخَليلِ بنُ أحمَدَ: إنِّي قد وقع في نَفْسي شيءٌ من القَدَرِ، فبَيِّنْ لي ذلك. قال الخَليلُ: (تُبصِرُ شَيئًا من مخارِجِ الكلامِ؟) قال الرَّجُلُ: نَعَمْ. قال الخَليلُ: أين مخرَجُ الحاءِ؟ قال الرَّجُلُ: من أصلِ اللِّسانِ. قال الخَليلُ: أين مخرَجُ الثَّاءِ؟ قال الرَّجُلُ: مِن طَرَفِ اللِّسانِ. قال الخَليلُ: اجعَلْ هذا مكانَ هذا، وهذا مكانَ هذا. قال الرَّجُلُ: لا أستَطيعُ. قال الخَليلُ: فإنَّك عَبْدٌ مُدَبَّرٌ [50] ينظر: ((تهذيب الكمال في أسماء الرجال)) للمزي (8/ 327). !
وكان رحمه اللهُ زاهِدًا راغبًا عن مَتاعِ الدُّنيا وقد أتَتْه مُطيعةً فأباها، أرسَلَ إليه سُلَيمانُ بنُ حَبيبِ بنِ المُهَلَّبِ الأميرُ يَستَدْعيه إليه ليؤَدِّبَ أحَدَ أبنائِه، فأخرج الخَليلُ لرَسولِ سُلَيمانَ كِسرةَ خُبْزٍ كانت عِندَه، وقال له: ما عِندي غَيْرُه، وما دامت عندي فلا حاجةَ لي في سُلَيمانَ. فقال الرَّسولُ: وما أُبَلِّغُه عنك؟ فقال:
أَبْلِغْ سُلْيمانَ أنِّي عنه في سَعَةٍ
وفي غِنًى غَيْرَ أنِّي لَسْتُ ذا مالِ
سَخِيٌّ بنَفْسيَ أنْ لا أرى أحَدًا
يموتُ هَزْلًا ولا يبقى على حالِ [51] ينظر: ((تهذيب الكمال في أسماء الرجال)) للمزي (8/ 327). .
وكان كثيرًا ما يقولُ: (إذا لم تكُنْ هذه الطَّائِفةُ -يعني أهلَ العِلْمِ- أولياءَ لله فليس للهِ وَليٌّ).
وقال أبو المظَفَّرِ الإسْفِرايِينيُّ: (وكذلك لم يكُنْ في أئِمَّةِ الأدَبِ أحَدٌ إلَّا وله إنكارٌ على أهلِ البِدعةِ شَديدٌ، وبُعْدٌ مِن بِدَعِهم بعيدٌ، مِثْلُ: الخَليلِ بنِ أحمَدَ، ويُونُسَ بنِ حَبيبٍ، وسِيبَوَيهِ، والأخفَشِ، والزَّجَّاجِ، والمُبَرِّدِ، وأبي حاتِمٍ السِّجِسْتانيِّ، وابنِ دُرَيدٍ، والأزهَريِّ، وابنِ فارِسٍ، والفارابيِّ، وكذلك مَن كان مِن أئمَّةِ النَّحْوِ واللُّغةِ، مِثْلُ: الكِسائيِّ، والفَرَّاءِ، والأصمَعيِّ، وأبي زَيدٍ الأنصاريِّ، وأبي عُبَيدةَ، وأبي عَمرٍو الشَّيبانيِّ، وأبي عُبَيدٍ القاسِمِ بنِ سَلامٍ. وما منهم أحَدٌ إلَّا وله في تصانيفِه تَعَصُّبٌ لأهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وردٌّ على أهلِ الإلحادِ والبِدعةِ) [52] ينظر: ((التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين)) للإسفراييني (ص: 188). .
قال: (الرَّحمنُ الرَّحيمُ: اسمانِ مُشتَقَّانِ مِن الرَّحْمةِ، ورَحْمةُ اللهِ وَسِعت كلَّ شيءٍ) [53] ينظر: ((العين)) للخليل (3/224). ، ففي كلامِه إثباتُ الأسماءِ والصِّفاتِ للهِ تعالى.
وقال أيضًا: (وبَلَغنا أنَّ مُوسى بنَ عِمرانَ لَمَّا سَمِع كلامَ الرَّبِّ استَفزَّه الخوفُ حتَّى قام على أصابعِ قَدَمَيه خَوفًا، فقال اللهُ: طَهْ، أي: اطْمَئِنَّ يا رجُلُ) [54] ينظر: ((العين)) للخليل (3/347). ، فأثبَتَ للهِ تعالى صِفةَ الكلامِ، وأنَّه كَلامٌ مَسموعٌ، وهو مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ.
وقال رَحِمه الله: (القَدَرُ: القضاءُ الموفَّقُ، يُقالُ: قَدَّرَه اللهُ تَقديرًا. وإذا وافَقَ الشَّيءُ شيئًا، قيل: جاء على قَدَرِه. والقَدَرِيَّةُ: قومٌ يُكَذِّبُون بالقَدَرِ) [55] ينظر: ((العين)) للخليل (5/112). .
وكان رَحِمه الله مُتَقَلِّلًا مِن الدُّنيا، صَبورًا على خُشونةِ العَيشِ وضِيقِه؛ حتى إنَّه كان يُقِيمُ في خُصٍّ -بَيتٍ مِن الخشَبِ والقَصَبِ- له بالبَصْرةِ، لا يَقْدِرُ على فَلْسَينِ، وتَلامذتُه يَكسِبُون بعِلمَه الأموالَ، وكان كثيرًا ما يُنشِدُ:
وإذا افْتَقَرتَ إلى الذَّخَائِر لمْ تَجِدْ
ذُخرًا يكونُ كَصالحِ الأعمالِ
وقد قِيل فيه: (مَن أحبَّ أنْ يَنظُرَ إلى رجلٍ خُلِق مِن الذَّهَبِ والمِسْك؛ فلْيَنظُرِ إلى الخَلِيل بنِ أحمدَ).
مُصنَّفاتُه:
ألَّف رحمه الله أولَ كتاب: "العَيْن" المشهور، الذي به يتهيَّأُ ضَبْط اللُّغَة، وهو أوَّلُ مُعْجَم للُّغة العَرَبيَّة، يعتمد في ترتيبه على مخارجِ الحُروفِ من أعمَقِ نُقطةٍ في الحلْق، مُرورًا بحركاتِ اللِّسانِ، وحتى أطرافِ الشَّفتينِ، وبذلك يكون أوَّلُ حُرُوفِه هو "العَيْن"، وآخِرُها هو: "الميم"، ثمَّ حروف العِلَّة الجوفيَّة (و - ي - أ)، ومات ولم يتمَّه، ولا هذَّبَه، ولكِنَّ العُلَماءَ حتى الآن يَغْتِرفون مِن بحْرِه.
وفاتُه:
تُوفِّي الخليل رحمه الله بالبَصْرة سنة سبعينَ ومائةٍ. وقيل: سنةَ خمسٍ وسبعينَ ومِائةٍ [56] يُنظَر: ((مراتب النحويين)) لأبي الطيب اللُّغَوي (ص 43)، ((الثقات)) لابن حبان (8/ 229)، ((طبقات النحويين واللغويين))، لمحمد بن الحسن الزُّبَيدي (ص 47)، ((نزهة الألباء في طبقات الأدباء)) لكمال الدين الأنباري (ص 45)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحَمَوي (3/ 1260)، ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقِفْطي (1/ 376)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (2/ 244)، ((تهذيب الكمال)) للمزي (8/ 326)، ((البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة))، للفيروزابادي (ص 99)، ((بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة)) للسيوطي (1/ 557). .

انظر أيضا: