موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الأوَّلُ: سَببُ ظُهورِ المَدرَسةِ


والَّذي دفَع ابنَ دُرَيدٍ إلى فِعلِه هذا هو التَّسْهيلُ على النَّاسِ؛ فإنَّ البَحْثَ في مَعاجِمِ التَّقْليباتِ الصَّوتيَّةِ يُلجِئُ الباحِثَ فيه إلى مَعْرفةِ تَرْتيبِ الأصْواتِ حسَبَ المَخرَجِ، واخْتِلافِ التَّرْتيبِ في بعضِ الحُروفِ عند الخَليلِ عنها عند القاليِّ مَثلًا.
يقولُ ابنُ دُرَيدٍ عن مُعجَمِه: (‌فسهَّلْنا وَعْره ووطَّأْنا شاذَّه، وأجْرَيناه على تَأليفِ الحُروفِ المُعجَمةِ؛ إذْ كانت بالقُلوبِ أعْبَقَ، وفي الأسْماعِ أنْفَذَ، وكان عِلمُ العامَّةِ بها كعِلمِ الخاصَّةِ، وطالِبُها مِن هذه الجِهةِ بَعيدًا مِنَ الحَيرةِ مُشْفيًا على المُرادِ) [131] ((جمهرة اللُّغة)) لابن دريد (1/40). .
فابنُ دُرَيدٍ بهذا العَمَلِ قرَّب اللُّغةَ إلى الباحِثين، ومهَّد لهم الطَّريقَ، ولا شكَّ أنَّها خُطوةٌ إلى الأمامِ في تَأليفِ المَعاجِمِ، وتَدرُّجٌ طَبيعيٌّ نَحْوَ الارْتِقاءِ في هذا النَّوعِ مِن فُروعِ اللُّغةِ؛ لأنَّ التَّرْتيبَ الألِفْبائيَّ أسْهَلُ بكَثيرٍ مِنَ التَّرْتيبِ الصَّوتيِّ للحُروفِ [132] يُنظر: ((المَعاجِم العَربيَّة: مدارسها ومناهجها)) لعبد الحميد أبو سكين (ص:72). .
والظَّاهِرُ أنَّ ابنَ دُرَيدٍ قد أمْلَى الكِتابَ مِن حِفْظِه، وارْتَجَلَه ارْتِجالًا دونَ الاعْتِمادِ على شيءٍ، ودونَ سابِقِ تَحْضيرٍ.
قال ابنُ دُرَيدٍ: (وأمْلَينا هذا الكِتابَ والنَّقْصُ في النَّاسِ فاشٍ، والعَجْزُ لهم شامِلٌ) [133] ((جمهرة اللُّغة)) لابن دريد (1/40). .
قال السُّيوطيُّ: (‌أمْلَى ‌ابنُ ‌دُرَيدٍ الجَمْهَرةَ في فارِسَ، ثمَّ أمْلاها بالبَصرةِ وببَغدادَ مِن حِفْظِه، ولم يَسْتَعِنْ عليها بالنَّظرِ في شيءٍ مِنَ الكُتُبِ إلَّا في الهَمْزةِ واللَّفيفِ) [134] ((المزهر)) للسيوطي (1/73). .
فإذا صحَّ هذا الخَبَرُ فإنَّ ابنَ دُرَيدٍ يَتفرَّدُ بَيْنَ مُؤلِّفي المَعاجِمِ بهذه المَوهِبةِ النَّادِرةِ الفذَّةِ؛ فإمْلاءُ العالِمِ مُعجَمًا مِن حِفْظِه دونَ الاسْتِعانةِ بكُتُبٍ حَدَثٌ جَديرٌ بالإعْجابِ [135] يُنظر: ((مقدمة الصحاح)) للعطار (ص:80). .

انظر أيضا: