موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الأوَّلُ: مَراحِلُ تَدْوينِ اللُّغةِ


رصَد العُلَماءُ ثَلاثَ مَراحِلَ جُمِعتْ فيها المادَّةُ اللُّغويَّةُ حتَّى اكْتَملتْ في شَكْلِ المُعجَمِ المعروفِ اليومَ:
المَرحَلةُ الأُولى: جَمْعُ اللُّغةِ حَيثُما اتَّفَقَ.
وذلك بأنْ يَذهَبَ العالِمُ إلى البادِيةِ، ويُعايِشَ أهْلَها، ويُحادِثَهم، ويَسْتمِعَ لكَلامِهم، ويُدوِّنَ عنهم كلَّ ما سَمِعه منهم حسَبَ ما سمِع دونَ تَبْويبٍ أو تَصْنيفٍ أو تَرْتيبٍ، فيَسمَعَ كَلِمةً في أسْماءِ السَّيفِ، أو كَلِمةً في الزَّرعِ والنَّباتِ، أو اسمَ حَيَوانٍ مِنَ الحَيَواناتِ؛ فيُدوِّنَ ذلك دونَ تَرْتيبٍ إلَّا تَرْتيبَ السَّماعِ.
المَرحَلةُ الثَّانيةُ: جَمْعُ الألْفاظِ بحسَبِ المَوضوعاتِ.
وفي هذه المَرحَلةِ يُعيدُ العالِمُ تَرْتيبَ ما سمِعه مِن أهْلِ الباديةِ؛ فمَثلًا: كلُّ الكَلِماتِ الَّتي سمِعها عنِ السَّيفِ يَجعَلُها كلَّها تحت بابٍ واحِدٍ؛ كما فعَل أبو زيدٍ الأنْصاريُّ في كِتابِ الخَيلِ الَّذي جمَع فيه كلَّ أسْماءِ الخَيلِ وأوصافِها، وكذلك كِتابُ المَطَرِ، وجمَع النَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ كِتابَ خَلْقِ الإنْسانِ.
 وكانت هذه الرَّسائِلُ الصَّغيرةُ حَجَرَ الأساسِ الَّذي قامت عليه مَعاجِمُ المَوضوعاتِ، فكانت هي رَكيزَتَها الأساسيَّةَ، وأُولى مَصادِرِها الَّتي اسْتَقى منها ابنُ سِيدَه في مُعجَمِه (المُخصَّص)، وغيرُه مِنَ العُلَماءِ.
المَرحَلةُ الثَّالثةُ: مَرحَلةُ التَّهْذيبِ والتَّرْتيبِ
وقدِ اعْتَمدتْ هذه المَرحَلةُ اعْتِمادًا أساسيًّا على ما سبَقَها مِنَ المَراحِلِ، فأعادَ العُلَماءُ تَرْتيبَ الأبْوابِ وتَنْسيقَها؛ لا بحسَبِ المَوضوعاتِ كما في المَرحَلةِ الثَّانيةِ، بل بحسَبِ التَّرْتيبِ الهِجائيِّ الَّذي اخْتَلفَ باخْتِلافِ المَعاجِمِ، سواءٌ كان تَرْتيبًا صَوتيًّا أو ألفبائيًّا؛ بحيثُ يَشمَلُ هذا التَّرْتيبُ كلَّ كَلِماتِ العَربيَّةِ على وَجْهٍ خاصٍّ ليَرجِعَ إليه مَنْ أرادَ البَحْثَ عن مَعْنى كَلِمةٍ.
ولا يَعْني هذا أنَّ كلَّ مَرحَلةٍ مِن تلك المَراحِلِ كانت مُستقِلَّةً عمَّا قبلَها، وأنَّ المَرحَلةَ الثَّالثةَ هي الَّتي اسْتقرَّ عليها الأمرُ في التَّأليفِ، بل إنَّ تَرْتيبَ المادَّةِ حسَبَ المَوضوعاتِ بَقِي مَعْمولًا به، كما نَرى في مُعجَمِ ((المُخصَّص)) لابنِ سِيدَه، الَّذي لم يَقصُرْه على مَوضوعٍ واحِدٍ مِنَ المَوضوعاتِ، وإنَّما أدْخَل فيه كَثيرًا مِنَ المَوضوعاتِ، وما يَندَرِجُ تحتَها مِنَ الكَلِماتِ والألْفاظِ، ومعَ ذلك فقد رتَّبه على تَرْتيبِ المَوضوعاتِ، وابنُ سِيدَه مِن عُلَماءِ القَرْنِ الخامِسِ الهِجريِّ، أي: إنَّ مَرحَلةَ التَّرْتيبِ الأخيرةَ كانت مَعْروفةً مُنْتشِرةً قبلَه [23] يُنظر: ((ضحى الإسلام)) لأحمد أمين (2/270)، ((المُعجَم العَربيُّ: نشأته وتطوره)) لحسين نصار (1/29)، ((المَعاجِم العَربيَّة والمصادر اللُّغويَّة)) لمحمد حبلص (ص: 18). .
وقدِ اجْتَهد العُلَماءُ في جَمْعِ اللُّغةِ في أوَّلِ الأمرِ مِن مَنابِعِها الأصْليَّةِ، فأخَذوا يَجوبون الفَيافيَ، ويَقْطَعون القِفارَ لمُشافَهةِ الأعْرابِ والاسْتِماعِ إلى مَنْطِقِهم، تاركين أهْلِيهم ومَواطِنَهم في سَبيلِ حِفْظِ اللُّغةِ والحِفاظِ عليها، ولم يَدَّخرْ أحدُهم جُهدًا في ذلك، بل بذَلوا في سَبيلِه الغاليَ والنَّفيسَ، وكان الباعِثُ على هذا الأمرِ أسْبابًا كَثيرةً؛ منها ما هو دِينيٌّ، ومنها ما هو اجْتِماعيٌّ، ومنها ما هو ثَقافيٌّ.

انظر أيضا: