موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: نَشْأةُ المَعاجِمِ وتَطوُّرُها


بدأتِ الدِّراساتُ اللُّغويَّةُ كلُّها -ومنها صِناعةُ المَعاجِمِ- أوَّلَ أمرِها في أحْضانِ القُرآنِ الكَريمِ؛ فقد نزَل القُرآنُ بلِسانٍ عَربيٍّ بأبْلَغِ البَيانِ وأجْمَعِ الكَلِمِ؛ فقد ذكَر اللهُ تعالى في القُرآنِ الكَريمِ في بِضعَةَ عشَرَ مَوضِعًا أنَّه نزَل بلِسانٍ عَربيٍّ مُبينٍ، ولم يَكُنِ النَّاسُ في فَهْمِ القُرآنِ على دَرَجةٍ واحِدةٍ، فكَثيرٌ مَنْ كان يَخْفى عليه فَهْمُ بعضِه، وخاصَّةً تلك المَعانيَ والكَلِماتِ الَّتي لا عَهْدَ لهم بها، والَّتي دخَلتِ اللُّغةَ بعد ظُهورِ الإسْلامِ، فكان عُمْدتُهم في تَفْسيرِ ذلك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكانوا يَرجِعون إليه إذا خَفِي عليهم شيءٌ مِن ألْفاظِ القُرآنِ أو مِن مَعانيه؛ كما فسَّر لهم القوَّةَ في قولِه تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ ‌مِنْ ‌قُوَّةٍ [الأنفال: 8] بأنَّ القوَّةَ هي الرَّمْيُ [16] أخرجه مسلم (1917) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. ، وغيرَ ذلك ممَّا كان يَرجِعُ فيه الصَّحابةُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ولمَّا انْتَقلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الرَّفيقِ الأعْلى تَحمَّلَ هذه الأمانةَ فُقَهاءُ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم، مِثلُ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ الَّذي أُوتِي مِنَ العِلمِ حظًّا وَفيرًا، وحَبَاه اللهُ مَلَكةَ التَّفْسيرِ والتَّأويلِ اسْتِجابةً لدَعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قوله له: (اللَّهُمَّ فِقِّهْه في الدِّينِ، وعَلِّمْه التأويلَ ) [17] أخرجه أحمد (3032)، وابن حبان (7055)، والحاكم (6280). صححه ابن حبان، وابن عبد البر في ((الاستيعاب)) (3/67)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2589)، والوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (245). وأصل الحديث في صحيح البخاري (143)، ومسلم (2477) دون قوله: "وعلمه التأويل". ، فكان يُفسِّرُ للنَّاسِ ما أَشْكَلَ عليهم مِن ألْفاظِ القُرآنِ ومَعانيه، واشتَهر بَيْنَ النَّاسِ بالتَّفْسيرِ، ومِن ذلك سُؤالاتُ نافِعِ بنِ الأزْرَقِ الَّتي أورَدها السُّيوطيُّ في كِتابِه ((الإتْقانُ في عُلومِ القُرآنِ))، فكان نافِعٌ يَسألُه عنِ الكَلِمةِ مِنَ القُرآنِ، وابنُ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنه يُجيبُه عنها، فيَطلُبُ منه نافِعٌ أنْ يَسْتشِهدَ على كَلامِه بشيءٍ مِن كَلامِ العَربِ، فكان يَأتيه الجَوابُ على الفَورِ مِنِ ابنِ عبَّاسٍ؛ فقد ذهَب نافِعُ بنُ الأزْرَقِ ونَجدَةُ بنُ عُويمِرٍ إلى ابنِ عبَّاسٍ وقالا:
(إنَّا نُريدُ أن نَسألَك عن أشْياءَ مِن كِتابِ اللهِ فتُفسِّرَها لنا، وتَأتيَنا بمُصادَقةٍ مِن كَلامِ العَربِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى إنَّما أنْزَل القُرآنَ بلِسانٍ عَربيٍّ مُبِينٍ، فقال ابنُ عبَّاسٍ: سَلاني عمَّا بدا لكما، فقال نافِعٌ: أخْبِرني عن قولِ اللهِ تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ [المعارج: 37] ، قال العِزون: حِلَقُ الرِّفاقِ، قال: وهل تَعرِفُ العَربُ ذلك؟ قال: نَعمْ، أمَا سَمِعتَ عُبيدَ بنَ الأبْرَصِ، وهو يقولُ:
فجاؤوا يُهرَعون إليه حتَّى
يَكونوا حولَ مِنبَرِه عِزينَا) [18] ((الإتقان في عُلوم القُرآن)) للسيوطي (2/ 68).
وكان ابنُ عبَّاسٍ يقولُ: (إذا سَألْتُموني عن غَريبِ اللُّغةِ ‌فالْتَمِسوه ‌في ‌الشِّعرِ؛ فإنَّ الشِّعرَ دِيوانُ العَربِ) [19] ((البرهان في عُلوم القُرآن)) للزركشي (1/292). .
وتُعدُّ هذه المُحاوَرةُ مُقدِّمةً طَبيعيَّةً لنَشْأةِ عُلومِ التَّفْسيرِ، وأقْدَمَ مُحاوَلةٍ للمُعجَمِ العَربيِّ؛ وذلك بسَببِ المَنهَجِ الَّذي اتَّبَعه، وهو تَوضيحُ مَعْنى الكَلِمةِ، والاسْتِشهادُ عليها بالشِّعرِ [20] يُنظر: ((من قضايا المُعجَم العَربيُّ)) للموافي البيلي (ص:16). .
ولكنَّ بعضَ الصَّحابةِ كان يَتحرَّجُ مِنَ الإجابةِ خَشيةَ أنْ يُفتيَ النَّاسَ مِن دونِ عِلمٍ؛ فأبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضِي اللهُ عنه لمَّا سُئِل عن مَعْنى الأَبِّ في قولِه تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس: 31] ، قال: أيُّ ‌سَماءٍ ‌تُظلُّني، أو أيُّ أرضٍ تُقِلُّني إنْ أنا قلتُ في كِتابِ اللهِ ما لا أعْلَمُ؟! [21] يُنظر: ((فضائل القُرآن)) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص:375).
ولمَّا كان حَديثُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتضمِّنًا جَوامِعَ الكَلِمِ كان يَحتاجُ إلى قُدراتٍ عَقْليَّةٍ عِلميَّةٍ واسِعةِ المَدارِكِ حتَّى تَقفَ على خَفِيِّ ألْفاظِه، وتُدرِكَ مَكنونَ مَعانيه؛ ولذلك كانت هِمَّةُ العُلَماءِ وعِنايتُهم مُتَّجِهةً إلى تَفْسيرِ مُشكِلِ القُرآنِ والسُّنَّةِ.
ولذلك نَجدُ التَّآليفَ الأُولى في المَعاجِمِ كانت تَحمِلُ اسمَ غَريبِ القُرآنِ، ولعلَّ أقْدَمَ مَنْ ألَّف في ذلك أبانُ بنُ تَغْلِبَ (141 هـ) في كِتابِه غَريبِ القُرآنِ، ثمَّ جاء بعدَه الإمامُ مالِكُ بنُ أَنَسٍ (179 هـ)، إمامُ دارِ الهِجرةِ، فألَّف كِتابَ تَفْسيرِ غَريبِ القُرآنِ، وجاء بعدَه أبو فَيدٍ مُؤرِّجٌ السَّدوسيُّ في كِتابِ غَريبِ القُرآنِ، ثمَّ يَحيى بنُ المُبارَكِ اليَزيديُّ (202 هـ)، ثمَّ النَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ (203 هـ).
وأمَّا عن غَريبِ الحَديثِ فقد صُنِّفتْ فيه مُصنَّفاتٌ كَثيرةٌ؛ منها غَريبُ الحَديثِ للنَّضْرِ بنِ شُمَيلٍ (203 هـ)، وقُطْرُبٍ (ت: 206 هـ)، والفَرَّاءِ (ت: 207 هـ)، وأبي عُبَيدةَ مَعْمَرِ بنِ المُثنَّى (ت: 209 هـ)، وأبي عُبيدٍ القَاسِمِ بنِ سَلَّامٍ (ت: 224 هـ)، وغيرُهم الكَثيرُ.
فالسَّببُ المُباشِرُ الَّذي ظهَرتِ الدِّراساتُ اللُّغويَّةُ -ومنْها المَعاجِمُ اللُّغويَّةُ- لأجْلِه، ارْتِباطُها بالدِّراساتِ الدِّينيَّةِ، أو اتِّحادُها في نَشْأتِها، ثمَّ اتَّسَعتْ تلك الحَرَكةُ فشَمِلتْ غَريبَ اللُّغةِ بوَجْهٍ عامٍّ، فكانت بَوادِرُ هذه المَرحَلةِ تَرمي إلى تَوضيحِ آياتِ القُرآنِ، وهي الحَرَكةُ العِلميَّةُ الأُولى عند المُسلِمينَ الَّتي بَدأتْ مُتَضائِلةً خَجِلةً مَقْصورةً على مُحاوَلةِ فَهْمِ القُرآنِ الكَريمِ، ثمَّ أخَذتْ تَتخلَّى الخَجَلَ، ويَقوى ساعِدُها، ويَتَّسِعُ مَيدانُها حتَّى شمِلتْ في مُدَّةٍ وَجيزَةٍ جَميعَ العُلومِ الَّتي عرَفها العالَمُ القَديمُ، فما اتَّصلَ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ كان أوَّلَها ظُهورًا، وما ابْتَعد عنهما كان آخِرَها [22] يُنظر: ((المُعجَم العَربيُّ: نشأته وتطوره)) لحسين نصار (1/26)، ((من قضايا المُعجَم العَربيُّ)) للموافي البيلي (ص:14). .

انظر أيضا: