موسوعة اللغة العربية

الفَصْلُ الثَّاني: مَكانةُ الخُطْبةِ في الأدَبِ العَرَبيِّ


حَظِيَت الخَطابةُ في الأدَبِ العَرَبيِّ القَديمِ بمكانةٍ كَبيرةٍ؛ فقد حتَّمَت عليهم اجتِماعاتُهم في حُروبهِم وسِلْمِهم، وعند السِّفاراتِ والوُفودِ- أن يكونَ لهم لِسانٌ يُبَلِّغُ مَقاصِدَهم ومَطالِبَهم، ويؤثِّرُ في المُستَمِعينَ ويَبعَثُهم على الاستِجابةِ لِقَولِه، وكُلَّما كان إفصاحُهم أقوى وأبلَغَ كان تأثيرُه أكبَرَ وأشَدَّ.
وقد سمِعَ عَمرُو بنُ العاصِ زيادَ بنَ أَبِيهِ يخطُبُ في النَّاسِ، فقال: (للهِ دَرُّ هذا الغُلامِ، أمَا واللهِ لو كان أبوه قُرَشيًّا لساق العَرَبُ النَّاسَ بعَصاه!)، وذلك في حَضرةِ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ وأبي سُفْيانَ بنِ حَربٍ [176] يُنظر: ((وفيات الأعيان)) (6/ 357)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (20/ 303). .
وقد كان للخُطْبةِ مَواضِعُ عَديدةٌ؛ ففي كُلِّ مُناسَبةٍ مَوضِعٌ للخُطْبةِ؛ ففي الحُروبِ لِبَثِّ الشَّجاعةِ في المحارِبينَ وشَحْذِ هِمَمِهم، وكذلك في السِّلْمِ لحَقْنِ الدِّماءِ وعَقدِ الهُدنةِ والمُصالحةِ، كذلك في الصُّلحِ بَيْنَ القبائِلِ المتنافِرةِ، وأداءِ مَهامِّ السِّفاراتِ مِن جَلبِ المَنفَعةِ أو دَرءِ المضَرَّةِ أو التَّهْنِئةِ أو التَّعْزيةِ.
وكان الخُطَباءُ يَحفِلون بخُطَبِهم، ويتخيَّرون لها أشرَفَ المعاني، وأقوى الألفاظِ، وأشَدَّها وَقعًا على القُلوبِ؛ لِيَكونَ تأثيرُها أعظَمَ. ويقالُ: إنَّهم كانوا يَخطُبون وعليهم العَمائِمُ، وبأيديهم المخاصِرُ، ويعتَمِدون على الأرضِ بالقِسِيِّ، ويُشيرونَ بالعِصِيِّ والقَنا، راكِبينَ أو واقِفينَ على مرتَفَعٍ مِنَ الأرضِ [177] يُنظر: ((في تاريخ الأدب الجاهلي)) لعلي الجندي (ص: 264). .
وقد كانت الخُطبةُ والشِّعرُ في معارَضةٍ دائِمةٍ ومُنافَرةٍ مُستَمِرَّةٍ، وكَثيرًا ما حسَمَ الصِّدقُ والعاطِفةُ الصَّحيحةُ المنافَسةَ بَيْنَهما بتفضيلِ الخُطْبةِ على الشِّعْرِ؛ خاصَّةً لَمَّا تحوَّل الشِّعْرُ إلى المدْحِ والتَّكسُّبِ والاستِجداءِ به؛ قال ابنُ رشيقٍ: (كان الشَّاعِرُ في مُبتدَأِ الأمرِ أرفَعَ مَنزِلةً مِنَ الخَطيبِ؛ لحاجتِهم إلى الشِّعْرِ في تخليدِ المآثِرِ، وشِدَّةِ العارِضةِ، وحمايةِ العَشيرةِ، وتهيُّبِهم عِنْدَ شاعِرِ غَيرِهم مِنَ القبائِلِ؛ فلا يَقْدَمُ عليهم خوفًا من شاعِرِهم على نَفْسِه وقبيلتِه، فلمَّا تكَسَّبوا به وجَعَلوه طُعْمةً وتوَلَّوا به الأعراضَ وتناوَلوها، صارت الخَطابةُ فَوقَه) [178] يُنظر: ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (1/ 82). .
ومع ذلك فلم يُحفَظْ من خُطَبِهم شيءٌ كثيرٌ؛ لأنَّ الشِّعْرَ كان أسرَعَ إلى الحِفْظِ وأعلَقَ بالذِّهْنِ [179] يُنظر: ((أصول الإنشاء والخطابة)) لابن عاشور (ص: 121). .
ثمَّ لمعَ نَجْمُ الخُطْبةِ مع مَجيءِ الإسلامِ؛ إذْ علا شأْوُها وارتقَت فوقَ مَنزلةِ الشِّعرِ الإسلاميِّ، وازدادت مكانتُها سُموقًا أنِ اختَصَّت بالدَّعوةِ إلى الدِّينِ وبَيانِ أركانِه وفضائِلِه ومبادِئِه، وظَلَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثلاثَ عَشْرةَ سَنةً بمكَّةَ يخطُبُ في القوافِلِ والأسواقِ والوُفودِ، يحُثُّ النَّاسَ على الإيمانِ باللهِ، وتَرْكِ الشِّركِ وعِبادةِ الأصنامِ. ثُمَّ لمَّا هاجر إلى المدينةِ واستقرَّ الإسلامُ قَوِيَت الخَطابةُ أكثَرَ وصارت شَطْرَ الصَّلاةِ في الصَّلواتِ ذاتِ العَدَدِ؛ مِثْلُ الجُمُعةِ، والعيدَينِ، وظُهْرِ يَومِ عَرفةَ، والكُسوفِ والخُسوفِ، والاستِسقاءِ، ونَحْوِ ذلك.
وبعدَ وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واتِّساعِ رُقعةِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ وكَثرةِ الفُتوحاتِ، ترَتَّب على ذلك كَثرةُ الخُطَباءِ في الجُيوشِ والسَّرايا، فَضْلًا عمَّا نجَم مِنَ الحوادِثِ والنَّوائِبِ، كحادثةِ السَّقيفةِ عَقِبَ وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وخُطبةِ أبي بكرٍ في الأنصارِ، وما حدث مِنَ الفِتنةِ بَيْنَ الصَّحابةِ، واتخذَ كلُّ حِزبٍ خُطَباءَ وشُعَراءَ [180] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (2/ 106). .
قال أبو هِلالٍ العَسْكريُّ: (وممَّا يُعرَفُ أيضًا مِنَ الخَطابةِ والكِتابةِ أنَّهما مُختصَّتانِ بأمرِ الدِّينِ والسُّلطانِ، وعليهما مَدارُ الدَّارِ، وليس للشِّعرِ بهما اختِصاصٌ.
أمَّا الكِتابةُ فعليها مدارُ السُّلطانِ، والخَطابةُ لها الحَظُّ الأوفَرُ منِ أمرِ الدِّينِ؛ لأنَّ الخُطْبةَ شَطرُ الصَّلاةِ -الَّتي هي عِمادُ الدِّينِ- في الأعيادِ والجُمُعاتِ والجَماعاتِ، وتَشتَمِلُ على ذِكرِ المواعِظِ الَّتي يجِبُ أن يَتعهَّدَ بها الإمامُ رعيَّتَه؛ لئلَّا تَدرُسَ مِن قُلوبِهم آثارُ ما أنزل اللهُ عزَّ وجلَّ مِن ذلك في كِتابِه، إلى غَيرِ ذلك من مَنافِعِ الخُطَبِ) [181] يُنظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 136). .

انظر أيضا: