موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الرَّابِعُ: نماذِجُ مِنَ المقاماتِ


المقامةُ المَضِيرِيَّةُ لبَديعِ الزَّمانِ الهَمَذانيِّ:
قال بَديعُ الزَّمانِ: (حدَّثَنا عيسى بنُ هِشامٍ قال: كُنتُ بالبَصْرةِ، ومعي أبو الفَتحِ الإسكندَريُّ؛ رَجُلُ الفصاحةِ يَدْعوها فتُجيبُه، والبَلاغةِ يأمُرُها فتُطيعه، وحَضَرْنا معه دَعوةَ بَعْضِ التُّجَّارِ، فقُدِّمَت إلينا مَضِيرةٌ، تُثْني على الحَضارةِ، وتترجرَجُ في الغَضارةِ، وتؤذِنُ بالسَّلامةِ، وتَشهَدُ لِمُعاويةَ رحمه اللهُ بالإمامةِ، في قَصعةٍ يَزِلُّ عنها الطَّرْفُ، ويموجُ فيها الظَّرْفُ، فلمَّا أخَذَت مِنَ الخِوانِ مَكانَها، ومِنَ القُلوبِ أوطانَها، قام أبو الفَتحِ الإسكَنْدريُّ يلعَنُها وصاحِبَها، ويمْقُتُها وآكِلَها، ويَثلِبُها وطابِخَها، وظنَنَّاه يمزَحُ فإذا الأمرُ بالضِّدِّ، وإذا المُزاحُ عَينُ الجِدِّ، وتنحَّى عن الخِوانِ، وتَرَك مُساعَدةَ الإخوانِ، ورَفَعْناها فارتفَعَت معها القُلوبُ، وسافَرَت خَلْفَها العُيونُ، وتحلَّبَت لها الأفواهُ، وتلَمَّظَت لها الشِّفاهُ، واتَّقَدت لها الأكْبادُ، ومضى في إثْرِها الفُؤادُ، ولكِنَّا ساعَدْناه على هَجْرِها، وسأَلْناه عن أمْرِها، فقال: قِصَّتي معها أطوَلُ مِن مُصيبتي فيها، ولو حدَّثْتُكم بها لم آمَنِ المقْتَ، وإضاعةَ الوَقتِ، قُلْنا: هاتِ.
قال: دَعاني بَعْضُ التُّجَّارِ إلى مَضِيرةٍ وأنا ببَغْدادَ، ولَزِمَني مُلازمةَ الغَريمِ، والكَلْبِ لأصحابِ الرَّقيمِ، إلى أن أجَبْتُه إليها، وقُمْنا فجَعَل طُولَ الطَّريقِ يُثني على زوجتِه، ويُفَدِّيها بمُهجَتِه، ويَصِفُ حِذْقَها في صَنعَتِها، وتأنُّقَها في طَبْخِها، ويقولُ: يا مولايَ لو رأيتَها والخِرْقةُ في وَسَطِها، وهي تَدورُ في الدُّورِ مِنَ التَّنُّورِ إلى القُدورِ، ومِنَ القُدورِ إلى التَّنُّورِ، تَنفُثُ بفِيها النَّارَ، وتَدُقُّ بيَدَيها الأبزارَ، ولو رأيتَ الدُّخانَ وقد غَبَر في ذلك الوَجْهِ الجَميلِ، وأثَّرَ في ذلك الخَدِّ الصَّقيلِ- لرَأَيتَ مَنظَرًا تَحارُ فيه العُيونُ، وأنا أعشَقُها لأنَّها تَعشَقُني، ومِن سَعادةِ المرءِ أن يُرزَقَ المساعَدةَ مِن حَليلتِه، وأن يُسعَدَ بظَعينتِه، ولا سِيَّما إذا كانت من طِينتِه، وهي ابنةُ عَمِّي لحًّا، طينَتُها طينتي، ومَدينتُها مَدينتي، وعُمومتُها عُمومتي، وأَرُومَتُها أَرُومَتي، لكِنَّها أوسَعُ مني خُلُقًا، وأحسَنُ خَلْقًا.
وصَدَّعني بصِفاتِ زَوجتِه حتَّى انتَهَينا إلى محَلَّتِه، ثُمَّ قال: يا مولايَ، ترى هذه المحَلَّةَ؟ هي أشرَفُ محالِّ بَغدادَ، يتنافَسُ الأخيارُ في نُزولِها، ويتغايَرُ الكِبارُ في حُلولِها، ثُمَّ لا يَسكُنُها غَيرُ التُّجَّارِ، وإنَّما المرءُ بالجارِ، وداري في السِّطةِ من قِلادتِها، والنُّقطةِ مِن دائرتِها، كم تُقَدِّرُ يا مولايَ أُنفِقَ على كُلِّ دارٍ منها؟ قُلْه تخمينًا إن لم تَعرِفْه يقينًا، قُلتُ: الكثيرُ. فقال: يا سُبحانَ اللهِ! ما أكبَرَ هذا الغَلَطَ! تقولُ: الكثيرُ فقط!
وتنَفَّسَ الصُّعَداءَ، وقال: سُبحانَ من يَعلَمُ الأشياءَ! وانتَهَينا إلى بابِ دارِه، فقال: هذه داري، كم تُقَدِّرُ يا مولاي أنفَقْتُ على هذه الطَّاقةِ؟ أنفَقْتُ -واللهِ- عليها فوقَ الطَّاقةِ، ووراءَ الفاقةِ، كيف ترى صَنْعَتَها وشَكْلَها؟ أرأيتَ باللهِ مِثْلَها؟ انظُرْ إلى دقائِقِ الصَّنعةِ فيها، وتأمَّلْ حُسنَ تَعريجِها، فكأَنَّما خُطَّ بالبِرْكارِ.
وانظُرْ إلى حِذْقِ النَّجَّارِ في صَنعةِ هذا البابِ، اتَّخَذه مِن كم؟ قُلْ: ومِن أين أعلَمُ؟! هو ساجٌ مِن قِطعةٍ واحِدةٍ لا مأروضٌ ولا عَفِنٌ، إذا حُرِّك أَنَّ، وإذا نُقِرَ طَنَّ. مَن اتخَذَه يا سيدي؟ اتخذه أبو إسحاقَ بنُ محمَّدٍ البَصْريُّ، وهو -واللهِ- رجلٌ نظيفُ الأثوابِ، بصيرٌ بصَنعةِ الأبوابِ خَفيفُ اليَدِ في العَمَلِ، للهِ دَرُّ ذلك الرَّجُلِ! بحياتي لا استعَنْتُ إلَّا به على مِثْلِه، وهذه الحَلْقةُ تراها اشتريتُها في سُوقِ الطَّرائِفِ مِن عِمرانَ الطَّرائِفيِّ بثلاثةِ دنانيرَ مُعِزِّيَّةٍ، وكم فيها يا سيِّدي مِنَ الشَّبَهِ؟ فيها سِتَّةُ أرطالٍ، وهي تدورُ بلَولَبٍ في البابِ، باللهِ دَوِّرْها، ثُمَّ انقُرْها وابْصُرْها، وبحَياتي عليك لا اشتَرَيتَ الحَلَقَ إلَّا منه؛ فليس يَبيعُ إلَّا الأعلاقَ.
ثمَّ قَرَع البابَ ودخَلْنا الدِّهْليزَ، وقال: عَمَّرَكِ اللهُ يا دارُ، ولا خَرَّبَكَ يا جِدارُ، فما أمتَنَ حيطانَك، وأوثَقَ بُنيانَك، وأقوى أساسَك! تأمَّلْ باللهِ معارِجَها، وتبَيَّنْ دواخِلَها وخوارِجَها، وسَلْني: كيف حصَّلْتَها؟ وكم مِن حيلةٍ احتَلْتَها، حتَّى عقَدْتَها؟ كان لي جارٌ يُكَنَّى أبا سُلَيمانَ يَسكُنُ هذه المحَلَّةَ، وله مِنَ المالِ ما لا يَسَعُه الخَزْنُ، ومِنَ الصَّامِتِ ما لا يحصُرُه الوَزْنُ، مات رحمه اللهُ وخَلَّف خلْفًا أتلَفَه بَيْنَ الخَمرِ والزَّمْرِ، ومزَّقه بَيْنَ النَّرْدِ والقَمْرِ، وأشفَقْتُ أن يسوقَه قائِدُ الاضطرارِ إلى بَيعِ الدَّارِ، فيَبيعَها في أثناءِ الضَّجَرِ، أو يجعَلَها عُرضةً للخَطَرِ، ثُمَّ أراها وقد فاتَني شَراها، فأتقَطَّعُ عليها حَسَراتٍ إلى يومِ المماتِ، فعَمَدْتُ إلى أثوابٍ لا تَنِضُّ تجارتُها فحمَلْتُها إليه، وعرَضْتُها عليه، وساوَمْتُه على أن يشتريَها نَسِيَّةً، والمدْبِرُ يحسَبُ النَّسِيَّةَ عَطِيَّةً، والمتخَلِّفُ يعتَدُّها هَدِيَّةً، وسألتُه وثيقةً بأصلِ المالِ، ففَعَل وعقَدَها لي، ثُمَّ تغافَلْتُ عن اقتِضائِه، حتَّى كادت حاشيةُ حالِه تَرِقُّ، فأتيتُه فاقتَضَيتُه، واستمهَلَني فأنظَرْتُه، والْتمَسَ غَيرَها مِنَ الثِّيابِ فأحضَرْتُه، وسألتُه أن يجعَلَ دارَه رَهينةً لدَيَّ، ووثيقةً في يَدَيَّ، ففعل، ثُمَّ درَّجْتُه بالمعامَلاتِ إلى بَيْعِها حتَّى حصَلَت لي بجَدٍّ صاعِدٍ، وبَختٍ مُساعِدٍ، وقُوَّةِ ساعِدٍ، ورُبَّ ساعٍ لقاعِدٍ، وأنا بحَمْدِ اللهِ مجدودٌ، وفي مِثْلِ هذه الأحوالِ مَحمودٌ.
وحَسْبُك يا مولايَ أنِّي كُنتُ منذُ ليالٍ نائمًا في البيتِ مع مَن فيه إذ قُرِع علينا البابُ، فقُلتُ: مَنِ الطَّارقُ المنتابُ؟ فإذا امرأةٌ معها عِقدُ لآلٍ، في جِلدةِ ماءٍ ورِقَّةِ آلٍ، تَعرِضُه للبَيعِ، فأخذْتُه منها إِخْذةَ خَلْسٍ، واشتريتُه بثَمَنٍ بَخسٍ، وسيكونُ له نَفعٌ ظاهِرٌ، ورِبحٌ وافِرٌ، بعَونِ اللهِ تعالى ودَولتِك، وإنَّما حدَّثْتُك بهذا الحديثِ لتَعلَمَ سَعادةَ جَدِّي في التِّجارةِ، والسَّعادةُ تُنبِطُ الماءَ مِنَ الِحجارةِ! اللهُ أكبَرُ لا يُنبِّئُك أصدَقُ مِن نَفْسِك، ولا أقرَبُ مِن أمْسِك. اشتَريتُ هذا الحَصيرَ في المُناداةِ، وقد أُخرِجَ مِن دُورِ آلِ الفُراتِ وقتَ المصادراتِ وزمَنَ الغاراتِ، وكنتُ أطلُبُ مِثْلَه مُنذُ الزَّمَنِ الأطوَلِ فلا أجِدُ، والدَّهرُ حُبْلى ليس يُدرى ما يَلِد، ثُمَّ اتَّفَق أنِّي حَضَرْتُ بابَ الطاقِ، وهذا يُعرَضُ بالأسواقِ، فوَزَنْتُ فيه كذا وكذا دينارًا، تأمَّلْ باللهِ دِقَّتَه ولِينَه، وصَنْعَتَه ولَونَه؛ فهو عظيمُ القَدْرِ، لا يقَعُ مِثْلُه إلَّا في النَّدْرِ، وإن كنتَ سَمِعتَ بأبي عِمرانَ الحَصِيريِّ فهو عَمَلُه، وله ابنٌ يَخلُفُه الآنَ في حانوتِه لا يوجَدُ أعلاقُ الحُصُرِ إلَّا عِندَه؛ فبِحَياتي لا اشتَريتَ الحُصُرَ إلَّا مِن دُكَّانِه؛ فالمؤمِنُ ناصِحٌ لإخوانِه، لا سِيَّما من تحَرَّمَ بخِوانِه.
ونعودُ إلى حَديثِ المَضِيرةِ، فقد حان وقتُ الظَّهيرةِ. يا غُلامُ، الطَّسْتَ والماءَ، فقُلتُ: اللهُ أكبَرُ، ربَّما قَرُب الفَرَجُ، وسَهُلَ المَخْرَجُ. وتقَدَّم الغُلامُ، فقال: ترى هذا الغُلامَ؟ إنَّه رُوميُّ الأصلِ، عِراقيُّ النَّشْءِ. تقدَّمْ يا غلامُ، واحسِرْ عن رأسِك، وشَمِّرْ عن ساقِك، وانْضُ عن ذراعِك، وافتَرَّ عن أسنانِك، وأقبِلْ وأدبِرْ. ففَعَل الغلامُ ذلك، وقال التَّاجِرُ: باللهِ مَن اشتراه؟ اشتراه -واللهِ- أبو العبَّاسِ، مِنَ النَّخَّاسِ. ضَعِ الطَّسْتَ، وهاتِ الإبريقَ. فوضَعَه الغُلامُ، وأخذه التَّاجِرُ وقَلَّبَه وأدار فيه النَّظَرَ ثُمَّ نقَرَه، فقال: انظُرْ إلى هذا الشَّبَهِ كأنَّه جَذوةُ اللَّهَبِ، أو قِطعةٌ مِنَ الذَّهَبِ، شَبَهُ الشَّامِ، وصَنعةُ العِراقِ، ليس مِن خِلْقانِ الأعلاقِ، قد عرف دُورَ الملوكِ ودارَها، تأمَّلْ حُسْنَه وسَلْني متى اشتريتَه؟ اشتريتُه -واللهِ- عام المجاعةِ، وادَّخَرْتُه لهذه السَّاعةِ.
يا غُلامُ، الإبريقَ. فقَدَّمَه وأخذه التَّاجِرُ فقَلَّبَه، ثُمَّ قال: وأُنبوبُه منه، لا يَصلُحُ هذا الإبريقُ إلَّا لهذا الطَّسْتِ، ولا يَصلُحُ هذا الطَّسْتُ إلَّا مع هذا الدَّسْتِ، ولا يحسُنُ هذا الدَّسْتُ إلَّا في هذا البَيتِ، ولا يجمُلُ هذا البَيتُ إلَّا مع هذا الضَّيفِ. أرسِلِ الماءَ يا غُلامُ؛ فقد حان وقتُ الطَّعامِ، باللهِ ترى هذا الماءَ ما أصفاه! أزرقُ كعَينِ السِّنَّورِ، وصافٍ كقَضيبِ البِلَّورِ، استُقِيَ مِنَ الفُراتِ، واستُعمِلَ بَعْدَ البَياتِ، فجاء كَلِسانِ الشَّمْعةِ، في صفاءِ الدَّمعةِ، وليس الشَّأنُ في السَّقَّاءِ، الشَّأنُ في الإناءِ، لا يدُلُّك على نَظافةِ أسبابِه أصدَقُ مِن نَظافةِ شَرابِه، وهذا المِنْديلُ سَلْني عن قِصَّتِه، فهو نَسْجُ جُرجانَ، وعَمَلُ أرَّجَانَ، وقع إليَّ فاشتَريتُه، فاتَّخَذَتِ امرأتي بَعْضَه سَراويلًا، واتَّخَذَت بعضَه مِنْديلًا، دخل في سراويلِها عِشرون ذِراعًا، وانتَزَعْتُ من يدِها هذا القَدْرَ انتِزاعًا، وأسلَمْتُه إلى المُطَرِّزِ حتَّى صنَعَه كما تراه وطَرَّزه، ثُمَّ ردَدْتُه مِنَ السُّوقِ، وخزَنْتُه في الصُّندوقِ، وادَّخَرْتُه للظِّرافِ مِنَ الأضيافِ، لم تُذِلَّه عَرَبُ العامَّةِ بأيديها، ولا النِّساءُ لمآقِيها، فلكُلِّ عِلقٍ يَومٌ، ولكُلِّ آلةٍ قَومٌ.
يا غُلامُ، الخِوانَ؛ فقد طال الزَّمانُ، والقِصاعَ؛ فقد طال المَصَاعُ، والطَّعامَ؛ فقد كَثُر الكَلامُ، فأتى الغُلامُ بالخِوانِ، وقَلَّبَه التَّاجِرُ على المكانِ، ونَقَره بالبَنانِ، وعَجَمه بالأسنانِ، وقال: عَمَّرَ اللهُ بغدادَ، فما أجوَدَ متاعَها، وأظرَفَ صُنَّاعَها! تأمَّلْ باللهِ هذا الخِوانَ، وانظُرْ إلى عَرْضِ مَتْنِه، وخِفَّةِ وَزنِه، وصَلابةِ عُودِه، وحُسْنِ شَكْلِه، فقُلْتُ: هذا الشَّكلُ، فمتى الأكلُ؟ فقال: الآنَ، عَجِّلْ يا غُلامُ الطَّعامَ، لكِنَّ الخِوانَ قوائِمُه منه.
قال أبو الفَتحِ الإسكَنْدريُّ: فجاشت نفسي وقُلْتُ: قد بَقِيَ الخُبزُ وآلاتُه، والخُبزُ وصِفاتُه والحِنطةُ مِن أين اشتُرِيَت أصلًا، وكيف اكَتَرى لها حَملًا، وفي أيِّ رَحًى طُحِن، وإجَّانةٍ عُجِن، وأيَّ تَنُّورٍ سَجَر، وخبَّازٍ استَأجَر، وبَقِيَ الحَطَبُ مِن أين احتُطِبَ، ومتى جُلِب؟ وكيف صُفِّف حتَّى جُفِّف؟ وحُبِس حتَّى يَبِس، وبَقِيَ الخَبَّازُ ووَصْفُه، والتِّلميذُ ونَعْتُه، والدَّقيقُ ومَدْحُه، والخَميرُ وشَرْحُه، والمِلْحُ ومِلاحتُه.
وبَقِيت السُّكُرُّجاتُ مَن اتَّخَذها، وكيف انتَقَذَها، ومَنِ استعمَلَها؟ ومَن عَمِلها؟ والخَلُّ كيف انتُقِيَ عِنَبُه، أو اشتُرِيَ رُطَبُه، وكيف صُهْرِجَت مِعصَرتُه؟ واستُخلِصَ لُبُّه؟ وكيف قُيِّر حُبُّه؟ وكم يُساوي دَنُّه؟ وبَقِيَ البَقلُ كيف احتِيلَ له حتَّى قُطِف؟ وفي أيِّ مَبقَلةٍ رُصِف؟ وكيف تُؤُنِّق حتَّى نُظِّف؟ وبَقِيَت المَضِيرةُ كيف اشتُرِيَ لَحْمُها؟ ووُفِّيَ شَحْمُها؟ ونُصِبَت قِدْرُها، وأُجِّجَت نارُها، ودُقَّت أبزارُها، حتَّى أُجيدَ طَبْخُها وعُقِّدَ مَرَقُها؟ وهذا خَطْبٌ يَطُمُّ، وأمرٌ لا يَتِمُّ.
فقُمتُ، فقال: أين تُريدُ؟ فقُلتُ: حاجةً أقضيها، فقال: يا مولايَ تُريدُ كَنيفًا يُزْري برَبيعِيِّ الأميرِ، وخريفِيِّ الوزيرِ، قد جُصِّصَ أعلاه، وصُهْرِجَ أسفَلُه، وسُطِحَ سَقْفُه، وفُرِشَت بالمرمَرِ أرضُه، يَزِلُّ عن حائِطِه الذَّرُّ فلا يَعلَقُ، ويمشي على أرضِه الذُّبابُ فيَزْلَقُ، عليه بابٌ غَيرانُه من خَليطَيِ ساجٍ وعاجٍ، مزدوجَينِ أحسَنَ ازدِواجٍ، يتمنَّى الضَّيفُ أن يأكُلَ فيه، فقُلتُ: كُلْ أنت مِن هذا الجِرابِ، لم يَكُنِ الكَنيفُ في الحِسابِ، وخرَجْتُ نَحْوَ البابِ، وأسرَعْتُ في الذَّهابِ، وجعَلْتُ أعدو وهو يتْبَعُني ويصيحُ: يا أبا الفَتحِ، المَضِيرةَ، وظَنَّ الصِّبيانُ أنَّ المَضِيرةَ لَقَبٌ لي، فصاحوا صِياحَه، فرَمَيتُ أحَدَهم بحَجَرٍ من فَرطِ الضَّجَرِ، فلَقِيَ رَجُلٌ الحَجَرَ بعِمامتِه، فغاص في هامَتِه، فأُخِذْتُ مِنَ النِّعالِ بما قَدُم وحَدُث، ومِنَ الصَّفعِ بما طاب وخَبُث، وحُشِرْتُ إلى الحَبسِ، فأقمتُ عامَينِ في ذلك النَّحْسِ، فنذَرْتُ ألَّا آكُلَ مَضِيرةً ما عِشْتُ، فهل أنا في ذا يا آل هَمَذانَ ظالِمٌ؟
قال عيسى بنُ هِشامٍ: فقَبِلْنا عُذْرَه، ونذَرْنا نَذْرَه، وقُلْنا: قديمًا جَنَتِ المَضيرةُ على الأحرارِ، وقَدَّمَت الأراذِلَ على الأخيارِ [163] يُنظر: ((مقامات بديع الزمان الهمذاني)) (ص: 114). .
المقامةُ الدِّيناريَّةِ للحَريريِّ:
قال الحَريريُّ: (روى الحارِثُ بنُ هَمَّامٍ قال: نظَمَني وأخدانًا لي نادٍ، لم يخِبْ فيه مُنادٍ، ولا كَبا قِدحُ زِنادٍ، ولا ذَكَت نارُ عِنادٍ، فبينما نحن نتجاذَبُ أطرافَ الأناشيدِ، ونتوارَدُ طُرَفَ الأسانيدِ، إذ وَقف بنا شَخصٌ عليه سَمَلٌ، وفي مِشْيَتِه قَزَلٌ، فقال: يا أخايِرَ الذَّخائِرِ، وبَشائِرَ العَشائِرِ، عِمُوا صَباحًا، وأَنعِموا اصطِباحًا، وانظُروا إلى من كان ذا نَدِيٍّ ونَدًى، وجِدةٍ وجَدًا، وعَقارٍ وقُرًى، ومَقارٍ وقِرًى، فما زال به قُطوبُ الخُطوبِ، وحُروبُ الكُروبِ، وشَرَرُ شَرِّ الحَسودِ، وانتيابُ النُّوَبِ السُّودِ، حتَّى صَفِرَت الرَّاحةُ، وقَرِعَت السَّاحةُ، وغار المَنبَعُ، ونبا المَربَعُ، وأقوى المجمَعُ، وأقضَّ المضْجَعُ، واستحالت الحالُ، وأعوَلَ العيالُ، وخَلَت المرابِطُ، ورَحِمَ الغابِطُ، وأودى النَّاطِقُ والصَّامِتُ، ورثى لنا الحاسِدُ والشَّامِتُ، وآل بنا الدَّهرُ الموقِعُ، والفَقرُ المُدقِعُ، إلى أنِ احتَذَينا الوَجى، واغتَذَينا الشَّجا، واستَبْطَنَّا الجَوى، وطَوَينا الأحشاءَ على الطَّوى، واكتحَلْنا السُّهادَ، واستوطَنَّا الوِهادَ، واستوطأنا القَتادِ، وتناسَينا الأقتادَ، واستطَبْنَا الحِينَ المحتاجَ واستبطَأْنا اليومَ المتاحَ، فهل مِن حُرٍّ آسٍ، أو سَمحٍ مُواسٍ؟ فوالَّذي استخرَجَني مِن قَيلةَ، لقد أمسَيتُ أخَا عَيلَةٍ، لا أملِكُ بِيتَ لَيلَةٍ.
قال الحارِثُ بنُ هَمَّامٍ: فأوَيتُ لمفاقِرِه، ولوَيتُ إلى استنباطِ فِقَرِه، فأبرَزْتُ دينارًا، وقُلتُ له اختبارًا: إنْ مدَحْتَه نَظْمًا فهو لك حَتْمًا، فانبَرى يُنشِدُ في الحالِ، مِن غَيرِ انتِحالٍ:
أكرِمْ به أصفَرَ راقت صُفْرَتُه
جوَّابَ آفاقٍ ترامَت سَفْرَتُه
مأثورةً سُمْعتُه وشُهْرتُه
قد أُودِعَت سِرَّ الغِنى أَسِرَّتُه
وقارَنْتُ نُجْحَ المساعي خَطْرَتُه
وحُبِّبَتْ إلى الأنامِ غُرَّتُه
كأَنَّما مِنَ القُلوبِ نُقْرَتُه
به يَصولُ مَن حَوَتْه صُرَّتُه
وإن تفانَت أو توانَت عِتْرَتُه
يا حَبَّذا نُضارُه ونَضرَتُه
وحَبَّذا مَغْناتُه ونُصْرَتُه
كم آمِرٍ به استتَبَّتْ إمرَتُه
ومُترَفٍ لَولاه دامَتْ حَسْرَتُه
وجَيشِ هَمٍّ هزَمَتْه كَرَّتُهْ
وبَدرِ تِمٍّ أنزَلَتْه بَدْرَتُه
ومُستَشيطٍ تتَلَظَّى جَمرتُه
أسَرَّ نجواه فلانت شِرَّتُه
وكم أسيرٍ أسلَمَتْه أُسْرَتُه
أنقَذَه حتَّى صَفَت مَسَرَّتُه
وحَقِّ مَولًى أبدَعَتْه فِطْرَتُه
لولا التُّقى لقُلْتُ جَلَّت قُدْرَتُه
ثم بَسَط يَدَه، بعدما أنشَدَه، وقال: أنجَزَ حُرٌّ ما وعَدَ، وسَحَّ خالٌ إذ رَعَد، فنبَذْتُ الدِّينارَ إليه، وقُلْتُ: خُذْه غَيرَ مأسوفٍ عليه، فوضَعَه في فيه، وقال: بارِكِ اللَّهُمَّ فيه! ثُمَّ شَمَّر للانثِناءِ، بَعْدَ تَوفيةِ الثَّناءِ، فنشَأَتْ لي من فُكاهَتِه نَشوةُ غَرامٍ، سَهَّلَت عليَّ ائتِنافَ اغتِرامٍ، فجَرَّدْتُ دينارًا آخَرَ وقُلتُ له: هل لك في أن تَذُمَّه، ثُمَّ تضُمَّه؟ فأنشد مُرتجِلًا، وشَدا عَجِلًا:
تبًّا له من خادِعٍ مُماذِقِ
أصفَرَ ذي وَجهَينِ كالمُنافِقِ
يبدو بوَصفَينِ لعَينِ الرَّامِقِ
زِينةِ مَعشوقٍ ولَونِ عاشِقِ
وحُبُّه عِنْدَ ذوي الحقائِقِ
يدعو إلى ارتِكابِ سُخْطِ الخالِقِ
لولاه لم تُقطَعْ يَمينُ سارِقِ
ولا بَدَت مَظلَمةٌ مِن فاسِقِ
ولا اشمأَزَّ باخِلٌ مِن طارِقِ
ولا شكا المَمطولُ مَطْلَ العائِقِ
ولا استُعيذَ مِن حَسودٍ راشِقِ
وشَرُّ ما فيه مِنَ الخلائِقِ
أنْ ليس يُغني عنك في المضايِقِ
إلَّا إذا فَرَّ فِرارَ الآبِقِ
واهًا لِمن يقذِفُه مِن حالِقِ
ومَن إذا ناجاه نجوى الوامِقِ
قال له قَولَ المحِقِّ الصَّادِقِ
لا رأيَ في وَصْلِك لي ففارِقْ
فقُلْتُ له: ما أغزَرَ وَبْلَك! فقال: والشَّرْطُ أمْلَكُ، فنفَحْتُه بالدِّينارِ الثَّاني، وقُلْتُ له: عَوِّذْهما بالمَثاني، فألقاه في فَمِه، وقَرَنه بتوأمِه، وانكفَأَ يَحمَدُ مَغداه، ويمدَحُ النَّادِيَ ونَداه.
قال الحارِثُ بنُ هَمَّامٍ: فناجاني قلبي بأنَّه أبو زيدٍ، وأنَّ تعارُجَه لِكَيدٍ، فاستعَدْتُه وقُلتُ له: قد عُرِفْتَ بوَشْيِك، فاستَقِمْ في مَشْيِك، فقال: إنْ كنتَ ابنَ هَمَّامٍ، فحُيِّيتَ بإكرامٍ، وحَيِيتَ بَيْنَ كِرامٍ! فقُلتُ: أنا الحارِثُ، فكيف حالُك والحوادِثَ؟ فقال: أتقَلَّبُ في الحالَينِ: بُؤْسٍ ورَخاءٍ، وأنقَلِبُ مع الرِّيحَينِ: زَعزَعٍ ورَخاءٍ، فقُلتُ: كيف ادَّعَيتَ القَزَلَ؟ وما مِثْلُك مَن هَزَل، فاستسَرَّ بِشْرُه الَّذي كان تجَلَّى، ثُمَّ أنشد حينَ وَلَّى:
تعارَجْتُ لا رَغبةً في العَرَجِ
ولكِنْ لأقرَعَ بابَ الفَرَجْ
وأُلقِيَ حَبْلي على غاربي
وأسلُكَ مَسلَكَ مَن قد مَرَجْ
فإنْ لامني القَومُ قُلتُ اعذِروا
فليس على أعرَجٍ مِن حَرَجْ [164] يُنظر: ((مقامات الحريري)) (ص: 34).

انظر أيضا: