موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الثَّالِثُ: مَقاماتُ الحَريريِّ


كان الحَريريُّ أهَمَّ تلامِذةِ بَديعِ الزَّمانِ الَّذين اهتَمُّوا بالمقاماتِ ونَسَجوا على مِنوالِها، حتَّى إنَّه عَمَد إلى مقاماتِ بَديعِ الزَّمانِ فحاكاها في الموضوعاتِ والأسجاعِ، بل ألَّف خمسينَ مَقامةً على غِرارِ صَنيعِ الهَمَذانيِّ، إلَّا أنَّه امتاز على بَديعِ الزَّمانِ بكَثرةِ مَحفوظِه اللُّغَويِّ، وقُدْرَتِه على اسْتِخْدامِ الألفاظِ، وسَعةِ إشارتِه في مقاماتِه، وغزارةِ المسائِلِ العِلْميَّةِ، فَضْلًا عمَّا أوتِيَه مِنَ الشُّهْرةِ والحَظِّ والمالِ، فاشتَهَرت مقاماتُه شُهرةً طغَت على مقاماتِ بَديعِ الزَّمانِ، حتَّى صارت "المقاماتُ" عَلَمًا على مقاماتِ الحَريريِّ دونَ غَيرِه، وكَثُرت على مقاماتِه الشُّروحُ.
وقد جَعَل الحَريريُّ بَطَل مَقاماتِه رَجُلًا سمَّاه "أبا زَيدٍ السَّروجيَّ"، وراويتَه الحارِثَ بنَ هَمَّامٍ، ودارت موضوعاتُه على نَفسِ موضوعاتِ المقاماتِ الأُولى، فكانت على الوَعْظِ والألغازِ وغَيرِهما، وأهَمُّ مَوضوعاتِه كذلك وأكبَرُها عددًا الكُدْيةُ.
لكِنَّ الَّذي يُؤخَذُ على الحريريِّ اهتمامُه بالتَّزيينِ اللَّفْظيِّ؛ فكان يكتُبُ كَلِماتٍ تُقرَأُ مِنَ اليَمينِ كما تُقرَأُ مِنَ اليسارِ والمعنى صالِحٌ فيهما، مثل: "الإنسانُ صَنيعةُ الإحسانِ"، وكَلِماتٍ تُقرَأُ مِنَ اليمينِ كما تُقرَأُ مِنَ اليسارِ بنَفْسِ النُّطْقِ والمعنى، مِثلُ: "ساكب كاس"، ويَكتُبُ كَلِماتٍ تتألَّفُ من حرفٍ مُعجَمٍ وآخَرَ مُهمَلٍ، وهكذا بترتيبٍ، أو كَلِمةً تتكَوَّنُ مِن حُروفٍ كُلُّها مُعجَمةٌ وبجانِبِها حروفٌ أخرى كُلُّها مُهمَلةٌ. وهذا وإن كان لا عَلاقةَ له بالمقاماتِ فإنَّ النَّاسَ قد ألِفوا في العَصرِ العبَّاسيِّ المَيْلَ إلى الزَّخْرفةِ في كُلِّ شَيءٍ؛ في المباني والملابِسِ والكَلامِ والكِتابةِ وغَيرِها [162] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (14/ 125)، ((الفنون الأدبية في العصر العباسي)) لشعبان مرسي (ص: 75). .
وقد تلا الهَمَذانيَّ والحَريريَّ أصحابُ مَقاماتٍ كَثيرةٍ؛ منهم الزَّمَخْشريُّ، وابنُ الجَوزيِّ، والسُّيوطيُّ، وغَيرُهم.

انظر أيضا: