موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الثَّاني: نماذِجُ مِنَ الوَصْفِ


وَصْفُ القاضي الفاضِلِ لعاصِفةٍ:
ذَكَر السُّيوطيُّ أنَّ القاضيَ الفاضِلَ كَتَب إلى أحَدِ القُضاةِ يُخبرُه بما وقع مِنَ العاصِفةِ والبَردِ في إحدى اللَّيالي، فقال: (أتى عارِضٌ فيه ظُلُماتٌ مُتكاثِفةٌ، وبُروقٌ خاطِفةٌ، ورِياحٌ عاصِفةٌ، فقَوِيَ أهوِيَتُها، واشتَدَّ هُبوبُها، فتدافَعَت لها أعِنَّةٌ مُطلَقاتٌ، وارتفَعَت لها صواعِقُ مُصعِقاتٌ، فرَجَفَت لها الجُدرانُ واصطفَقَت، وتلاقَت على بُعْدِها واعتنَقَت، وثار بَيْنَ السَّماءِ والأرضِ عَجاجٌ، فقيل: لعلَّ هذه على هذه أُطبِقَت، ولا نحسَبُ إلَّا أنَّ جَهنَّمَ قد سال منها وادٍ، وعدا منها عادٍ، وزاد عَصْفُ الرِّياحِ إلى أنِ انطفأَت سُرُجُ النُّجومِ، ومزَّقَت أديمَ السَّماءِ ومَحَت ما فوقَه مِنَ الرُّقومِ؛ فكُنَّا كما قال اللهُ: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة: 19] ، وكما قُلْنا: ويرُدُّونَ أيديَهم على أعيُنِهم مِنَ البَوارِقِ، لا عاصِمَ مِنَ الخَطْفِ للأبصارِ، ولا مَلجَأَ مِنَ الخَطْبِ إلَّا معاقِلُ الاستِغفارِ، وفَرَّ النَّاسُ نِساءً ورِجالًا وأطفالًا، ونَفَروا من دُورِهم خِفافًا وثِقالًا، لا يستطيعونَ حِيلةً ولا يَهتَدونَ سَبيلًا، فاعتَصَموا بالمساجِدِ الجامِعةِ، وأذعَنوا للنَّازِلةِ بأعناقٍ خاضِعةٍ، ووُجوهٍ عايِنةٍ، ونُفوسٍ عن الأهْلِ والمالِ سالِيةٍ، يَنظُرونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ، ويتوقَّعون أيَّ خَطبٍ جَلِيٍّ، قد انقطعت مِنَ الحياةِ عُلَقُهم، وعَيَّت عن النَّجاةِ طُرُقُهم، ووقَعَت الفِكرةُ فيما هم قادِمون، وقاموا إلى صَلاتِهم، وودُّوا أنْ لو كانوا مِنَ الَّذين هم عليها دائِمون، إلى أن أذِنَ اللهُ في الرُّكودِ، وأسعَفَ الهاجِدينَ بالهُجودِ، وأصبح كُلٌّ ليُسَلِّمَ على رفيقِه، ويُهَنِّئَه بسلامةِ طَريقِه، ويرى أنَّه قد بُعِث بَعْدَ النَّفْخةِ، وأفاق بَعْدَ الصَّيحةِ والصَّرْخةِ، وأنَّ اللهَ قد ردَّ له الكَرَّةَ، وأدَّبه بَعْدَ أن كان يأخُذُه على الغِرَّةِ. ووردَتِ الأخبارُ بأنَّها كَسَّرت المراكِبَ في البِحارِ والأشجارَ في القِفارِ، وأتلَفَت خَلْقًا كثيرًا مِنَ السُّفَّارِ، ومنهم من فَرَّ فلم ينفَعْه الفِرارُ.
إلى أن قال: ولا يحسَبِ المجلِسُ أنِّي أرسَلْتُ القَلَمَ مُحَرَّفًا، والقَولَ مُجزَّفًا، فالأمرُ أعظَمُ، ولكِنَّ اللهَ سَلَّم، ونرجو أن يكونَ اللهُ قد أيقَظَنا بما وعَظَنا، ونبَّهَنا بما وَلَّهَنا، فما مِن عِبادِه مَن رأى القيامةَ عِيانًا، ولم يلتَمِسْ عليها من بَعْدِه بُرهانًا، إلَّا أهلُ بَلَدِ يافا، اقتَصَّ الأوَّلون مِثْلَها في المَثُلاتِ، ولا سَبَقَت لها سابِقةٌ في المُعضِلاتِ، والحَمدُ للهِ الَّذي مِن فَضْلِه جعَلَنا نخبِرُ عنها ولا تُخبِرُ عَنَّا، ونَسأَلُ اللهَ أن يَصرِفَ عَنَّا عارِضَيِ الحِرْصِ والغُرورِ إذا عَنَّا) [158] يُنظر: ((حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة)) للسيوطي (2/ 290). .
وَصْفُ الرَّافعيِّ أميرَ الشُّعَراءِ أحمَد شوقي:
قال الرَّافِعيُّ: (هذا هو الرَّجُلُ الَّذي يُخيَّلُ إليَّ أنَّ مِصرَ اختارته دونَ أهلِها جميعًا لتضَعَ فيه رُوحَها المُتكَلِّمَ، فأوجَبَت له ما لم تُوجِبْ لغَيرِه، وأعانَتْه بما لم يتَّفِقْ لسِواه، ووهبَتْه مِنَ القُدرةِ والتَّمْكينِ وأسبابِ الرِّياسةِ وخَصائِصِها على قَدْرِ أمَّةٍ تُريدُ أن تكونَ شاعِرةً، لا على قَدْرِ رَجُلٍ في نَفْسِه، وبه وَحْدَه استطاعت مِصرُ أن تقولَ للتَّاريخِ: شِعْري وأدَبي!
شوقي: هذا هو الاسمُ الَّذي كان في الأدَبِ كالشَّمْسِ مِنَ المَشرِقِ؛ متى طلَعَت في مَوضِعٍ فقد طلَعَت في كُلِّ مَوضِعٍ، ومتى ذُكِرَ في بَلَدٍ مِن بِلادِ العالَمِ العَربيِّ اتَّسَع معنى اسمِه فدَلَّ على مِصرَ كُلِّها، كأَنَّما قيل: النِّيلُ أو الهَرَمُ أو القاهِرةُ؛ مترادِفاتٍ لا في وَضْعِ اللُّغةِ، ولكِنْ في جَلالِ اللُّغةِ!
رجلٌ عاش حتَّى تَمَّ، وذلك بُرهانُ التَّاريخِ على اصطِفائِه لمِصرَ، ودليلُ العَبقريَّةِ على أنَّ فيه السِّرَّ المتحَرِّكَ الَّذي لا يَقِفُ ولا يَكِلُّ ولا يَقطَعُ نِظامَ عَمَلِه، كأنَّ فيه حاسَّةَ نَحلةٍ في حديقةٍ، ويَكبُرُ شِعرُه كُلَّما كَبِرَ الزَّمَنُ، فلم يتخَلَّفْ عن دَهْرِه، ولم يقَعْ دونَ أبعَدِ غاياتِه، وكأنَّه مع الدَّهرِ على سياقٍ واحِدٍ، وكأنَّ شِعْرَه تاريخٌ مِنَ الكَلامِ يتطَوَّرُ أطوارَه في النُّمُوِّ فلم يَجمُدْ ولم يرتَكِسْ، وبَقِيَ خَيالُ صاحِبِه إلى آخِرِ عُمُرِه في تدبيرِ السَّماءِ كعِراصِ الغَمامةِ؛ سَحابُه كَثيرُ البَرقِ ممتَلِئٌ مُمطِرٌ يُنصَبُ من ناحيةٍ ويمتَلِئُ مِن ناحيةٍ.
والنَّاسُ يُكتَبُ عليهم الشَّبابُ والكُهولةُ والهَرَمُ، ولكِنَّ الأديبَ الحَقَّ يُكتَبُ عليه شبابٌ وكُهولةٌ وشَبابٌ؛ إذ كانت في قَلْبِه الغاياتُ الحَيَّةُ الشَّاعِرةُ، ما تنفَكُّ يَلِدُ بَعضُها بعضًا إلى ما لا انقِطاعَ له، فإنَّها ليست من حياةِ الشَّاعِرِ الَّتي خُلِقَت في قَلْبِه، ولكِنَّها من حياةِ المعاني في هذا القَلْبِ) [159] يُنظر: ((وحي القلم)) للرافعي (3/ 264). .

انظر أيضا: