موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّالِثُ: الرَّسائِلُ الأدَبيَّةُ


وهي تلك الرَّسائِلُ يُرسِلُها أديبٌ إلى أديبٍ آخَرَ مُناقِشًا إيَّاه، أو متحَدِّثًا في قَضِيَّةٍ أَدَبيَّةٍ، أو عن خِبرتِه في عَصرٍ مِنَ العُصورِ.
وتتمَيَّزُ هذه الرِّسالةُ برَوعةِ الألفاظِ وكَثرةِ الصُّوَرِ البَيانيَّةِ، والإكثارِ مِنَ المحَسِّناتِ البَديعيَّةِ اللَّفْظيَّةِ والمَعْنويَّةِ؛ إذ تُنبِئُ عن شَخصِيَّةِ أديبٍ كاتبٍ بليغٍ، ذلَّت له بَلاغةُ القَلَمِ، وانطَوَت جوانحُه على فَصاحةِ البَيانِ.
ومِن أمثِلةِ ذلك ما أفرَدَه الجاحِظُ في ((رَسائِلِه الأدبيَّةِ))، وكِتاباتُ ابنِ المقَفَّعِ، ورَسائِلُ مُصطفى صادِق الرَّافِعيِّ؛ ففي جميعِها تتَّضِحُ ماهِيَّةُ الرِّسالةِ الأدبيَّةِ ويُبِينُ عن مَكنونِها.
رِسالةُ الجاحِظِ:
ومِثالُ تلك الرَّسائِلِ ما كتبه الجاحِظُ في رسالةِ الحاسِدِ والمحسودِ:
(وهَبَ اللهُ لك السَّلامةَ، وأدامَ لك الكَرامةَ، ورَزَقك الاستِقامةَ، ورفع عنك النَّدامةَ.
كتبْتَ إليَّ -أيَّدك اللهُ- تسألُني عن الحَسَدِ ما هو؟ ومِن أينَ هو؟ وما دليلُه وأفعالُه؟ وكيف تُعرَفُ أُمورُه وأحوالُه، وبمَ يُعرَفُ ظاهِرُه ومَكتومُه، وكيف يُعلَمُ مَجهولُه ومَعْلومُه، ولمَ صار في العُلَماءِ أكثَرَ منه في الجُهَلاءِ؟ ولمَ كَثُرَ في الأقرباءِ وقَلَّ في البُعَداءِ؟ وكيف دَبَّ في الصَّالحينَ أكثَرَ منه في الفاسِقينَ؟ وكيف خُصَّ به الجيرانُ مِن بَيْنِ جميعِ أهْلِ الأوْطانِ؟
والحَسَدُ -أبقاك اللهُ- داءٌ يَنهَكُ الجَسَدَ، ويُفسِدُ الوُدَّ، عِلاجُه عَسِرٌ، وصاحِبُه ضَجِرٌ، وهو بابٌ غامِضٌ وأمرٌ مُتعَذِّرٌ، وما ظهر منه فلا يُداوى، وما بَطَن منه فمُداويه في غَناءٍ؛ ولذلك قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «دبَّ إليكم داءُ الأُمَمِ مِن قَبْلِكم: الحَسَدُ والبَغْضاءُ» [153] أخرجه أحمد (1412) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. . وقال بَعْضُ النَّاسِ لجُلَسائِه: أيُّ النَّاسِ أقلُّ غَفلةً؟ فقال بعضُهم: صاحِبُ ليلٍ، إنَّما همُّه أن يُصبِحَ. فقال: إنَّه لكذا وليس كذا. وقال بعضُهم: المسافِرُ، إنَّما همُّه أن يَقطَعَ سَفَرَه. فقال: إنَّه لكذا وليس كذا. فقالوا له: فأخبِرْنا بأقلِّ النَّاسِ غَفلةً. فقال: الحاسِدُ، إنَّما همُّه أن يَنزِعَ اللهُ منك النِّعْمةَ الَّتي أعطاكها، فلا يَغفُلُ أبدًا.
ويُرْوى عن الحَسَنِ أنَّه قال: الحَسَدُ أسرَعُ في الدِّين مِنَ النَّارِ في الحَطَبِ اليابِسِ!
وما أُتِيَ المحسودُ مِن حاسِدِه إلَّا مِن قِبَلِ فَضلِ اللهِ عِندَه ونِعَمِه عليه؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [النساء: 54] .
والحَسَدُ عَقيدُ الكُفرِ، وحَليفُ الباطِلِ، وضِدُّ الحقِّ، وحَربُ البيانِ؛ فقد ذمَّ اللهُ أهلَ الكِتابِ به، فقال: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة: 109] .
منه تتولَّدُ العَداوةُ، وهو سَبَبُ كُلِّ قَطيعةٍ، ومُنتَجُ كُلِّ وَحشةٍ، ومُفَرِّقُ كُلِّ جماعةٍ، وقاطِعُ كُلِّ رَحِمٍ بَيْنَ الأقرِباءِ، ومحْدِثُ التَّفَرُّقِ بَيْنَ القُرَناءِ، ومُلقِحُ الشَّرِّ بَيْنَ الخُلَطاءِ، يَكمُنُ في الصَّدرِ كُمُونَ النَّارِ في الحَجَرِ.
ولو لم يَدخُلْ على الحاسِدِ بَعْدَ تراكُمِ الغُمومِ على قَلْبِه، واستِكمانِ الحُزنِ في جَوفِه، وكَثرةِ مَضَضِه ووَسْواسِ ضَميرِه، وتنَغُّصِ عُمُرِه وكَدَرِ نَفْسِه وكَدِّ عَيْشِه، إلَّا استِصغارُه نِعمةَ اللهِ عليه، وسَخَطُه على سيِّده بما أفاد غَيرَه، وتمنِّيه عليه أن يرجِعَ في هِبتِه إيَّاه، وألَّا يَرزُقَ أحَدًا سِواه- لكان عِنْدَ ذَوي العُقولِ مَرحومًا، وكان لديهم في القياسِ مَظلومًا. وقد قال بَعْضُ الأعرابِ: ما رأيتُ ظالِمًا أشبَهَ بمظلومٍ مِنَ الحُسَّادِ: نَفَسٌ دائِمٌ، وقَلبٌ هائِمٌ، وحُزنٌ لازِمٌ.
والحاسِدُ مَخذولٌ ومَوزورٌ، والمحسودُ محبوبٌ ومنصورٌ. والحاسِدُ مَغمومٌ ومَهجورٌ، والمحسودُ مَغْشِيٌّ ومَزُورٌ.
والحَسَدُ -رَحِمَك اللهُ- أوَّلُ خَطيئةٍ ظَهَرت في السَّمَواتِ، وأوَّلُ مَعصيةٍ حَدَثت في الأرضِ، خصَّ به أفضَلَ الملائكةِ [154] لم يكُنْ إبليسُ مِنَ الملائِكةِ أبدًا، بل هو مِنَ الِجنِّ، بدليلِ قَولِه تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50] ، وهو مخلوقٌ مِنَ النَّارِ، والملائِكةُ مخلوقةٌ مِنَ النُّورِ، والملائِكةُ لا يَعصونَ اللهَ ما أمرهم، وإنما دخل في الخِطابِ تَغليبًا؛ لأنَّه كان معهم في الجَنَّةِ حينَ أمَرَهم اللهُ تعالى بالسُّجودِ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/ 91)، ((تفسير ابن كثير)) (3/ 298). فعصى ربَّه، وقايَسَه في خَلْقِه، واستكبَرَ عليه، فقال: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] ، فلعنه وجعله إبليسًا، وأنزله من جوارِه بَعْدَ أن كان أنيسًا، وشوَّه خَلْقَه تَشويهًا، وموَّه على نبيِّه تمويهًا، نَسِيَ به عَزْمَ ربِّه، فواقع الخطيئةَ، فارتدَعَ المحسودُ وتاب عليه وهدى، ومضى اللَّعينُ الحاسِدُ في حَسَدِه فشَقِيَ وغَوى.
وأمَّا في الأرضِ فابنا آدَمَ؛ حَيثُ قتَلَ أحَدُهما أخاه، فعصى ربَّه وأثكَلَ أباه. وبالحسَدِ طوَّعَت له نَفْسُه قَتْلَ أخيه، فقتَلَه فأصبح مِنَ الخاسِرينَ.
لقدْ حَمَله الحَسَدُ على غايةِ القَسْوةِ، وبَلَغ به أقْصَى حُدودِ العُقوقِ، فأنْساه مِن رَحِمِه جميعَ الحُقوقِ؛ إذ ألْقَى الحَجَرَ عليه شادِخًا، وأصبَحَ عليه نادِمًا صارِخًا.
ومِن شأنِ الحاسِدِ إنْ كان المحسودُ غَنِيًّا أن يوبِّخَه على المالِ فيقولَ: جمَعَه حرامًا ومنَعَه أثامًا. وألَّب عليه محاويجَ أقاربِه فترَكَهم له خُصَماءَ، وأعانهم في الباطِنِ، وحَمَل المحسودَ على قطيعتِهم في الظَّاهِرِ، وقال له: لقد كَفَروا مَعروفَك، وأظهَروا في النَّاسِ ذَمَّك، فليس أمْثالُهم يُوصَلون، فإنَّهم لا يَشكُرون. وإنْ وَجَد له خَصْمًا أعانَه عليه ظُلمًا، وإنْ كان ممَّن يُعاشِرُه فاستشارَه، غَشَّه، أو تفضَّل عليه بمَعروفٍ، كَفَره، أو دعاه إلى نَصرٍ، خَذَله، وإن حَضَر مَدْحَه ذَمَّه، وإن سُئِل عنه همَزَه، وإن كانت عنده شَهادةٌ كتَمَها، وإن كانت منه إليه زَلَّةٌ عظَّمها، وقال: إنَّه يُحِبُّ أنْ يُعادَ ولا يَعودَ، ويَرى عليه العُقودَ.
وإن كان المحسودُ عالِمًا قال: مُبتَدِعٌ، ولِرأيِه مُتَّبِعٌ، حاطِبُ لَيلٍ ومُبتغي نَيلٍ، لا يُدرى ما حَمَل، قد تَرَك العَمَل، وأقْبَلَ على الحِيَل. قدْ أقبَلَ بوُجوهِ النَّاسِ إليه، وما أحمَقَهم إذِ انثالوا عليه. فقبَّحه اللهُ مِن عالمٍ ما أعظَمَ بَليَّتَه، وأقَلَّ رِعَتَه، وأسوَأَ طُعْمَتَه!
وإن كان الحَسودُ ذا دِينٍ قال: مُتصَنِّعٌ يَغزو ليُوصَى إليه، ويَحُجُّ ليُثنَى بشَيءٍ عليه، ويَصومُ لتُقبَلَ شَهادتُه، ويُظهِرُ النُّسُكَ ليُودَعَ المالُ بَيْتَه، ويَقرَأُ في المسجِدِ ليزوِّجَه جارُه ابنَتَه، ويحضُرُ الجنائِزَ لتُعرَفَ شُهرَتُه.
وما لَقِيتُ حاسِدًا قطُّ إلَّا تبيَّنَ لك مَكنونُه بتَغيُّرِ لَونِه وتخوُّصِ عَينِه وإخفاءِ سَلامِه، والإقبالِ على غَيرِك والإعراضِ عنك، والاستِثْقالِ لحديثِك، والخِلافِ لرَأيِك... وما أرى السَّلامةَ إلَّا في قَطْعِ الحاسِدِ، ولا السُّرورَ إلَّا في افتِقادِ وَجْهِه، ولا الرَّاحةَ إلَّا في صَرمِ مُداراتِه، ولا الرِّبحَ إلَّا في تَرْكِ مُصافاتِه.
فإذا فعَلْتَ ذلك فكُلْ هَنِيًّا مَرِيًّا، ونَمْ رَضِيًّا، وعِشْ في السُّرورِ مَلِيًّا. ونحن نسألُ اللهَ الجليلَ أن يُصَفِّيَ كَدَرَ قُلوبِنا، ويجنِّبَنا وإيَّاك دَناءةَ الأخلاقِ، ويَرزُقَنا وإيَّاكَ حُسْنَ الأُلفةِ والاتِّفاقِ، ويُحسِنَ توفيقَك وتَسديدَك. والسَّلامُ) [155] يُنظر: ((الرسائل الأدبية)) للجاحظ (ص: 115). .

انظر أيضا: