موسوعة اللغة العربية

الفَصْلُ الأوَّلُ: حُسْنُ الابتِداءِ


وهو أن يَستفتِحَ الكاتِبُ والمُنشِئُ كِتابَه بمُقَدِّمةٍ يَسيرةٍ، يَستفتِحُها بذِكْرِ اللهِ تعالى، وينبغي في تلك المقَدِّمةِ أن تكونَ دالَّةً على المعنى المقصودِ مِنَ الكَلامِ نَوعًا ما دونَ الخَوضِ في مَسائِلِه وتفاصيلِه؛ فإن كان الغَرَضُ مِنَ الكِتابةِ مَدْحًا استفتح الكَلامَ بما يدُلُّ على المَدْحِ، وإن كانت عَزاءً فعَزاءٌ؛ فإنَّ فائِدةَ المقَدِّمةِ بَيانُ ماهِيَّةِ المَوضوعِ وحُسْنُ التَّخَلُّصِ إليه.
وإنَّما وقع الاهتِمامُ على الابتِداءِ؛ إذ الابتِداءُ هو أوَّلُ ما يَقرَعُ السَّمْعَ، وأوَّلُ ما يبتَدِئُ به المُتكَلِّمُ، وهو مِفتاحُ الكَلامِ، فإنْ هو أتقَنَه كان إتقانُه مُعينًا على النَّسْجِ على مِنوالِه، كما يُقالُ: (الحَديثُ شُجونٌ).
ولذلك عِيبَ على الشُّعَراءِ والكُتَّابِ إغفالُهم حُسنَ الابتداءِ؛ فإنَّه يُحكى أنَّ الخليفةَ المعتَصِمَ لَمَّا فرَغَ من بناءِ قَصْرِه بالمَيدانِ جلس فيه وأمر أهْلَه وأصحابَه أن يَخرُجوا في أحسَنِ الثِّيابِ، فما رأى النَّاسُ أحسَنَ من ذلك اليَومِ، فاستأذنَ إسحاقُ بنُ إبراهيمَ المَوصِليُّ في الإنشادِ، فأَذِن له، فأنشَدَ شِعرًا حَسَنًا أجاد فيه، إلَّا أنَّه استفتَحَه بقَولِه:
يا دارُ غيَّركِ البِلَى
يا ليْتَ شِعْري ما الَّذي أبلاكِ
فتشاءمَ المعتَصِمُ بذلك، وتعجَّب النَّاسُ كيف يَخْفى على إسحاقَ مِثْلُ ذلك على مَعرِفَتِه وطُولِ خِدمَتِه، ثُمَّ خرج المعتَصِمُ إلى سُرَّ مَن رأى وخَرَّب القَصْرَ!
فانظُرْ كيف صنَعَتْ مُقَدِّمةُ القَصيدةِ رَغْمَ حُسْنِ سائِرِها، ولو أنَّ إسحاقَ افتَتَح ببَيتِ أشجَعَ الأسلَميِّ:
قَصْرٌ عليه تحيَّةٌ وسَلامُ
خلَعَت عليها جَمالَها الأيَّامُ
لكان أَولى وأطرَبَ وألْيَقَ بتلك المُناسَبةِ.
وقد سُئِلَ بَعضُهم: مَن أشعَرُ النَّاسِ؟ فقال: من أجاد الابتِداءَ والمَطْلَعَ؛ ألَا ترى إلى قَصيدةِ أبي نُواسٍ الَّتي أوَّلُها:
يا دارُ ما فعَلَتْ بِكِ الأيَّامُ
لم تُبْقِ فيكِ بَشاشةً تُسْتامُ
فإنَّها من أشرَفِ شِعْرِه وأعلاه مَنزِلةً، وهي مع ذلك مُستَكْرَهةُ الابتِداءِ؛ لأنَّها في مَدْحِ الخَليفةِ الأمينِ، وافتتاحُ المديحِ بذِكرِ الدِّيارِ ودُثُورِها ممَّا يُتَطَيَّرُ منه، لا سيَّما في مشافَهةِ الخُلَفاءِ والمُلوكِ.
ولهذا عُدَّ من أفضَلِ الاستِفْتاحاتِ قَولُ أبي تمَّامٍ:
السَّيْفُ أَصْدَقُ أنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ
في حَدِّهِ الحَدُّ بَيْنَ الجِدِّ واللَّعِبِ
فإنَّ له قِصَّةً؛ وذلك أنَّه لَمَّا حَضَر المعتَصِمُ مَدينةَ عَمُّوريَّةَ زعَم المُنَجِّمُون أنَّها لا تُفتَحُ في ذلك الوَقتِ، وأفاضوا في هذا حتَّى شاع وصار أُحْدوثةً بَيْنَ النَّاسِ، فلَمَّا فُتِحَت بنى أبو تمَّامٍ مَطْلَعَ قَصيدتِه على هذا المعنى، وجَعَل السَّيفَ أصدَقَ مِنَ الكُتُبِ الَّتي خَبَّرت بامتِناعِ البَلَدِ واعتِصامِها؛ ولذلك قال فيها:
بِيضُ الصَّفائِحِ لَا سُودُ الصَّحائِفِ في
مُتُونِهنَّ جَلاءُ الشَّكِ والرِّيَبِ
والعِلْمُ في شُهُبِ الأَرْمَاحِ لَامِعَةً
بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لَا فِي السَّبْعَةِ الشُّهُبِ
أَيْنَ الرِّوايةُ بَلْ أينَ النُّجومُ وما
صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومِنْ كَذِبِ
وممَّا عِيبَ مِنَ الابتِداءِ في النَّثْرِ ما كتَبَه أبو إسحاقَ الصَّابي؛ حَيثُ أرسَلَ كِتابًا يتضَمَّنُ فَتحَ بَغدادَ وانهزامَ الأتْراكِ عنها، فابتَدَأ: (الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ، المَلِكِ الحَقِّ المُبِينِ، الوَحيدِ الفَريدِ، العَلِيِّ المَجيدِ، الأزَليِّ بلا ابتِداءٍ، الأبَدِيِّ بلا انتِهاءٍ، القَديمِ لا مُنذُ أَمَدٍ محدودٍ، الدَّائِمِ لا إلى أجَلٍ مَعدودٍ، الفاعِلِ لا مِن مادَّةٍ استمَدَّها، ولا بآلةٍ استعمَلَها، الَّذي لا تُدرِكُه الأعيُنُ بلِحاظِها، ولا تَحُدُّه الألسُنُ بألفاظِها، ولا تُخْلِقُه العُصورُ بمُرورِها، ولا تُهْرِمُه الدُّهورُ بكُرورِها، ولا تُضارِعُه الأجسامُ بأقطارِها، ولا تُجانِسُه الصُّوَرُ بأعراضِها، ولا تُجاريه أقدامُ النَّظَرِ أو الأشكالِ، ولا تُزاحِمُه مَناكِبُ القُرَناءِ والأمْثالِ، بل هو الصَّمَدُ الَّذي لا كُفْءَ له، والفَذُّ الَّذي لا تَوْأَمَ معه، والحَيُّ الَّذي لا تَخرِمُه المَنُونُ، والقَيُّومُ الَّذي لا تَشغَلُه الشُّؤونُ، والقَديرُ الَّذي لا تَؤُودُه المُعضِلاتُ، والخَبيرُ الَّذي لا تُعْيِيه المُشكِلاتُ).
وهذه المقَدِّمةُ وإن كانت حَسَنةً على انفِرادِها، إلَّا أنَّها كما قال ابنُ الأثيرِ: (لا تُناسِبُ الكِتابَ الَّذي افتُتِحَ بها، ولكِنَّها تَصلُحُ أن تُوضَعَ في صَدرِ مُصَنَّفٍ مِن مُصَنَّفاتِ أُصولِ الدِّينِ، ككِتابِ الشَّامِلِ للجُوَينيِّ، أو كِتابِ الاقتِصادِ، أو ما جرى مجْراهما. وأمَّا أن تُوضَعَ في صَدْر كِتابِ فَتحٍ فلا) [127] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (2/ 234). .
وأبو إسحاقَ الصَّابي إن كان أساء في هذه فقدْ وُفِّق في أخرى، حينَ كتب إلى الخَليفةِ الطَّائِعِ بَعْدَ عَودتِه إلى كُرسيِّ المُلْكِ بَعْدَ انهِزامِ الأتْراكِ، فابتدَأَ الرِّسالةَ بقَولِه: (الحَمدُ للهِ ناظِمِ الشَّمْلِ بَعْدَ شَتاتِه، وواصِلِ الحَبْلِ بَعْدَ بَتاتِه، وجابِرِ الوَهْنِ إذا ثَلِمَ، وكاشِفِ الخَطْبِ إذا أظلَمَ، والقاضي للمُسلِمينَ بما يَضُمُّ نَشْرَهم، ويَشُدُّ أَزْرَهم، ويُصلِحُ ذاتَ بَيْنِهم، ويحفَظُ الأُلفةَ عليهم، وإن شابت ذلك في الأحيانِ شَوائِبُ مِنَ الحَدَثانِ، فلن يتجاوَزَ بهم الحَدَّ الَّذي يُوقِظُ غافِلَهم، ويُنَبِّه ذاهِلَهم، ثُمَّ إنَّهم عائِدونَ إلى فضْلِ ما أوْلاهم اللهُ وعوَّدهم، ووثَّق لهم ووعَدَهم، مِن إيمانِ سِرْبِهم، وإعذابِ شِرْبِهم، وإعزازِ جانِبِهم، وإذلالِ مُجانِبِهم، وإظهارِ دينِهم على الدِّينِ كُلِّه ولو كَرِهَ المُشرِكون).
ويتضَمَّنُ حُسنُ الابتِداءِ أن يَكونَ الدُّعاءُ في مُقدِّمةِ الكِتابِ مُتَعَلِّقًا بموضوعِه، كما كانت المُقَدِّمةُ دالَّةً على المقصودِ ومُشيرةً إليه، كقَولِ ابنِ الأثيرِ في مُقَدِّمة كِتابٍ أرسَلَه تَهنِئةً بفَتحٍ: (هذا الكِتابُ مُشافِهٌ بخِدْمةِ الهَناءِ للمَجْلِسِ السَّامي الفُلانيِّ، جَدَّد اللهُ له في كُلِّ يَومٍ فتحًا، وبدَّل عَرْشَ كُلِّ ذي سُلطانٍ لديه صَرْحًا، وجعلَ كلَّ مَوقِفٍ مِن مَواقِفِ جُودِه وبأْسِه يومَ فِطْرٍ ويومَ أضحى، وكتب له على لِسانِ الإسلامِ ولِسانِ الأيَّامِ ثَناءً خالِدًا ومَدْحًا، وأسكَنَه بَعْدَ العُمُرِ الطَّويلِ دارًا لا يَظمَأُ فيها ولا يَضْحى) [128] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (2/ 236). .
قال ابنُ الأثيرِ: (وإنَّما خُصَّت الابتِداءاتُ بالاختيارِ؛ لأنَّها أوَّلُ ما يَطرُقُ السَّمْعَ مِنَ الكَلامِ، فإذا كان الابتِداءُ لائقًا بالمعنى الوارِدِ بَعْدَه توفَّرت الدَّواعي على استِماعِه، ويَكْفيك مِن هذا البابِ الابتِداءاتُ الوارِدةُ في القُرآنِ، كالتَّحْميداتِ المُفتَتَحِ بها أوائِلُ السُّوَرِ، وكذلك الابتِداءاتُ بالنِّداءِ، كقَولِه تعالى في مُفتَتَحِ سُورةِ النِّساءِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء: 1] ، وكقَولِه تعالى في أوَّلِ سُورةِ الحَجِّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] ؛ فإنَّ هذا الابتِداءَ ممَّا يُوقِظُ السَّامِعينَ للإصغاءِ إليه، وكذلك الابتِداءاتُ بالحُروفِ، مِثْلُ: "الم" و"طس"، و"حم"، وغيرِ ذلك؛ فإنَّ هذا أيضًا ممَّا يَبعَثُ على الاستِماعِ إليه؛ لأنَّه يَقرَعُ السَّمْعَ شَيءٌ غريبٌ ليس له بمِثْلِه عادةٌ، فيكونُ ذلك سَبَبًا للتطَلُّعِ نَحْوَه والإصغاءِ إليه) [129] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (2/ 224). .

انظر أيضا: