موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّالِثُ: الألفاظُ المُرَكَّبةُ


حُسْنُ التَّركيبِ:
يُشتَرَطُ في تركيبِ الألفاظِ كذلك أن يَحسُنَ التَّقديمُ والتَّأخيرُ بَيْنَ كَلِماتِها، وأن يُجمَعَ بَيْنَ الكَلِمةِ وما يَليقُ بها.
قال أبو هِلالٍ العَسْكَريُّ: (أجناسُ الكَلامِ المنظومِ ثَلاثةٌ: الرَّسائِلُ والخُطَبُ والشِّعْرُ، وجميعُها تحتاجُ إلى حُسْنِ التَّأليفِ وجَودةِ التَّرْكيبِ.
وحُسْنُ التَّأليفِ يَزيدُ المعنى وُضوحًا وشَرْحًا، ومع سُوءِ التَّأليفِ ورَداءةِ الرَّصْفِ والتَّركيبِ شُعْبةٌ مِنَ التَّعْميةِ، فإذا كان المعنى سَبِيًّا، ووَصْفُ الكَلامِ رَدِيًّا؛ لم يُوجَدْ له قَبولٌ، ولم تَظهَرْ عليه طَلاوةٌ، وإذا كان المعنى وَسَطًا، ورَصْفُ الكَلامِ جَيِّدًا، كان أحسَنَ مَوقِعًا، وأطيَبَ مُستَمَعًا؛ فهو بمَنزلةِ العِقْدِ؛ إذا جُعِلَ كُلُّ خَرزةٍ منه إلى ما يَليقُ بها، كان رائِعًا في المرأى وإنْ لم يَكُنْ مُرتَفِعًا جليلًا، وإنِ اختَلَّ نَظْمُه فضُمَّت الحبَّةُ منه إلى ما لا يَليقُ بها، اقتحَمَتْه العَينُ وإن كان فائِقًا ثمينًا.
وحُسْنُ الرَّصْفِ: أن تُوضَعَ الألفاظُ في مواضِعِها، وتُمكَّنَ في أماكِنِها، ولا يُستعمَلَ فيها التَّقديمُ والتَّأخيرُ، والحَذْفُ والزِّيادةُ إلَّا حَذْفًا لا يُفسِدُ الكَلامَ، ولا يُعَمِّي المعنى، وتُضَمَّ كُلُّ لَفظةٍ منها إلى شَكْلِها، وتُضافَ إلى لِفْقِها.
وسُوءُ الرَّصْفِ: تقديمُ ما ينبغي تأخيرُه منها، وصَرْفُها عن وُجوهِها، وتَغييرُ صِيغَتِها، ومُخالَفةُ الاستِعمالِ في نَظْمِها) [111] يُنظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 161). .
قال ابنُ الأثيرِ: (اعلَمْ أنَّه يحتاجُ صاحِبُ هذه الصِّناعةِ في تأليفِه إلى ثلاثةِ أشياءَ:
الأوَّلُ منها: اختيارُ الألفاظِ المُفرَدةِ، وحُكمُ ذلك حُكْمُ اللآلِئِ المبدَّدةُ؛ فإنَّها تُتخَيَّرُ وتُنتقى قَبْلَ النَّظْمِ.
الثَّاني: نَظْمُ كُلِّ كَلِمةٍ مع أخْتِها المُشاكِلةِ لها؛ لئلَّا يجيءَ الكَلامُ قَلِقًا نافِرًا عن مواضِعِه، وحُكمُ ذلك حُكمُ العِقْدِ المنظومِ في اقترانِ كُلِّ لُؤلؤةٍ منها بأُخْتِها المُشاكِلةِ لها.
الثَّالِثُ: الغَرَضُ المقصودُ مِن ذلك الكَلامِ على اختِلافِ أنواعِه، وحُكمُ ذلك حُكمُ الموضِعِ الَّذي يُوضَعُ فيه العِقدُ المنظومُ؛ فتارةً يُجعَل إكليلًا على الرَّأسِ، وتارةً يُجعَلُ قِلادةً في العُنُقِ، وتارةً يُجعَلُ شَنْفًا في الأذُنِ، ولكُلِّ مَوضِعٍ مِن هذه المواضِعِ هَيئةٌ مِنَ الحُسْنِ تَخُصُّه.
فهذه ثلاثةُ أشياءَ لا بُدَّ للخَطيبِ والشَّاعِرِ مِنَ العنايةِ بها، وهي الأصلُ المعتَمَدُ عليه في تأليفِ الكَلامِ مِنَ النَّظْمِ والنَّثْرِ؛ فالأوَّلُ والثَّاني من هذه الثَّلاثةِ المذكورةِ هما المرادُ بالفَصاحةِ، والثَّلاثةُ بجُمْلَتِها هي المرادُ بالبَلاغةِ.
وهذا المَوضِعُ يَضِلُّ في سُلوكِ طَريقِه العُلَماءُ بصِناعةِ صَوغِ الكَلامِ مِنَ النَّظْمِ والنَّثْرِ، فكيف الجُهَّالُ الَّذين لم تَنفَحْهم رائِحةٌ؟! ومَن الَّذي يُؤتيه اللهُ فِطرةً ناصِعةً يكادُ زَيتُها يُضيءُ ولوْ لمْ تمسَّه نارٌ، حتَّى ينظُرَ إلى أسرارِ ما يَستَعْمِلُه مِنَ الألفاظِ فيَضَعَها في مَوضِعِها؟!
ومِن عَجيبِ ذلك أنَّك ترى لفظَتَينِ تَدُلَّانِ على معنًى واحِدٍ، وكِلاهما حَسَنٌ في الاستِعْمالِ، وهما على وَزنٍ واحِدٍ وعِدَّةٍ واحِدةٍ، إلَّا أنَّه لا يَحسُنُ استِعْمالُ هذه في كُلِّ مَوضِعٍ تُستعمَلُ فيه هذه، بل يُفرَّقُ بَيْنَهما في مواضِعِ السَّبْكِ، وهذا لا يُدرِكُه إلَّا مَن دقَّ فَهْمُه وجَلَّ نَظَرُه.
واعلَمْ أنَّ تفاوُتَ التَّفاضُلِ يَقَعُ في تركيبِ الألفاظِ أكثَرَ ممَّا يقَعُ في مُفرَداتِها؛ لأنَّ التَّركيبَ أعسَرُ وأشَقُّ، ألا ترى ألفاظَ القُرآنِ الكريمِ مِن حَيثُ انفِرادُها قد استعمَلَها العَرَبُ ومَن بَعْدَهم، ومع ذلك فإنَّه يفوقُ جميعَ كَلامِهم ويعلو عليه، وليس ذلك إلَّا لفَضيلةِ التَّركيبِ؟!) [112] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 149). .
وإنَّما يُنَبِّهُ البلاغيُّونَ على حُسنِ تركيبِ الكَلامِ لئَلَّا يقَعَ المُتكَلِّمُ والمنشِئُ في اضطِرابِ الكَلامِ وسوءِ التَّركيبِ، كقَولِ الشَّاعِرِ:
فأصبَحَتْ بَعْدَ خَطَّ بَهْجَتِها
كأنَّ قَفْرًا رُسومَها قَلَمَا
يريد: فأصبَحَت بَعْدَ بهجَتِها قَفْرًا كأنَّ قَلَمًا خَطَّ رُسومَها، فقدَّم وأخَّر، فجاء كَلامُه مختَلًّا مُضطَرِبًا.
ومنه أيضًا قَولُ الفَرَزْدَقِ:
وما مِثلُه في النَّاسِ إلَّا مُمَلَّكًا
أَبُو أُمِّه حَيٌّ أَبوُه يُقارِبُهُ
فإنَّه يمدَحُ إبراهيمَ بنَ هِشامٍ، يقولُ: وما مِثلُه حيٌّ يقارِبُه في صفاتِه ويُشابِهُه في سَجاياه إلَّا مُمَلَّكًا أبو أُمِّه أبوهُ، أي: أبو أمِّ إبراهيمَ هو أبو ذلك الممدوحِ، يريدُ خالَه هِشامَ بنَ عَبدِ المَلِكِ. فاضطرَبَ كَلامُ الفَرزدَقِ وقدَّم وأخَّر؛ فالتَبَس المرادُ منه [113] يُنظر: ((ارتشاف الضَّرَب)) لأبي حيان الأندلسي (5/2433). .

انظر أيضا: