موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الأوَّلُ: فَضْلُ اللَّفْظِ وشَرَفُه


لا يَعني قَوْلُنا: إنَّ اللَّفْظَ تابِعٌ للمَعنى أنَّه لا قيمةَ له، وأنَّ العِبرةَ بالمَعنى وَحْدَه، بل الأمرُ خِلافُ ذلك؛ فإنَّ اللَّفْظَ بمثابةِ الثِّيابِ للبَدَنِ، فمتى كان البَدَنُ شَريفًا حَسَنًا يرتدي أحسَنَ الثِّيابِ وأفخَرَها، زاده ذلك حُسنًا وبَهاءً وشَرَفًا، ومتى كان البَدَنُ قَبيحًا يَلْبَسُ رَثَّ الثِّيابِ، فإنَّه يَزيدُه ما يَلبَسُه قُبحًا، والبَدَنُ الجَميلُ يَنقُصُ جمالُه بالثَّوبِ القَبيحِ؛ فالألفاظُ ظواهِرُ المعاني، تحسُنُ بحُسْنِها، وتَقبُحُ بقُبْحِها.
قال الطَّاهِرُ بنُ عاشورٍ: (إنَّ للَّفظِ حَظًّا كبيرًا في الإنشاءِ؛ فإنَّ بحُسنِه يَظهَرُ رَوْنَقُ الإنشاءِ ويَترَقْرَقُ ماؤُه، وإنَّك لترى المعنى الشَّريفَ إذا لم يُمنَحْ مِنَ الألفاظِ ما يُناسِبُه أصبحَ لَفْظُه له قَبرًا، ولم يَطْرُقْ لسامِعِه فِكْرًا، وبالعَكْسِ قد تُغَطِّي الألفاظُ الحَسَنةُ في حالِ تركيبِها بَسائِطَ المعاني ومُبتذَلَها، فإنَّ الشَّاعِرَ أو الكاتِبَ أو الخَطيبَ قد يُضطَرُّ إلى أن يَذكُرَ مِنَ المعاني ما ليس له كبيرُ أهمِّيَّةٍ؛ إمَّا لكَونِه على قَدْرِ إفهامِ مُخاطَبيه، وإمَّا لكَونِ ذلك المعنى لا يَقبَلُ تَنميقًا، فيَلزَمُه حينَئِذٍ أن يَكْسوَ المعنى من حِلْيةِ الألفاظِ ما يُنَبِّهُ مِقدارَه، ويُعلِي مَنارَه، وترى هذا في كَثيرٍ مِنَ الشِّعْرِ التَّوصيفيِّ) [98] يُنظر: ((أصول الإنشاء والخطابة)) لابن عاشور (ص: 91). .
وقد ذهب بَعْضُ العُلَماءِ -ومنهم أبو هِلالٍ العَسْكَريُّ- إلى أنَّ العِبرةَ باللَّفْظِ لا المعنى؛ فإنَّ المعنى عِندَه يُحسِنُه كُلُّ أحدٍ؛ قالَ أبو هلالٍ: (ليس الشَّأنُ في إيرادِ المعاني؛ لأنَّ المعانيَ يَعرِفُها العربيُّ والعَجَميُّ والقُرَويُّ والبَدويُّ، وإنَّما هو في جَودةِ اللَّفْظِ وصَفائِه، وحُسْنِه وبَهائِه، ونزاهتِه ونقائِه، وكثرةِ طلاوتِه ومائِه، مع صِحَّةِ السَّبْكِ والتَّركيبِ، والخُلوِّ من أوَدِ النَّظْمِ والتَّأليفِ، وليس يُطلَبُ مِنَ المعنى إلَّا أن يكونَ صَوابًا، ولا يُقنَعُ مِنَ اللَّفْظِ بذلك حتَّى يَكونَ على ما وَصَفْناه مِن نُعوتِه الَّتي تقدَّمَت.
ومِنَ الدَّليلِ على أنَّ مَدارَ البَلاغةِ على تحسينِ اللَّفْظِ أنَّ الخُطَبَ الرَّائِعةَ والأشعارَ الرَّائِقةَ ما عُمِلَتْ لإفهامِ المعاني فقط؛ لأنَّ الرَّديءَ مِنَ الألفاظِ يقومُ مَقامَ الجَيِّدةِ منها في الإفهامِ، وإنَّما يدُلُّ حُسْنُ الكَلامِ، وإحكامُ صَنعتِه، ورَوْنَقُ ألفاظِه، وجَودةُ مَطالِعِه، وحُسْنُ مَقاطِعِه، وبَديعُ مَباديه، وغَريبُ مَبانيه- على فَضْلِ قائِلِه وفَهْمِ مُنشِئِه.
وأكثَرُ هذه الأوصافِ يَرجِعُ إلى الألفاظِ دونَ المعاني، وتَوَخِّي صوابِ المعنى أحسَنُ مِن توخِّي هذه الأُمورِ في الألفاظِ؛ ولهذا تأنَّق الكاتِبُ في الرِّسالةِ، والخَطيبُ في الخُطْبةِ، والشَّاعِرُ في القَصيدةِ، يُبالِغونَ في تَجْويدِها، ويَغْلُون في ترتيبِها؛ ليَدُلُّوا على بَراعتِهم، وحَذْقِهم بصِناعتِهم، ولو كان الأمرُ في المعاني لطَرَحوا أكثَرَ ذلك فرَبِحوا كَدًّا كَثيرًا، وأسقَطوا عن أنفُسِهم تَعَبًا طويلًا.
ودليلٌ آخَرُ: أنَّ الكَلامَ إذا كان لَفْظُه حُلْوًا عذْبًا، وسَلِسًا سَهْلًا، ومعناه وَسَطًا؛ دخل في جملةِ الجيِّدِ، وجرى مع الرَّائعِ النَّادِرِ، كقَولِ الشَّاعِرِ:
ولَمَّا قَضَينا مِن مِنًى كُلَّ حاجةٍ
ومسَّح بالأركانِ مَن هو ماسِحُ
وشُدَّت على حُدبِ المَهارَى رِحالُنا
ولم يَنظُرِ الغادي الَّذي هو رائِحُ
أخَذْنا بأطرافِ الأحاديثِ بَيْنَنا
وسالت بأعناقِ المَطِيِّ الأباطِحُ
وليس تحتَ هذه الألفاظِ كَبيرُ معنًى، وهي رائِقةٌ مُعجِبةٌ، وإنَّما هي: ولَمَّا قَضَينا الحجَّ، ومسَحْنا الأركانَ، وشُدَّت رِحالُنا على مَهازيلِ الإبِلِ، ولم ينتَظِرْ بَعْضُنا بَعْضًا؛ جعَلْنا نتحَدَّثُ وتَسيرُ بنا الإبِلُ في بُطونِ الأودِيةِ) [99] يُنظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 57). .
وكان الجاحِظُ قد سبَقَه إلى تفضيلِ اللَّفْظِ على المعنى؛ حَيثُ قال: (المعاني مَطروحةٌ في الطَّريقِ يَعرِفُها العَجَميُّ والعَرَبيُّ والبَدَويُّ والقُرَويُّ والمَدَنيُّ، وإنَّما الشَّأنُ في إقامةِ الوَزنِ وتخيُّرِ اللَّفْظِ، وسُهولةِ المَخْرَجِ وكَثرةِ الماءِ، وفي صِحَّةِ الطَّبعِ وجَودةِ السَّبْكِ؛ فإنَّما الشِّعْرُ صِناعةٌ وضَرْبٌ مِنَ النَّسْجِ، وجِنسٌ مِنَ التَّصويرِ) [100] يُنظر: ((الحيوان)) للجاحظ (3/ 131). .
على أنَّ الأُدَباءَ والبلاغِيِّينَ قد ردُّوا قَولَهما، وقد أكثَرَ ابنُ الأثيرِ في ذلك وانتصَرَ للمَعنى على حِسابِ اللَّفْظِ، غَيرَ أنَّ المقامَ ليس لذِكْرِ ذلك، ولا لبَيانِ الرَّاجِحِ والمرجوحِ، وإنَّما هو لبَيانِ شَرَفِ اللَّفْظِ وفَضْلِه، حتَّى عدَّه أحَدُ الأُدَباءِ كالجاحِظِ وأبي هِلالٍ -في سَعةِ عِلْمِهما- هو السَّيِّدَ المتبوعَ.

انظر أيضا: