موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّالِثُ: طُرُقُ أخْذِ المعنى


إذا كان المعنى -كما ذكَرْنا- هو المتبوعَ المطاعَ، الَّذي يأتي اللَّفْظُ خادِمًا له ليُبرِزَه في أحسَنِ صُورةٍ وأبهى صياغةٍ؛ فإنَّ المقصَدَ الأهَمَّ للكاتِبِ هو إيجادُ المعنى، ثمَّ يَسهُلُ عليه بَعْدَ ذلك التَّعبيرُ عنه؛ ولهذا فإنَّ العُلَماءَ حَصَروا كيفيَّةَ أخْذِ المعنى في طُرُقٍ ثَلاثٍ:
الاختِراعُ والابتكارُ:
وهي أن يَسْبِقَ الكاتِبُ إلى معنًى لم يتناوَلْه أحدٌ قَبْلَه، كتَشْبيهِ ابنِ نُباتةَ اجتِماعَ الفَرْحِ والأسَفِ، وجَرَيانَ الدَّمْعِ، والتَّبَسُّمَ، بوابِلِ الغَيْثِ في وَقتِ الضُّحى، وتظهَرُ مَزِيَّةُ ذلك بمعرفةِ القَرينةِ وحالِ الإنشاءِ والكِتابةِ؛ فإنَّ أبا تمامٍ لَمَّا أنشد قَصيدتَه السِّينيَّةَ في مَدحِ أحمَدَ بنِ المعتَصِمِ، قال:
إقدامُ عَمرٍو في سماحةِ حاتمٍ
في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إياسِ
قال الحَكيمُ الكِنديُّ: وأيُّ فَخرٍ في تَشبيهِ ابنِ أميرِ المُؤمِنينَ بأجلافِ العَرَبِ؟! فأطرَقَ أبو تمَّامٍ ثمَّ أنشد:
لا تُنكِروا ضَرْبِي له مَن دونَه
مَثَلًا شُرودًا في النَّدَى والْباسِ
فاللهُ قد ضَرَب الأقَلَّ لنُورِه
مَثَلًا مِنَ المِشْكاةِ والنِّبْراسِ
فهذه الواقِعةُ تَدُلُّ على أنَّ ذلك المعنى الَّذي ساقه أبو تمَّامٍ في بيتَيْه -وهو جوازُ ضَرْبِ المِثالِ بالأقَلِّ الظَّاهِرِ- مختَرَعٌ لم يُسبَقْ إليه [92] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (2/ 324). .
قال ضياءُ الدِّينِ ابنُ الأثيرِ في بَيانِ طَريقةِ الاختراعِ: (ألَّا يتصَفَّحَ كِتابةَ المتقَدِّمينَ، ولا يَطَّلِعَ على شَيءٍ منها، بل يَصرِفُ هَمَّه إلى حِفظِ القُرآنِ الكريمِ وكثيرٍ مِنَ الأخبارِ النَّبَويَّةِ وعِدَّةٍ مِن دَواوينِ فُحولِ الشُّعَراءِ ممَّن غَلَب على شِعْرِه الإجادةُ في المعاني والألفاظِ، ثمَّ يأخُذُ في الاقتباسِ مِن هذه الثَّلاثةِ -أعني القُرآنَ والأخبارَ النَّبَويَّةَ والأشعارَ- فيَقومُ ويَقَعُ، ويخطِئُ ويُصيبُ، ويُضِلُّ ويَهْتَدي، حتَّى يستقيمَ على طريقةٍ يفتَتِحُها لنَفْسِه. وأَخْلِقْ بتلك الطَّريقِ أن تكونَ مُبتَدَعةً غريبةً لا شَرِكةَ لأحدٍ مِنَ المتقَدِّمينَ فيها، وهذه الطَّريقُ هي طَريقُ الاجتِهادِ، وصاحِبُها يُعَدُّ إمامًا في فنِّ الكِتابةِ، كما يُعَدُّ الشَّافِعيُّ وأبو حَنيفةَ ومالِكٌ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم وغيرُهم مِنَ الأئِمَّةِ المجتَهِدينَ في عِلْمِ الفِقْهِ، إلَّا أنَّها مُستوعِرةٌ جِدًّا، ولا يَسْتَطيعُها إلَّا مَن رَزَقه اللهُ تعالى لِسانًا هَجَّامًا، وخاطِرًا رقَّامًا، وقد سهَّلتُ لك صِعابَها، وذلَّلْتُ مَحاجَّها) [93] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 91). .
قال: (ولا أُريدُ بهذه الطَّريقِ أن يكونَ الكاتِبُ مُرتَبِطًا في كِتابتِه بما يَستخرِجُه مِنَ القُرآنِ الكَريمِ والأخبارِ النَّبَويَّةِ والشِّعْرِ، بحَيثُ إنَّه لا يُنشِئُ كِتابًا إلَّا مِن ذلك، بل أريدُ أنَّه إذا حَفِظ القُرآنَ الكريمَ وأكثَرَ مِن حِفظِ الأخبارِ النَّبَويَّةِ والأشعارِ، ثُمَّ نقَّب عن ذلك تنقيبَ مُطَّلِعٍ على مَعانيه، مُفَتِّشٍ عن دَفائِنِه، وقَلَّبه ظَهْرًا لبَطْنٍ؛ عَرَف حينَئذٍ مِن أينَ تُؤكَلُ الكَتِفُ فيما يُنشِئُه من ذاتِ نَفْسِه، واستعان بالمحفوظِ على الغَريزةِ الطَّبيعيَّةِ، ألَا ترى أنَّ صاحِبَ الاجتِهادِ مِنَ الفُقَهاءِ يَفتَقِرُ إلى مَعرِفةِ آياتِ الأحكامِ، وأخبارِ الأحكامِ، وإلى مَعرِفةِ النَّاسِخِ والمنسوخِ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإلى مَعرِفةِ عِلْمِ العَرَبيَّةِ، وإلى مَعرِفةِ الفَرائِضِ والحِسابِ مِنَ المَعْلومِ والمجهولِ مِن أجَلِّ مَسائِلِ الدَّورِ والوَصايا وغَيرِها، وإلى مَعرِفةِ إجماعِ الصَّحابةِ؟! فهذه أدواتُ الاجتِهادِ، فإذا عرَفَها استخرجَ بفِكْرتِه حينَئِذٍ ما يؤَدِّيه إليه اجتِهادُه، كما فعل أبو حَنيفةَ والشَّافِعيُّ ومالِكٌ وغَيرُهم مِن أئِمَّةِ الاجتِهادِ، وكذلك يَجْري الحُكمُ في الكاتِبِ إذا أحَبَّ التَّرقِّيَ إلى دَرَجةِ الاجتِهادِ في الكِتابةِ) [94] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) (1/ 92). .
الشُّهْرةُ:
وهو عِبارةٌ عن شُيوعِ المعنى، حتَّى لا يكادُ يتكَلَّفُ المُتكَلِّمُ في استِحضارِه شَيئًا من عَمَلِ الفِكْرِ، ولا يَصِحُّ أن يقالَ: إنَّ فُلانًا أخذ ذلك المعنى مِن فُلانٍ، بل النَّاسُ مُنذُ بَدءِ الخَليقةِ وهم يَستَخْدِمونَ تلك المعانيَ مِن غَيرِ نَكيرٍ، ولا ذِكْرِ فَضلِ سابِقٍ على لاحِقٍ فيها.
قال ابنُ الأثيرِ: (مِنَ المعاني ما يتَساوى الشُّعَراءُ فيه، ولا يُطلَقُ عليه اسمُ الابتِداعِ لأوَّلٍ قَبْلَ آخِرٍ؛ لأنَّ الخواطِرَ تأتي به مِن غَيرِ حاجةٍ إلى اتِّباعِ الآخِرِ الأوَّلَ، كقَولِهم في الغَزَلِ:
عَفَتِ الدِّيارُ وما عَفَتْ
آثارُهُنَّ مِنَ القُلوبِ
وكقَولِهم: إنَّ الطَّيفَ يجودُ بما يَبخَلُ به صاحِبُه، وإنَّ الواشِيَ لو عَلِمَ بمِرارِ الطَّيفِ لساءَه، وكقَولِهم في المديحِ: إنَّ عَطاءَه كالبَحْرِ وكالسَّحابِ، وإنَّه لا يمنَعُ عَطاءُ اليومِ عَطاءَ غَدٍ، وإنَّه يجودُ ابتِداءً مِن غَيرِ مسألةٍ، وأشباهَ ذلك، وكقَولِهم في المراثي: إنَّ هذا الرُّزءَ أوَّلُ حادثٍ، وإنَّه استوى فيه الأباعِدُ والأقارِبُ، وإنَّ الذَّاهِبَ لم يَكُنْ واحِدًا وإنَّما كان قبيلةً، وإنَّ بَعْدَ هذا الذَّاهِبِ لا يُعَدُّ للمَنِيَّةِ ذَنْبٌ، وأشباهَ ذلك.
وكذلك يجري الأمرُ في غَيرِ ما أشَرْتُ إليه مِن مَعانٍ ظاهِرةٍ تتوارَدُ الخواطِرُ عليها مِن غَيرِ كُلْفةٍ، وتستوي في إيرادِها، ومِثلُ ذلك لا يُطلَقُ على الآخِرِ فيه اسمُ السَّرِقةِ مِنَ الأوَّلِ، وإنَّما يُطلَقُ اسمُ السَّرِقةِ في معنًى مخصوصٍ) [95] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) (2/ 343). .
الأخْذُ والتَّقْليدُ:
من قَديمِ الزَّمانِ والأُدَباءُ والشُّعَراءُ يتناقَلونَ فيما بَيْنَهمُ المعانيَ مع شَيءٍ مِنَ التَّغْييرِ والتَّحويرِ فيها، سواءٌ في تغييرِ المعنى أو عَكْسِه، أو الإضافةِ عليه أو النَّقْصِ منه، أو حتَّى في أخْذِ المعنى بتمامِه مع كِسْوتِه بألفاظٍ مِن عِنْدِه غَيرِ ألفاظِ الأديبِ الأوَّلِ. وهذا مِن غَيرِ نكيرٍ منهم أو اتهامٍ بسَرِقةٍ أو انتِحالٍ.
قال أبو هِلالٍ العَسْكريُّ: (ليس لأحَدٍ مِن أصنافِ القائِلينَ غِنًى عن تناوُلِ المعاني ممَّن تقدَّمَهم، والصَّبِّ على قوالِبِ مَن سبَقَهم، ولكِنْ عليهم -إذا أخَذوها- أن يَكْسوها ألفاظًا من عِنْدِهم، ويُبرِزوها في مَعارِضَ مِن تأليفِهم، ويُورِدوها في غَيرِ حِلْيَتِها الأُولى، ويَزيدوها في حُسْنِ تأليفِها، وجَودةِ تَرْكِيبها، وكَمالِ حِلْيَتِها ومَعْرِضِها، فإذا فَعَلوا ذلك فهُمْ أحَقُّ بها ممَّن سَبَق إليها.
وقال أميرُ المُؤمِنينَ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: لولا أنَّ الكَلامَ يُعادُ لنَفِدَ. وقال بَعضُهم: كُلُّ شَيءٍ ثَنَيتَه قَصُرَ إلَّا الكَلامَ؛ فإنَّك إذا ثَنَيْتَه طال.
على أنَّ المعانيَ مُشتَرِكةٌ بَيْنَ العُقَلاءِ، فرُبَّما وقع المعنى الجيِّدُ للسُّوقيِّ والنَّبَطيِّ والزِّنجيِّ، وإنَّما تتفاضَلُ النَّاسُ في الألفاظِ ورَصْفِها وتأليفِها ونَظْمِها) [96] يُنظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 196). .
ويُشتَرَطُ في الأخذِ أن يُغَيِّرَ شيئًا مِنَ المعنى أو يكَسوَه ألفاظًا مِن عِنْدِه، فلو أخذ المعنى بلَفْظِه أو أكثَرِ ألفاظِه كان سارِقًا، كما ذُكِرَ أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ الزُّبَيرِ الشَّاعِرَ دَخَل على مُعاويةَ فأنشَدَه: الطويل
إِذَا أَنْتَ لَمْ تُنْصِفْ أَخَاكَ وَجَدْتَهُ
على طَرَفِ الهِجْرَانِ إنْ كانَ يَعْقِلُ
ويَرْكَبُ حَدَّ السَّيْفِ مِنْ أَنْ تَضِيمَهُ
إِذا لَمْ يَكُنْ عَنْ شَفْرَةِ السَّيْفِ مَزْمَلُ
فقال له مُعاويةُ رَضِيَ اللهُ عنه: لقد أشعَرْتَ بَعْدي يا أبا بَكرٍ! ثُمَّ دخل عليه مَعْنُ بنُ أَوْسٍ الشَّاعِرُ، فأنشده قصيدتَه المشهورةَ، وأوَّلُها: الطويل
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنِّي لأَوْجَلُ
عَلَى أيِّنَا تَعْدو المَنِيَّةُ أَوَّلُ
ثمَّ أنشَدَه البيتَينِ السَّابقَينِ، فأقبل مُعاوِيةُ على عَبدِ اللهِ، وقال: ألم تخبِرْني أنَّهما لك؟! فقال: المعنى لي واللَّفْظُ له، وهو أخي مِنَ الرَّضاعةِ، وأنا أَولى بشِعْرِه!
ومِن تغييرِ بَعْضِ اللَّفْظِ قَولُ امرِئِ القَيْسِ في مُعَلَّقتِه: الطويل
وُقوفًا بها صَحْبي علَيَّ مَطِيَّهم
يقولونَ: لا تَهْلِكْ أسًى وتجمَّلِ
ثمَّ قال طَرَفةُ بنُ العَبْدِ: الطويل
وُقوفًا بها صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهم
يقولونَ: لا تهلِكْ أسًى وتجلَّدِ
فإذا تصرَّف الكاتِبُ في المعنى وطوَّع له ألفاظًا مِن عِنْدِه، وكان كَلامُه أبلغَ مِن كَلامِ القائِلِ الأوَّلِ؛ كان أحقَّ بالمعنى مِنَ السَّابِقِ.
ومِثالُه ما كتَبَ به إبراهيمُ بنُ العبَّاسِ مِن قَولِه في فَصْلٍ مِن كِتابٍ: (إذا كان للمُحْسِنِ مِنَ الثَّوابِ ما يُقنِعُه، وللمُسيءِ مِنَ العِقابِ ما يَقْمَعُه؛ ازداد المحسِنُ في الإحسانِ رَغبةً، وانقاد المُسيءُ للحَقِّ رَهْبةً). أخَذَه مِن قَولِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه: (يجِبُ على الوالي أن يتعهَّدَ أمورَه، ويتفَقَّدَ أعوانَه؛ حتَّى لا يخفى عليه إحسانُ مُحسِنٍ، ولا إساءةُ مُسيءٍ، ثُمَّ لا يَترُكَ واحدًا منهما بغيرِ جَزاءٍ، فإنْ ترك ذلك تهاونَ المحسِنُ واجتَرَأ المُسيءُ، وفَسَد الأمرُ، وضاع العَمَلُ).
ومنه قَولُ آخَرَ: (لو سَكَت لساني عن شُكْرِك، لنَطَق أثَرُك عليَّ)، وقَولُ غَيرِه: (ولو جحَدْتُك إحسانَك لأكذَبَتْني آثارُك، ونمَّت عليَّ شواهِدُها) أخذَه مِن قَولِ نُصَيبٍ:
فعاجُوا فأثْنَوا بالَّذي أنت أهلُه
ولو سَكَتوا أثْنَت عليك الحقائِبُ [97] يُنظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 214)، ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (2/ 325).

انظر أيضا: