موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: صِفاتُ المعنى


لا بُدَّ للمعنى -لكي يكونَ لَطيفًا حَسَنًا في نَفْسِه- أن يشتَمِلَ على صِفاتٍ ثلاثٍ:
الوُضوحُ:
وهو أن يكونَ المعنى سَهْلَ المأخَذِ، واضِحًا من قَولِ صاحِبِه، خاليًا مِنَ اللَّبْسِ ومِنَ التَّعْقيدِ المعنويِّ وعن الكِناياتِ الخَفِيَّةِ، إلَّا أن يكونَ في مَقامٍ يريدُ فيه الإخفاءَ أو التَّشْكيكَ، فيجوزُ مِنَ اللَّبْسِ والكنايةِ ما هو خَفيفٌ، والأحسَنُ أن يكونَ المعنى المطلوبُ أظهَرَ مِنَ الآخَرِ.
مِثْلُ قَولِ إياسِ بنِ مُعاويةَ القاضي لرَجُلٍ دخل عليه، فقال: أين القاضي؟ قال إياسٌ: بينك وبَيْنَ الحائِطِ، إلى أن قال له: اقْضِ بَيْنَنا. قال: قد فعَلْتُ. قال: على من؟ قال: على ابنِ أخْتِ خالتِك.
فإنَّ إياسًا بدلًا من أن يقولَ له: أنا القاضي، أراد تشكيكَ الرَّجُلِ مِن بابِ المَزْحِ والاستِخْفافِ، فقال له: بينك وبَيْنَ الحائِطِ، وليس بَيْنَه وبَيْنَ الحائطِ شَيءٌ غَيرُه، كذا في قَولِه: على ابنِ أخْتِ خالتِك، فإنَّه أراد: قَضَيتُ عليكَ، لكِنْ أخرَجَها في تلك الصُّورةِ للاستِخْفافِ.
وقد يُعدَلُ عن الوُضوحِ إلى الإلغازِ؛ وذلك إذا كان قَصْدُ القائِلِ إخفاءَ الأمرِ عن بَعْضِ النَّاسِ، مِثْلُ حِكايةِ ناشِبِ بنِ بَشامةَ الأعوَرِ العَنْبَريِّ؛ فإنَّه كان أسيرًا في بني سَعدِ بنِ مالِكٍ، ورأى اللَّهازِمَ قد اجتَمَعَت لتُغِيرَ على تميمٍ، فقال لبني سَعدٍ: أعطوني رَسولًا أرسِلُه إلى قومي من بني العَنْبَرِ، أوصيهم بصاحِبِكم خَيرًا؛ ليُولُوه مِثْلَ الَّذي تُولُوني به مِنَ الإحسانِ والبِرِّ، وكان قومُه قد أسَروا بَعْضَ بني سَعدِ بنِ مالِكٍ، فقالوا: على أن تُوصِيَه ونحنُ حُضورٌ، فقال: نعَمْ، فأَتَوه بغُلامٍ لهم، فقال: لقد أتيتُموني بأحمَقَ، وما أراه مُبَلِّغًا عني! قال الغُلامُ: لا واللهِ، ما أنا بأحمَقَ، وقُلْ ما شِئْتَ فإنِّي مُبَلِّغُه. فملأَ الأعوَرُ كفَّه مِنَ الرَّمْلِ، فقال: كم هذا الَّذي في كفِّي مِنَ الرَّمْلِ؟ قال الغُلامُ: شيءٌ لا يُحصى كثرةً. ثم أومأ إلى الشَّمْسِ، وقال: ما تلك؟ قال: هي الشَّمسُ. قال: فاذهَبْ إلى قومي فأبلِغْهم عني التَّحِيَّةَ، وقُلْ لهم يُحسِنوا إلى أسيرِهم ويُكرِموه، فإنِّي عِنْدَ قومٍ محسِنينَ إليَّ مُكرِمينَ لي، وقُلْ لهم: يُعَرُّوا [88] من التعرية، يُريد: قل لهم: يَجعْلوا الجمَلَ عاريًا، يُومِئ إلى الرَّحيلِ عن جبَلهِم الَّذي يَسكنونَه كما سيأتي. جمَلي الأحمَرَ، ويَرْكبوا ناقَتي العَيساءَ، بآيةِ ما أكلْتُ معهم حَيْسًا، ويَرْعَوا حاجتي في بَنِي مالِكٍ، وأخبِرْهم أنَّ العَوسَجَ قد أورَقَ، وأنَّ النِّساءَ قد تشكَّت، ولْيَعْصوا همَّامَ بنَ بَشامةَ؛ فإنَّه مَشؤومٌ مَحدودٌ، ويُطيعوا هُذَيلَ بنَ الأخنَسِ؛ فإنَّه حازِمٌ مَيمونٌ.
فلمَّا ذهب الرَّسولُ وأبلغَهم بالأمرِ قالوا: لقد جُنَّ الأعوَرُ، وما نعلَمُ له جَمَلًا ولا ناقةً، فقال هُذَيلُ بنُ الأخنَسِ للرَّسولِ: اقتَصَّ عليَّ أوَّلَ قِصَّتِه. فقصَّ عليه أوَّلَ ما كلَّمه به الأعورُ، وما رجَعَه إليه حتَّى أتى على آخِرِه، فقال هُذَيلٌ: أبلِغْه التَّحِيَّةَ إذا أتيْتَه وأخبِرْه أنَّا سنوصي بما أوصى به.
فشَخَص الرَّسولُ، ثمَّ نادى هُذَيلٌ: يا لَلعَنْبَرِ، قد بيَّن لكم صاحِبُكم: أمَّا الرَّمْلُ الَّذي جعل في يدِه فإنَّه يخبِرُكم أنَّه قد أتاكم عدَدٌ لا يُحصى، وأمَّا الشَّمسُ الَّتي أومأ إليها فإنَّه يقولُ: إنَّ ذلك أوضَحُ مِنَ الشَّمسِ، وأمَّا جَمَلُه الأحمَرُ فالصَّمَّانُ -جَبَلٌ- يأمُرُكم أن تُعَرُّوه، يعني: ترتَحِلوا عنه، وأمَّا ناقَتُه العَيساءُ فإنَّها الدَّهْناءُ -صَحراءُ- يأمرُكم أن تتحَرَّزوا فيها، وأمَّا بنو مالِكٍ فإنَّه يأمُرُكم أن تُنذِروا بني مالِكٍ ما حذَّركم، وأن تُمسِكوا بحِلْفٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم، وأمَّا إيراقُ العَوسَجِ فإنَّ القَومَ قد اكتَسَوا سلاحًا، وأمَّا اشتِكاءُ النِّساءِ فيُخبِرُكم أنَّهنَّ قد عَمِلْنَ الشِّكَاءَ؛ يريدُ خرَزْنَ لهم شِكَاءً -دُروعًا-يغَزْون بها [89] يُنظر: ((شرح نقائض جرير والفرزدق)) لمعمر بن المثنى (2/ 478)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (6/ 44). .
السَّدادُ:
وهو أن يكونَ الأصلُ في المعنى والتَّعبيرُ عنه مُوافِقًا للواقِعِ، مطابِقًا لمُقتَضى الحالِ، مِن غَيرِ زيادةٍ، كقَولِ لَبِيدٍ:
ألَا كُلُّ شَيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ
وكُلُّ نَعيمٍ لا محالةَ زائِلُ
فلا يمكِنُ حَذْفُ كَلِمةٍ مِنَ السِّياقِ إلَّا وقد أخلَّت بالمعنى ومقتضى الحالِ، وهذا هو السَّدادُ بلا إيجازٍ أو إطنابٍ.
إلَّا أنَّ الحالَ قد يَقْتَضي الزِّيادةَ والمُبالَغةَ في الأوصافِ، وقد تقرَّر هذا في بابِ المعاني مِن عِلْمِ البَلاغةِ، ويدُلُّ عليه ما ذكَرْناه سابقًا، وهو ما ذكره عبدُ القاهِرِ الجُرْجانيُّ أنَّ الكِنْديَّ المتفَلْسِفَ رَكِبَ إلى أبي العَبَّاسِ المُبَرِّدِ وقال له: إنِّي لأجِدُ في كَلامِ العَرَبِ حَشْوًا. فقال له أبو العَبَّاسِ: في أيِّ مَوضِعٍ وَجَدْتَ ذلك؟ فقال: أجِدُ العَرَبَ يقولونَ: "عبدُ اللهِ قائِمٌ"، ثمَّ يقولونَ: "إنَّ عَبْدَ اللهِ قائِمٌ"، ثمَّ يقولونَ: "إنَّ عَبدَ اللهِ لقائِمٌ"، فالألفاظُ مُتكَرِّرةٌ والمعنى واحِدٌ! فقال أبو العَبَّاسِ: بل المعاني مختَلِفةٌ لاختِلافِ الألفاظِ؛ فقَولُهم: "عَبْدُ اللهِ قائِمٌ" إخبارٌ عن قيامِه، وقَولُهم: "إنَّ عَبْدَ اللهِ قائِمٌ" جوابٌ عن سُؤالِ سائلٍ، وقَولُهم: "إن َّعَبْدَ اللهِ لقائِمٌ" جوابٌ عن إنكارِ مُنكِرٍ قيامَه؛ فقد تكَرَّرت الألفاظُ لتكَرُّرِ المعاني. قال: فما أحارَ المتَفَلْسِفُ جوابًا [90] يُنظر: ((دلائل الإعجاز)) لعبد القاهر الجرجاني (1/ 315). .
الشَّرَفُ:
وهو ألَّا يكونَ المعنى سَخيفًا ولا مُبتَذَلًا، ولا مُشتَمِلًا على فُضولٍ، يستوي في ذلك أن يكونَ المعنى مُبتكَرًا أو مُقَلَّدًا.
فمِن أمثِلةِ المعنى المبتَكَرِ السَّخيفِ قَولُ أبي العَلاءِ المعَرِّي:
فيا وَطَني إنْ فاتَني بك سابِقٌ
مِنَ الدَّهْرِ فلْيَنعَمْ لساكِنِك البالُ
فإنْ أستَطِعْ في الحَشْرِ آتِك زائِرًا
وهَيْهاتَ لي يومَ القيامةِ أشغالُ
فإنَّه أراد أن يُبَيِّنَ أنَّ حُبَّه لوَطَنِه وشَوقَه له يغالِبُ كُلَّ شُغْلٍ وهوًى، حتَّى إنْ مات وبُعِث واستطاع أن يَزورَ وطَنَه لَمَا تأخَّر، على رَغمِ ما في القيامةِ مِن أهوالٍ تَذهَلُ معها كُلُّ مُرضِعةٍ عمَّا أرضَعَت!
وأسوَأُ منه قَولُه أيضًا في رِثاءٍ:
إنْ زاره الموتى كساهم في البِلَى
أكفانَ أبلَجَ مُكرِمِ الأضيافِ
واللهُ إن يَخلَعْ عليهم حُلَّةً
يبعَثْ إليه بمِثْلِها أضعافِ
وهذا أيضًا فيه مِنَ التَّألِّي على اللهِ والجَزْمِ بمصيرِ أحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَضْلًا عن سماجةِ التَّصويرِ؛ فإنَّه لَمَّا أراد وَصْفَ الميِّتِ بالكَرَمِ جعل له كِسوةَ الموتى أكفانًا جميلةً!
ومِنَ السَّخيفِ غَيرِ المُبتَكَرِ قَولُ أحَدِ الخُطَباءِ: (إنَّ اللهَ تعالى لا يُقِرُّ عَبْدًا على مَعْصيةٍ، وقد أهلَك أمةً عظيمةً في ناقةٍ لا تُساوي مائَتَي دِرهَمٍ!) حَيثُ سفَّه من مُعجِزةِ اللهِ تعالى، وهي النَّاقةُ الَّتي خرَجَت مِنَ الجَبَلِ بلا أبٍ ولا أمٍّ، وجعَلَها كسائِرِ النُّوقِ، كما أنَّ اللهَ تعالى لم يُهلِكْهم لمجرَّدِ النَّاقةِ، بل لمخالَفةِ أمرِ اللهِ تعالى في عدَمِ إلحاقِ الضَّرَرِ بها.
وقد يكونُ المعنى شريفًا غَيرَ أنَّه يوضَعُ في غَيرِ مَوضِعِه، فيكونُ سَخيفًا، كقَولِ أبي فِراسٍ الحَمدانيِّ:
ولكِنَّني والحَمْدُ للهِ حازِمٌ
أعِزُّ إذا ذلَّت لهُنَّ رِقابُ
فإنَّه ساءه أنْ جَعَل الحَمْدَ في مقامِ الفَخارِ والغَرامِ، وهذا لا يخلو من سَماجةٍ، بخلافِه في قَولِ الشَّاعِرِ:
وقد زَعمَتْ أنِّي نذَرْتُ لها دَمي
وما لي بحَمْدِ اللهِ لَحْمٌ ولا دَمُ
حَيثُ ورد في مَقامِ الشِّكايةِ، وحَسُنَ بكَونِه مُستعمَلًا مجازًا على طريقةِ التَّمليحِ [91] يُنظر: ((أصول الإنشاء والخطابة)) لابن عاشور (ص: 66). .

انظر أيضا: