موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: قَضِيَّةُ اللَّفْظِ والمعنى: أيُّهما أشرَفُ؟ وأيُّهما أهَمُّ؟


إنَّ أهَمَّ القَضايا الَّتي تَشغَلُ نَصيبًا مِن فِكرِ المُبدِعينَ والأُدَباءِ هي قَضِيَّةُ اللَّفْظِ والمعنى: أيُّهما أشرَفُ؟ وأيُّهما أهَمُّ؟
وقد ذهب أكثَرُ الأُدَباءِ والبلاغِيِّينَ إلى أفضَلِيَّةِ المعنى، وأنَّه الأهَمُّ الأشرَفُ، واللَّفْظُ تابِعٌ له، فمتى كان المعنى شريفًا واضِحًا ساميًا، انتَخَب لنَفْسِه أروَعَ الألفاظِ وأحسَنَها، فجاءَا معًا في أبرَعِ وَصفٍ وأبدَعِ صُورةٍ، وإن رجَّح الأديبُ جانِبَ اللَّفْظِ على المعنى، وجعل المعنى تابعًا للَّفْظِ، فسَدَ المعنى، وظهر القُبحُ؛ لفواتِ ما هو المقصَدُ الأسمى.
قال سَعدُ الدِّينِ التَّفْتازانيُّ: (إنَّ المعانيَ إذا تُرِكَت على سَجِيَّتِها طَلَبَت لأنفُسِها ألفاظًا تليقُ بها، فيَحسُنُ اللَّفْظُ والمعنى جميعًا، وإنْ أتى بألفاظٍ مُتكلَّفةٍ مَصنوعةٍ، وجَعَل المعانيَ تابعةً لها، كان كظاهرٍ مُمَوَّهٍ على باطنٍ مُشَوَّهٍ، ولِباسٍ حَسنٍ على مَنظرٍ قبيحٍ، وغِمدٍ مِن ذهبٍ على نَصْلٍ مِن خَشبٍ) [83] ((المطول شرح تلخيص المفتاح)) للتفتازاني (ص: 706). .
قال القَلَقْشَنْديُّ: (اعلَمْ أنَّ المعانيَ مِنَ الألفاظِ بمَنزلةِ الأبدانِ مِنَ الثِّيابِ؛ فالألفاظُ تابِعةٌ، والمعاني مَتبوعةٌ، وطَلَبُ تحسينِ الألفاظِ إنَّما هو لتَحسينِ المعاني، بل المعاني أرواحُ الألفاظِ وغايتُها الَّتي لأجْلِها وُضِعَت، وعليها بُنِيَت؛ فاحتياجُ صاحِبِ البَلاغةِ إلى إصابةِ المعنى أشَدُّ مِنِ احتياجِه إلى تحسينِ اللَّفْظِ؛ لأنَّه إذا كان المعنى صوابًا واللَّفْظُ مُنحَطًّا ساقِطًا عن أُسلوبِ الفَصاحةِ، كان الكَلامُ كالإنسانِ المشوَّهِ الصُّورةِ مع وُجودِ الرُّوحِ فيه، وإذا كان المعنى خَطَأً كان الكَلامُ بمَنزلةِ الإنسانِ الميِّتِ الَّذي لا رُوحَ فيه، ولو كان على أحسَنِ الصُّوَرِ وأجمَلِها) [84] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) (2/ 202). .
ولهذا يقولُ الطَّاهِرُ بنُ عاشورٍ: (فيَجِبُ على المتعَلِّمِ الاهتِمامُ أوَّلَ الأمرِ بإيجادِ المعاني، والبَحثُ عن الحسَنَ ِمنها، ومحاولةُ التَّعبيرِ عن الحوادِثِ والصِّفاتِ ومَظاهِرِ المخلوقاتِ؛ فإنَّ ذلك أسهَلُ تناوُلًا، ثمَّ يرتقي إلى التَّعبيرِ عن الوِجْدانيَّاتِ النَّفْسِيَّةِ، ثمَّ إلى التَّعبيرِ عن الحقائِقِ الحُكْمِيَّةِ ونَحْوِها، ولا ينبغي للمتعَلِّمِ أن يجعَلَ جُلَّ عنايتِه باقتِباسِ آثارِ الكاتِبينَ ونَقْلِ مَعانيهم؛ لأنَّ اعتمادَ ذلك يُصَيِّرُه غَيرَ قادِرٍ على مجاوَزةِ معاني السَّالِفينَ. نعمْ، يجوزُ له ذلك في ابتِداءِ التَّعَلُّمِ، إذا لم يستَطِعْ في وَقتٍ مِنَ الأوقاتِ إحضارَ معنًى أن يأخُذَ رِسالةً أو شِعرًا فيحويَ معانيَه دونَ ألفاظِه، ثم يُكَلِّفَ نَفْسَه التَّعبيرَ عنه) [85] يُنظر: ((أصول الإنشاء والخطابة)) لابن عاشور (ص: 63). .

انظر أيضا: