موسوعة اللغة العربية

الفَصْلُ الخامِسُ: نصيحةُ الرَّافِعيِّ


بعد أن عرَضْنا مُقَوِّماتِ الإنشاءِ وأدواتِه، وذكَرْنا بَعْضَ المعالِمِ الَّتي تَهْدي المبتَدِئَ في سَبيلِ كِتابتِه؛ فإنَّ مِنَ البَديعِ أن نَذكُرَ جوابَ الرَّافِعيِّ لصَديقٍ له كان قد سأله عن السَّبيلِ لبُلوغِ الشَّأْوِ والشَّأْنِ في الكِتابةِ، فأجمَلَ له الرَّافِعيُّ ذلك في رِسالةٍ يَسيرةٍ، إليك نَصَّها:
قال الرَّافِعيُّ: (لقد تخيَّلْتَ كثيرًا في الوَصِيَّة الَّتي تَطلُبُها، وما أشبَهَك برَجُلٍ لا يُصَلِّي ولا يَصومُ ولا يُؤتي الزَّكاةَ ولا يحُجُّ، ثمَّ يريدُ أن يُخرِجَ كَفَّارةً تُسقِطُ عنه كُلَّ ذلك، ويبقى وادِعًا مُستريحًا، وله ثوابُ الصَّائِمِ المُصَلِّي بدُرَيهِماتٍ مَعدودةٍ!
الإنشاءُ لا تكونُ القُوَّةُ فيه إلَّا عن تَعَبٍ طويلٍ في الدَّرِيسِ ومُمارَسةِ الكِتابةِ والتَّقَلُّبِ في مناحيها، والبَصَرِ بأوضاعِ اللُّغةِ، وهذا عَمَلٌ كان المرحومُ الشَّيخُ عَبْدُه يُقَدِّرُ أنَّه لا يَتِمُّ للإنسانِ في أقَلَّ مِن عِشرينَ سَنةً، فالكاتِبُ لا يَبلُغُ أن يكونَ كاتبًا حتَّى يقطَعَ هذا العُمُرَ في الدَّرْسِ وطَلَبِ الكِتابةِ.
فإذا أوصَيتُك فإنِّي أوصيك أن تُكثِرَ مِن قراءةِ القُرآنِ، ومُراجَعةِ ((الكَشَّاف = تفسير الزَّمَخْشَريِّ))، ثمَّ إدمانِ النَّظَرِ في كِتابٍ مِن كُتُبِ الحَديثِ، كالبُخاريِّ أو غَيرِه، ثمَّ قَطْعِ النَّفَسِ في قِراءةِ آثارِ ابنِ المُقَفَّعِ ((كَليلة ودِمْنة)) و(اليَتيمة)) و((الأدَب الصَّغير))، ثمَّ ((رَسائِل الجاحِظ)) وكِتاب ((البُخَلاء))، ثمَّ ((نَهْج البَلاغة))، ثمَّ إطالةِ النَّظَرِ في كِتابِ ((الصِّناعَتَين)) للعَسْكَريِّ و((المَثَل السَّائِر)) لابنِ الأثيرِ، ثمَّ الإكثارِ مِن مُراجَعةِ ((أساس البَلاغة)) للزَّمخشَريِّ، فإن نالت يَدُك مع ذلك كِتابَ ((الأغاني)) أو أجزاءً منه و((العِقْد الفريد))، و((تاريخ الطَّبَريِّ))؛ فقد تمَّت لك كُتُبُ الأُسلوبِ البَليغِ.
اقرَأِ القِطعةَ مِنَ الكَلامِ مِرارًا كثيرةً، ثمَّ تدَبَّرْها وقلِّبْ تراكيبَها، ثمَّ احذِفْ منها عبارةً أو كَلِمةً، وضَعْ من عِندِك ما يَسُدُّ مَسَدَّها ولا يَقصُرُ عنها، واجتَهِدْ في ذلك، فإنِ استقام لك الأمرُ فترَقَّ إلى دَرَجةٍ أُخرى، وهي أن تعارِضَ القِطْعةَ نَفْسَها بقِطعةٍ تَكتُبُها في معناها وبمِثْلِ أُسلوبِها، فإن جاءت قِطْعَتُك ضعيفةً فخُذْ في غَيرِها ثمَّ غَيرِها، حتَّى تأتيَ قريبًا مِنَ الأصلِ أو مِثْلَه.
اجعَلْ لك كُلَّ يومٍ درسًا أو درسَينِ على هذا النَّحْوِ، فتقرَأُ أوَّلًا في كِتابٍ بليغٍ نَحْوَ نِصفِ ساعةٍ، ثمَّ تختارُ قِطعةً منه فتَقرَؤُها حتَّى تَقتُلَها قِراءةً، ثمَّ تأخُذُ في مُعارضتِها على الوَجْهِ الَّذي تَقدَّم، واقطَعْ سائرَ اليَومِ في القِراءةِ والمراجَعةِ، ومتى شعَرْتَ بتَعَبٍ فدَعِ القِراءةَ أو العَمَلَ حتَّى تَستجِمَّ، ثمَّ ارجِعْ إلى عَمَلِك، ولا تُهمِلْ جانِبَ الفِكْرِ والتَّصَوُّرِ وحُسْنِ التَّخْييلِ.
هذه هي الطَّريقةُ، ولا أرى لك خَيرًا منها، وإذا رُزِقْتَ التَّوفيقَ فرُبَّما بلَغْتَ مَبلغًا في سَنةٍ واحِدةٍ:
وأوَّلُ رَأيِك أن تَسْتَفيدَ
وآخِرُ رأيِك أن تجتَهِدْ
هذا بيتٌ عَرَض ليَ الآنَ، فرُبَّما كان خُلاصةَ الوَصِيَّةِ. وفي الخِتامِ أرجو أن تُوَفَّق فيما تحاوِلُ، والسَّلامُ) [81] يُنظر: ((رسائل الرافعي)) (ص: 41). .

انظر أيضا: