موسوعة اللغة العربية

الفَصْلُ الثَّامِنُ: الاطِّلاعُ على أعمالِ المتقَدِّمينَ نَظْمًا ونَثْرًا


للقِراءةِ تأثيرٌ عظيمٌ على صاحِبِها؛ فهي (تَشحَذُ الفِكْرَ، وتَجْلو العَقْلَ، وتُحْيي القَلْبَ، وتُقَوِّي القَريحةَ، وتُعينُ الطَّبيعةَ، وتَبْعَثُ نتائِجَ العُقولِ، وتَستثيرُ دَفائِنَ القُلوبِ؛ فَضْلًا عن أنَّها تُؤنِسُ الوَحْشةَ، وتَصِلُ لذَّاتُها إلى القَلْبِ مِن غَيرِ سآمةٍ تُدرِكُك، ولا مَشَقَّةٍ تَعرِضُ لك) [63] يُنظر: ((الوسيط في قواعد الإملاء والإنشاء)) لعمر الطباع (ص: 152). .
فأبرَزُ فَضائِلِ القِراءةِ الأدبِيَّةِ للكاتِبِ والمُنشِئِ تَكمُنُ في:
- الاطِّلاعِ على نتائِجِ العُقولِ والقَرائِحِ في القَديمِ والحَديثِ، وهو ما يَعمَلُ على توسيعِ أُفُقِ التَّفكيرِ، ويُنَمِّي ثَرْوةَ العَقْلِ، ويَزيدُ مِن خِبرةِ النَّفْسِ.
- تَفَهُّمِ أساليبِ الكِتابةِ نَتيجةً لِلمُطالعةِ الطَّويلةِ، وفي هذا صَقْلٌ للذَّائِقةِ الجَماليَّةِ في القارِئِ، وبه تنمو بُذورُ النَّقْدِ مُستقبَلًا؛ فأَمْهَرُ النُّقادِ أكثَرُهم قِراءةً واطِّلاعًا.
- حُصولِ مَلَكةِ البَلاغةِ؛ لأنَّها نَتيجةٌ حَتْميَّةٌ للاطِّلاعِ الواسِعِ، والتَّمييزِ بَيْنَ الأساليبِ المُختَلِفةِ.
قال ضياءُ الدِّينِ ابنُ الأثيرِ: (فإنَّ في ذلك فوائِدَ جَمَّةً؛ لأنَّه يُعلَمُ منه أغراضُ النَّاسِ، ونتائِجُ أفكارِهم، ويُعرَفُ به مقاصِدُ كُلِّ فَريقٍ منهم، وإلى أين ترامَت به صنعَتُه في ذلك؛ فإنَّ هذه الأشياءَ ممَّا تَشحَذُ القَريحةَ، وتُذْكي الفِطْنةَ، وإذا كان صاحِبُ هذه الصِّناعةِ عارِفًا بها تصيرُ المعاني الَّتي ذُكِرَت وتُعِبَ في استِخْراجِها كالشَّيءِ المُلْقى بَيْنَ يديه يأخُذُ منه ما أراد ويَترُكُ ما أراد، وأيضًا فإنَّه إذا كان مُطَّلِعًا على المعاني المسبوقِ إليها قد ينقَدِحُ له مِن بَيْنِها معنًى غريبٌ لم يُسبَقْ إليه، ومِنَ المَعْلومِ أنَّ خواطِرَ النَّاسِ وإن كانت مُتفاوِتةً في الجَودةِ والرَّداءةِ فإنَّ بَعْضَها لا يكونُ عاليًا على بَعْضٍ أو مُنحَطًّا عنه إلَّا بشَيءٍ يسيرٍ، وكثيرًا ما تتساوى القرائِحُ والأفكارُ في الإتيانِ بالمعاني، حتَّى إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قد يأتي بمعنًى موضوعٍ بلَفظٍ، ثمَّ يأتي الآخَرُ بَعْدَه بذلك المعنى واللَّفْظِ بعَيْنِهما مِن غَيرِ عِلْمٍ منه بما جاء به الأوَّلُ! وهذا الَّذي يُسَمِّيه أربابُ هذه الصِّناعةِ وُقوعَ الحافِرِ على الحافِرِ) [64] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 46). .
وعلى الكاتِبِ أن يُركِّزَ اهتِمامَه على خُطَبِ العَرَبِ قَديمًا؛ فإنَّها أهمُّ ما تكَلَّمَت به العَرَبُ؛ حَيثُ كانت تُلقى قَبْلَ الحَربِ، وعند قُدومِ الوفودِ، وفي الصُّلْحِ بَيْنَ القبائِلِ؛ قال أبو جَعفَرٍ النَّحَّاسُ: (وهي مِن آكَدِ ما يحتاجُ إليه الكاتِبُ؛ وذلك أنَّ الخُطَبَ مِن مُستودَعاتِ سِرِّ البَلاغةِ، ومجامِعِ الحِكَمِ، بها تفاخَرَت العَرَبُ في مَشاهِدِهم، وبها نطَقَت الخُلَفاءُ والأُمَراءُ على منابِرِهم، بها يتميَّزُ الكَلامُ، وبها يُخاطَبُ الخاصُّ والعامُّ، وعلى مِنوالِ الخَطابةِ نُسِجَت الكِتابةُ، وعلى طريقِ الخُطَباءِ مَشَتِ الكُتَّابُ) [65] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (1/ 253). .
وإنَّما تَبرُزُ أهمِّيَّةُ الخَطابةِ في إثراءِ مَلَكةِ البَلاغةِ عِنْدَ الكاتِبِ، كما تزيدُ لَدَيه ثَروةُ الألفاظِ وطُرُقُ أداءِ المعاني، والأمرُ كما يقولُ القَلَقْشَنْديُّ: (فإذا أكثَرَ صاحِبُ هذه الصِّناعةِ مِن حِفظِ الخُطَبِ البَليغةِ، وعَلِمَ مَقاصِدَ الخَطابةِ وموارِدَ الفَصاحةِ ومَواقِعَ البَلاغةِ، وعَرَف مصاقِعَ الخُطَباءِ ومَشاهيرَهم؛ اتَّسَع له المجالُ في الكَلامِ، وسَهُلَت عليه مُستوعَراتُ النَّثْرِ، وذُلِّلَت له صِعابُ المعاني، وفاض على لِسانِه في وَقتِ الحاجةِ ما كَمَن في ذلك بَيْنَ ضُلوعِه، فأودعَه في نَثْرِه وضَمَّنه في رسائِلِه، فاستغنى عن شَغْلِ الفِكرِ في استِنباطِ المعاني البَديعةِ، ومَشقَّةِ التَّعَبِ في تَتَبُّعِ الألفاظِ الفَصيحةِ، الَّتي لا تَنهَضُ فِكرتُه بمِثْلِها ولو جَهَدَ، ولا يَسمَحُ خاطِرُه بنظيرِها ولو دأَبَ) [66] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (1/ 271). .

انظر أيضا: