موسوعة اللغة العربية

الفَصْلُ السَّادِسُ: مَعرِفةُ أمْثالِ العَرَبِ وأقوالِهم


شاع لدى العَرَبِ إطلاقُ الأمْثالِ، وهي كَلِماتٌ مُختَصَرةٌ، تورَدُ للدَّلالةِ على أُمورٍ كُلِّيَّةٍ مَبسوطةٍ، وليس في كَلامِهم أوجَزُ منها؛ ذلك أنَّ أصلَ تلك الأمْثالِ أقوالٌ قِيلَت في مواقِفَ مُعَيَّنةٍ، فاشتَهَرت حتَّى جَرَت مَثَلًا يُقالُ في نَفْسِ الموقِفِ الَّذي جرى فيه الموقِفُ الأوَّلُ.
ولهذا كان لِزامًا على الكاتِبِ أن يَعرِفَ أهَمَّ تلك الأمْثالِ وأشهَرَها، ومَورِدَ كُلِّ مَثَلٍ ومَضْرِبَه؛ حتَّى يتمَكَّنَ مِنِ استخدامِ تلك الأمْثالِ، ويكونَ على مَعرِفةٍ ووَعْيٍ بمعناها ومُرادِها، وإلَّا فكيف يَفهَمُ مَن يقرَأُ قَولَهم: (إنْ يَبْغِ عليك قَومُك لا يَبْغِ عليك القَمَرُ)، فضلًا عن أن يتمَثَّلَ به في كَلامِه، إلَّا إذا عَلِمَ أنَّ مَورِدَ ذلك المَثَلِ وأصلَه أنَّ قَوْمًا في الجاهِليَّةِ تراهَنوا على الشَّمسِ، فقالت طائِفةٌ: تَطلُعُ الشَّمسُ والقَمَرُ يُرى، وقالت طائِفةٌ: يَغيبُ القَمَرُ قَبْلَ أن تَطلُعَ الشَّمسُ، فتراضَوا برَجُلٍ جَعَلوه بينهم حَكَمًا، فقال واحِدٌ منهم: إنَّ قَومي يَبْغون عَلَيَّ، فقال الحَكَمُ: إنْ يَبْغِ عليك قومُك لا يَبْغِ عليك القَمَرُ؛ فجَرَت مَثَلًا في الرَّجُلِ يُنكِرُ الشَّيءَ المشهورَ [56] يُنظر: ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 28). .
ومِنَ المَعْلومِ أنَّ قَولَ القائِلِ: (إن يَبْغِ عليك قومُك لا يَبْغِ عليك القَمَرُ) إذا أُخِذ على حقيقتِه مِن غَيرِ نَظَرٍ إلى القَرائِنِ المَنوطةِ به، والأسبابِ الَّتي قِيلَ مِن أجْلِها؛ لا يُعْطي مِنَ المعنى ما قد أعطاه المَثَلُ، بل ما كان يُفهَمُ مِن هذا القَولِ معنًى يُفيدُ؛ لأنَّ البَغْيَ هو الظُّلْمُ، والقَمَرَ ليس من شأنِه أن يَظلِمَ أحَدًا، فكان يَصيرُ معنى المَثَلِ: إن كان يَظلِمُك قَوْمُك لا يَظْلِمْك القَمَرُ، وهو كَلامٌ مُختَلُّ المعنى ليس بمُستقيمٍ.
وقد أكثَرَ العَرَبُ منِ استِعْمالِ الأمْثالِ لشُهرتِها وإيجازِها، مع ما فيها من بَلاغةٍ وتصويرٍ؛ لهذا فإنَّ التَّارِكَ لِمَعرفةِ الأمْثالِ مُفَرِّطٌ في ثَرْوةٍ لُغَويَّةٍ وبَلاغيَّةٍ وأَدَبيَّةٍ كَبيرةٍ.
قال ابنُ عَبدِ رَبِّه: (هي وَشْيُ الكَلامِ وجَوهَرُ اللَّفْظِ، وحَلْيُ المعاني، والَّتي تخيَّرَتْها العَرَبُ، وقدَّمَتْها العَجَمُ، ونطق بها كُلُّ زمانٍ وعلى كُلِّ لِسانٍ، فهي أبقى مِنَ الشِّعْرِ، وأشرَفُ مِنَ الخَطابةِ، لم يَسِرْ شَيءٌ مَسيرَها، ولا عَمَّ عُمومَها، حتَّى قيل: أَسْيَرُ مِن مَثَلٍ) [57] يُنظر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 3). .
وتَكمُنُ أهمِّيَّةُ مَعرِفةِ الأمْثالِ في تطريزِ الكَلامِ بها، فتُعْطي الكَلامَ رَوعةَ ما تُعْطيه الاستِعارةُ والتَّصويراتُ البيانيَّةُ؛ فما أحسَنَ توصيفَ البُخْلِ مِن قَولِهم: (أشَحُّ مِن ذاتِ النِّحْيَينِ) [58] النِّحْيُ: الزِّقُّ فيه السَّمنُ، ومَورِدُ المثَلِ: أنَّ خوَّاتَ بنَ جُبَيرٍ الأنصاريَّ رَضِيَ اللهُ عنه كان في الجاهِليَّةِ قد ذهب إلى امرأةٍ تَبيعُ السَّمْنَ، ففتح أحَدَ النِّحْيَينِ وذاقه، ثمَّ ناولها إيَّاه، وفَتَح آخَرَ فذاقه ثمَّ ناولها إيَّاه، ثَّم فجَرَ بها، فلم تستَطِعْ دَفْعَه عنها؛ لخَوفِها على السَّمْنِ مِن أن يُراقَ، فقيل: أنكحُ مِن خوَّاتٍ، وأشغَلُ مِن ذاتِ النِّحْيَينِ. يُنظر: ((الأمثال)) للهاشمي (1/ 18)، ((فصل المقال في شرح كتاب الأمثال)) للبكري (ص: 503). ، ولا أبدَعَ مِن وَصفِ خَيبةِ المَسْعى بقَولِهم: (رَجَع بخُفَّيْ حُنَيْنٍ) [59] أصلُ المثَلِ: أنَّ إسكافًا اسمُه حُنَينٍ مِن أهلِ الحِيرةِ ساومه أعرابيٌّ بخُفَّينِ، فاختلفا حتَّى أغضَبَه، فأراد غيظَ الأعرابيِّ، فلمَّا ارتحل أخَذَ حُنَينٌ أحَدَ خُفَّيه فألقاه في طريقِه، ثمَّ ألقى الآخَرَ في مَوضِعٍ آخَرَ، فلمَّا مرَّ الأعرابيُّ بأحَدِهما قال: ما أشبَهَ هذا بخُفِّ حُنَينٍ، ولو كان معه الآخَرُ لأخذْتُه، ومضى، فلمَّا انتهى إلى الخُفِّ الآخَرِ ندم على تَرْكِه الأوَّلَ، فأناخ راحِلَتَه عند الآخَرِ، ورجع إلى الأوَّلِ، وقد كَمَن له حُنَينٌ، فلمَّا مضى الأعرابيُّ عَمَد إلى راحِلتِه وما عليها فذهَبَ بها، وأقبل الأعرابيُّ ليس معه غيرُ الخُفَّينِ، فقال له قَومُه: ماذا جِئتَ به مِن سَفَرِك؟ فقال: جِئْتُكم بخُفَّيْ حُنَينٍ، فصار مَثَلًا. يُنظر: ((الأمثال)) لابن سلام (ص: 245)، ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 296). ، ولا يُحسِنُ الكاتِبُ أن يَبلُغَ برِفعةِ أُسلوبِه في توبيخِ مَن ضَيَّع ما أُوتِيَ مِنَ النِّعَمِ مِن قَولِهم: (الصَّيْفَ ضَيَّعَتِ اللَّبَنَ) [60] مَضرِبُ المثَلِ: أنَّ رَجُلًا تزوَّج ببِنْتِ عَمِّه بعد ما أسنَّ، وكان أكثَرَ قَومِه مالًا وأعظَمَهم شَرَفًا، فلم تَزَلْ تُولَعُ به وتؤذيه وتُسمِعُه ما يَكرَهُ وتَهجُرُه وتهجوه حتَّى طلَّقها، وتزوَّجَها مِن بَعْدِه ابنُ عَمِّها الآخَرُ، وكان رجُلًا شابًّا قليلَ المالِ، فمَرَّت إبِلُ زَوجِها الأوَّلِ عليها كأنَّها اللَّيلُ مِن كَثرتِها! فقالت لخادِمَتِها: وَيْلَكِ! انطَلِقي إليه فقُولي له: فلْيَسْقِنا مِنَ اللَّبَنِ. فذهَبَت الجاريةُ فقالت: إنَّ بِنتَ عَمِّك تقولُ لك: اسْقِنا مِن لَبَنِك، فقال لها: قُولي لها: الصَّيفَ ضَيَّعَتِ اللَّبَنَ. ثمَّ أرسل إليها بلَقُوحَينِ وراويةٍ مِن لَبَنٍ، فقال الرَّسولُ: أرسَلَ إليكِ بهذا وهو يقولُ: الصَّيفَ ضَيَّعَتِ اللَّبَنَ، فذهَبَت مَثَلًا، فقالت وزَوجُها عِندَها، وضَرَبَت بين كَتِفَيه: هذا ومَذْقةٌ خَيرٌ، فأرسَلَتْها مَثَلًا. والمَذْقةُ: شَربةٌ مَمزوجةٌ. يُنظر: ((أمثال العرب)) للمفضل الضبي (ص: 51)، ((الأمثال)) لابن سلام (ص: 248). .
قال القَلَقْشَنْديُّ: (فإذا أكثَرَ صاحِبُ هذه الصِّناعةِ مِن حِفْظِ الأمْثالِ السَّائِغِ استِعْمالُها، انقادت إليه معانيها، وسيقَت إليه ألفاظُها، في وَقتِ الاحتياجِ إلى نَظائِرِها مِنَ الوقائِعِ والأحوالِ، فأودَعَها في مكانِها، واستشهَدَ بها في مَوضِعِها، والطَّريقُ في استِعْمالِها في النَّثْرِ، كما في حَلِّ الأشعارِ واستِعْمالِها؛ إلَّا أنَّ الأمْثالَ لا يجوزُ تَبديلُ ألفاظِها، ولا تَغييرُ أوضاعِها؛ لأنَّها بذلك قد عُرِفَت واشتَهَرت) [61] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) (1/ 353). .

انظر أيضا: