موسوعة اللغة العربية

الفَصْلُ الثَّالِثُ: المَعرِفةُ بعُلومِ البَلاغةِ


فإنَّها قاعِدةُ الإنشاءِ، ومَعِينُه الَّذي منه يَنهَلُ كُلُّ كاتِبٍ؛ فإنَّ الكاتِبَ لا يبلُغُ مَنزِلةً بمجَرَّدِ إقامةِ الحُروفِ وإعرابِ الكَلامِ وإبانةِ المعنى؛ فهذا حاصِلٌ لأكثَرِ الخَلْقِ، وإنَّما مَزِيَّةُ الإنشاءِ في سُلوكِ سُبُلِ الفَصاحةِ واقتِفاءِ سَنَنِ البَلاغةِ، وإجادةِ التَّعبيرِ عن المعنى بأحسَنِ قَولٍ وأبلَغِ طَريقٍ، وقد رأَينا في تعريفِ الإنشاءِ مدى صِلَتِه بالبَلاغةِ وعُلومِها، حتَّى إنَّ كُتُبَ البَلاغةِ هي الَّتي ذَكَرَت مسائِلَ الإنشاءِ وفُروعَه بَيْنَ طيَّاتِها.
قال أبو هِلالٍ العَسْكريُّ: (فإنَّ صاحِبَ العَرَبيَّةِ إذا أخلَّ بطَلَبِه، وفرَّط في التَّماسِه، ففاتَته فضيلَتُه، وعَلِقَت به رَذيلةُ فَوْتِه؛ عفَّى على جميعِ محاسِنِه، وعمَّى [36] أي: أخفى. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 431). سائِرَ فَضائِلِه؛ لأنَّه إذا لم يُفَرِّقْ بَيْنَ كَلامٍ جيِّدٍ وآخَرَ رَديءٍ، ولفظٍ حَسَنٍ وآخَرَ قبيحٍ، وشِعرٍ نادرٍ وآخَرَ بارِدٍ- بان جَهْلُه، وظهَرَ نَقْصُه.
وهو أيضًا إذا أراد أن يَصنَعَ قَصيدةً، أو يُنشِئَ رِسالةً وقد فاته هذا العِلْمُ؛ مزَجَ الصَّفْوَ بالكَدَر، وخلَطَ الغُرَرَ بالعُرَر [37] الغُرَّةُ: أنْفَسُ شَيءٍ يُمْلَكُ وأفْضَلُه. والعُرَّةُ: القَذَرُ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 401)، ((تاج العروس)) للزبيدي (13/ 221). ، واستعمل الوَحْشِيَّ العَكِر، فجَعَل نَفْسَه مَهْزأةً للجاهِلِ، وعِبْرةً للعاقِلِ... وإذا أراد أيضًا تصنيفَ كَلامٍ مَنثورٍ، أو تأليفَ شِعرٍ مَنظومٍ، وتخطَّى هذا العِلْمَ؛ ساء اختيارُه له، وقَبُحَت آثارُه فيه، فأخذ الرَّديءَ المرذولَ، وتَرَك الجيِّدَ المقبولَ؛ فدلَّ على قُصورِ فَهْمِه، وتأخُّرِ مَعرفتِه وعِلْمِه) [38] يُنظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) للعسكري (ص: 2، 3). .
وممَّا يَدُلُّ على احتياجِ المُنْشِئِ إلى عُلومِ البَلاغةِ ما ذكَرَه عبدُ القاهِرِ الجُرْجانيُّ أنَّ الكِنْديَّ المُتفَلْسِفَ رَكِبَ إلى أبي العَبَّاسِ المُبَرِّدِ وقال له: إنِّي لأجِدُ في كَلامِ العَرَبِ حَشْوًا. فقال له أبو العَبَّاسِ: في أيِّ وَضعٍ وَجَدْتَ ذلك؟ فقال: أجِدُ العَرَبَ يقولونَ: "عبدُ اللهِ قائِمٌ"، ثمَّ يقولونَ: "إنَّ عَبْدَ اللهِ قائِمٌ"، ثمَّ يقولونَ: "إنَّ عَبدَ اللهِ لقائِمٌ"، فالألفاظُ مُتكَرِّرةٌ والمعنى واحِدٌ! فقال أبو العَبَّاسِ: بل المعاني مختَلِفةٌ لاختِلافِ الألفاظِ؛ فقَولُهم: "عَبْدُ اللهِ قائِمٌ" إخبارٌ عن قيامِه، وقَولُهم: "إنَّ عَبْدَ اللهِ قائِمٌ" جوابٌ عن سُؤالِ سائلٍ، وقَولُهم: "إن َّعَبْدَ اللهِ لقائِمٌ" جوابٌ عن إنكارِ مُنكِرٍ قيامَه؛ فقد تكَرَّرت الألفاظُ لتكَرُّرِ المعاني. قال: فما أحارَ المتَفَلْسِفُ جوابًا [39] يُنظر: ((دلائل الإعجاز)) لعبد القاهر الجرجاني (1/ 315). !

انظر أيضا: