موسوعة اللغة العربية

المبحث الثَّاني: التَّنْغيمُ


يُعرَفُ التَّنْغيمُ في عِلمِ الأصْواتِ بأنَّه (ارْتِفاعُ الصَّوتِ وانْخِفاضُه في أثْناءِ الكَلامِ) [449] يُنظَر: ((مناهج البحث في اللغة)) لتمام حسان (164)، ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللُّغويّ)) لرمضان عبد التواب (ص106). وهو يَخْتلِفُ عنِ النَّبْرِ؛ فالنَّبْرُ وُضوحٌ نِسبيٌّ في نُطْقِ مَقطَعٍ مِنَ المَقاطِعِ، وهو عامِلٌ مُهمٌّ مِن عَوامِلِ التَّنْغيمِ، لكنَّ مُصْطلَحَ التَّنْغيمِ يُطلَقُ على نِظامِ تَوالي دَرَجاتِ الصَّوتِ، ويُصطَلَحُ عليه أيضًا بـمُوسيقا الكَلامِ.
فمِنَ المَعْروفِ أنَّ الإنْسانَ لا يَسيرُ على وَتيرةٍ واحِدةٍ في نُطقِ مَقاطِعِ كَلامِه، وهذا التَّسلْسُلُ الَّذي نَلحَظُه في دَرَجةِ الصَّوتِ يَخضَعُ لنِظامٍ خاصٍّ يَخْتلِفُ مِن لُغةٍ إلى أخرى، وبعضُ اللُّغاتِ يكونُ اخْتِلافُ دَرَجةِ الصَّوتِ فيها له أهمِّيَّةٌ كُبْرى؛ لاخْتِلافِ المَعاني الناتِجةِ منِ اخْتِلافِ دَرَجةِ الصَّوتِ حين النُّطْقِ بها، وأشْهَرُ هذه اللُّغاتِ اللُّغةُ الصِّينيَّةُ؛ فالكَلِمةُ الواحِدةُ فيها تُؤدِّي عِدَّةَ مَعانٍ تبَعًا لاخْتِلافِ دَرَجةِ الصَّوتِ حين النُّطْقِ بها [450] يُنظَر: ((الأصوات اللُّغويَّة)) لإبراهيم أنيس (ص175). .
وأشْهَرُ أنْواعِ النَّغَماتِ ثَلاثةٌ، وهي [451] يُنظَر: ((أصوات اللغة)) لعبد الرحمن أيوب (ص153-154). :
1- النَّغْمةُ المُسْتويةُ، وتَعْني وُجودَ عَددٍ مِنَ المَقاطِعِ تكونُ دَرَجاتُها مُتَّحدةً، وقد تكونُ هذه الدَّرَجاتُ قَليلةً أو مُتوسِّطةً أو كَثيرةً.
2- النَّغْمةُ الهابِطةُ، وتَعْني وُجودَ دَرَجةٍ عالِيةٍ في مَقطَعٍ أو أكْثَرَ، تَليها دَرَجةٌ أكْثَرُ انْخِفاضًا منها.
3- النَّغْمةُ الصَّاعِدةُ، وتَعْني وُجودَ دَرَجةٍ مُنْخفضةٍ في مَقطَعٍ أو أكْثَرَ تَليها دَرَجةٌ أكْثَرُ عُلُوًّا منها.
وظاهِرةُ التَّنْغيمِ في اللُّغةِ العَربيَّةِ يَصعُبُ تَحْديدُ إطارِها؛ لِهذا رأى الدُّكتورُ إبْراهيمُ أنيسٍ تَرْكَ الحَديثِ عن مُوسيقا الكَلامِ العَربيِّ إلى مَجالٍ آخَرَ، وعدَّ الدُّكتورُ أحْمَدُ مُخْتار عُمَر أمْثِلةَ التَّنْغيمِ في العَربيَّةِ نوعًا غيرَ تَمْييزيٍّ، فتكونُ لَهْجةً خاصَّةً، أو عادَةً نُطْقيَّةً للأفْرادِ.
وللتَّنْغيمِ في اللُّغةِ العَربيَّةِ وَظيفَةٌ نَحْويَّةٌ ودَلالةٌ مُهمَّةٌ، فإنَّ الجُملةَ الواحِدةَ قد تكونُ خَبريَّةً أوِ اسْتِفهاميَّةً، ويكونُ التَّنْغيمُ هو الفاصِلَ بينَهما، ومِن خِلالِه نَسْتطيعُ أن نُفرِّقَ بَينَ أساليبِ الكَلامِ، كالخَبَرِ والاسْتِفهامِ والتَّعجُّبِ...إلخ.
وللعُلَماءِ المُتقدِّمين إشاراتٌ لظَاهِرةِ التَّنْغيمِ، وليس كما يقولُ الدُّكتورُ رَمضانُ عبدِ التَّوابِ: إنَّه لم يُعالِجْ أحدٌ منهم هذه الظَّاهِرةَ، ولم يَعرِفْ كُنْهَها [452] يُنظَر: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللُّغوي)) لرمضان عبد التواب (ص241). ؛ فقد جاء في كِتابِ (نُجومِ البَيانِ في الوُقوفِ، وماءاتِ القُرآنِ) للإمامِ السَّمَرقَنديِّ (ت 780هـ) قولُه: (إنَّ العَربَ تَرفَعُ الصَّوتَ بـ(ما) النَّافيةِ والجاحِدةِ، وتَخفِضُ الصَّوتَ بالخَبَريَّةِ، وتُمكِّنُ بالاسْتِفهاميَّةِ بحيثُ تَصيرُ بينَ بينَ، أي: بينَ النَّافيةِ والخَبَريَّةِ، مِثالُ ذلك: إنْ قال قائِلٌ: ما قلتَ، ويَرفَعُ الصَّوتَ بها يُعلَمُ أنَّها نافِيةٌ، وإذا خَفَض الصَّوتَ يُعلَمُ أنَّها خَبَريَّةٌ، وإذا جعَلها بينَ بينَ يُعلَمُ أنَّها اسْتِفهاميَّةٌ) [453] ((نجوم البيان)) للسمرقندي، نقلًا عن ((المدخل إلى علم الأصوات)) لغانم قدوري الحمد (ص246). .
وإذا كان السَّمَرقَنديُّ لم يَسْتخدِمْ مُصْطلَحَ (النَّغْمةِ) في حَديثِه لكنَّ لكَلامِه أهمِّيَّةً؛ حيثُ اسْتَخدم المَعْنى الَّذي يُعطيه مَدلولُ التَّنْغيمِ، ومِنَ العُلَماءِ مَنِ اسْتَخدمَ كَلِمةَ النَّغْمةِ نفْسَها، مِثلُ الإمامِ النَّسَفيِّ الَّذي يقولُ في تَفْسيرِ سُورةِ يُوسفَ: قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [يوسف: 66] : (بعضُهم يَسكُتُ عليه؛ لأنَّ المَعْنى قال يَعْقوبُ … غيرَ أنَّ السَّكتَةَ تَفصِلُ بَينَ القولِ والمَقولِ، وذا لا يَجوزُ؛ فالأَولى أن يُفرَّقَ بينَهما بالصَّوتِ فيُقصَدَ بقوَّةِ النَّغْمةِ اسمُ اللهِ) [454] ((تفسير النسفي)) (2/123). .
وفي هذه النُّصوصِ ردٌّ على مَنْ يَنْفي وُجودَ أيِّ مُعالَجةٍ مِنَ العُلَماءِ المُتقدِّمين لِهذه الظَّاهِرةِ، وإنْ كانت ظاهِرةُ التَّنْغيمِ تَحْتاجُ إلى دِراسةٍ وافيةٍ.

انظر أيضا: