موسوعة اللغة العربية

المبحث الأوَّلُ: جُهودُ اللُّغويِّينَ في جَمْعِ اللُّغةِ


وقد تَجنَّبَ اللُّغويُّون أخْذَ اللُّغةِ عنِ الحَضَرِ، أي: عنِ العَربِ المُسْتقرِّين وعنِ القَبائِلِ العَربيَّةِ الَّتي عاشتْ بالقُربِ مِن جَماعاتٍ لُغويَّةٍ غيرِ عَربيَّةٍ؛ فلم يُؤخَذْ مِن قَبيلةِ لَخْمٍ ولا مِن قَبيلةِ جُذامَ؛ لمُجاوَرتِهم أهْلَ مِصرَ والقِبْطَ، وبالمِثلِ تَجنَّبَ اللُّغويُّون أخْذَ اللُّغةِ عن قُضاعَةَ وغسَّانٍ وإيادٍ لمُجاوَرتِهم أهْلَ الشَّامِ، وأخبَرَ الدُّكتورُ محمود فهمي حجازي أنَّ هناك خطأً وقَعَ فيه الفارابيُّ هنا؛ إذ ذَكَر أنَّ أكثَرَهم نَصارى يَقرَؤون بالعِبْرانيَّةِ، فمَعرِفةُ العِبْريَّةِ في القَرنِ الثَّاني الهِجريِّ -الثَّامِنِ الميلاديِّ- كانت مقصورةً على رجالِ الدِّينِ اليهودِ، وقِلَّةٍ مِنَ المهتمِّينَ بالتُّراثِ اليهوديِّ. والصَّحيحُ أنَّ أهلَ الشَّامِ كانوا في فَجرِ الإسلامِ من أبناءِ الآراميَّةِ بلَهَجاتِها المختَلِفةِ [298] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 96). .
وأعرَضَ جامعو اللُّغةِ عن قَبائِلِ تَغْلِبَ؛ لاخْتِلاطِ هذه القَبائِلِ بالجَماعاتِ اللُّغويَّةِ غيرِ العَربيَّةِ في الشَّامِ والعِراقِ ومِصرَ. أمَّا قَبائِلُ العَربِ في اليَمَنِ وشَرقِ الجَزيرةِ العَربيَّةِ ومُدُنِ الحِجازِ فقد خرَجت أيضًا عنِ اهْتِمامِ اللُّغويِّينَ، وقد فسَّروا عَدَمَ أخْذِ اللُّغةِ عن أهْلِ اليَمَنِ أنَّ لُغتَهم تَغيَّرتْ لمُخالَطتِهم للهِندِ والحَبَشةِ، ورفَضوا أخْذَ اللُّغةِ عن قَبائِلِ شَرقِ الجَزيرةِ العَربيَّةِ ومُدُنِ الحِجازِ باعْتِبارِ أنَّ لُغتَهم اخْتَلطتْ بلُغةِ غيرِ العَربِ، والواقِعُ أنَّ اللُّغويِّين لم يهتمُّوا في القَرْنِ الثَّاني الهِجريِّ بالتَّنوُّعِ اللُّغويِّ في الجَزيرةِ العَربيَّةِ، وقصَروا اهْتِمامَهم على تَقْريرِ فَصاحةِ لُغةِ القَبيلةِ أو عَدَمِ فَصاحَتِها، فشَغلتْهم قَضيَّةُ الفَصاحَةِ عن باقي القَضايا الكَثيرةِ الَّتي يُمكِنُ طَرْحُها في العمَلِ اللُّغويِّ المَيدانيِّ. فسَّر اللُّغويُّون التَّغيُّرَ الَّذي لاحَظوه في لَهَجاتِ بعضِ القَبائِلِ الَّتي رفَضوها بأنَّه ثَمَرةُ الاخْتِلاطِ بأبْناءِ الجَماعاتِ اللُّغويَّةِ غيرِ العَربيَّةِ في مِصرَ والشَّامِ والعِراقِ، وبأبْناءِ الجَماعاتِ اللُّغويَّةِ الهِنديَّةِ والحَبَشيَّةِ الَّذين اخْتَلط بهم نَفَرٌ مِنَ العَربِ، ولكنَّ جامِعي اللُّغةِ في القَرْنِ الثَّاني الهِجريِّ لم يهتمُّوا بالعَربيَّةِ الجَنوبيَّةِ الَّتي كانت دون شكٍّ مُنْتشِرةً في مَناطِقَ مِنَ الجَنوبِ العَربيِّ آنَذاك، بل عدُّوا ما وجَدوه عند قَبائِلِ اليَمَنِ مِن ظَواهِرَ لُغويَّةٍ مُخالِفةٍ ضَرْبًا مِنَ الاخْتِلاطِ الَّذي أصاب اللُّغةَ وجعَلها غيرَ نَقيَّةٍ وغيرَ سَليمةٍ؛ وبذلك لم يكنِ العَمَلُ اللُّغويُّ في القَرْنِ الثَّاني الهِجريِّ مُحاولةً لتَسْجيلِ جَوانِبِ الحَياةِ اللُّغويَّةِ عند أبْناءِ اللُّغةِ العَربيَّةِ، أو مُحاوَلةً لبَحْثِ جَوانِبِ التَّنوُّعِ اللُّغويِّ في الجَزيرةِ العَربيَّةِ، بل كان مُحاوَلةً للبَحْثِ عنِ الصِّيَغِ الفَصيحةِ والكَلِماتِ الفَصيحةِ عند القَبائِلِ العَربيَّةِ الَّتي يَقْتربُ اسْتِخدامُها للُّغةِ مِنَ المُسْتوى اللُّغويِّ المَنْشودِ.
وقد أثْمَرتْ حَرَكةُ جَمْعِ اللُّغةِ مَجْموعةً مِنَ الكُتُبِ والرَّسائِلِ اللُّغويَّةِ، لقد جمَع اللُّغويُّون ما عرَفتْه القَبائِلُ الفَصيحةُ مِن ألْفاظٍ، وصنَّفوها في مَجْموعاتٍ دَلاليَّةٍ، وألَّفوا في هذا مَجْموعةً كَبيرةً مِنَ الكُتُبِ؛ ألَّف الأصْمَعيُّ (تُوفِّي: 216هـ) في خَلْقِ الإنْسانِ والإِبِلِ والخَيلِ والوَحْشِ والنَّباتِ والشَّجرِ، وألَّف أبو زَيدٍ الأنْصاريُّ في اللَّبَنِ والمَطَرِ والنَّباتِ والشَّجَرِ، وظلَّتِ الرَّسائِلُ هي الشَّكْلَ الوَحيدَ الَّذي اتَّخذتْه دِراسةُ الألْفاظِ العَربيَّةِ مِنَ النَّاحيةِ الدَّلاليَّةِ وقتًا طَويلًا، إلى أن برَزتْ إلى الدَّوائِرِ العِلميَّةِ حَرَكةُ تأليفِ المَعاجِمِ. وقد كان لِما ألَّفه الأصْمَعيُّ وأبو زَيدٍ الأنْصاريُّ ومَنْ عاصَرهما مِنَ اللُّغويِّين أكْبَرُ الأثَرِ في المَعاجِمِ العَربيَّةِ، وفي نَظريَّةِ اللُّغةِ عند العَربِ بشَكْلٍ عامٍّ، ولقد أخَذ مُؤلِّفو المَعاجِمِ المادَّةَ الَّتي دوَّنها عُلَماءُ القَرْنِ الثَّاني، واحْتَفلوا بكلِّ ما سجَّله الأصْمَعيُّ وأبو زيدٍ ومُعاصِروهما كلَّ الاحْتِفالِ؛ ولِذا تَتكرَّرُ أسْماءُ هؤلاء اللُّغويِّين في المَعاجِمِ اللُّغويَّةِ الكَثيرةِ الَّتي ظهَرتْ في القُرونِ التَّاليةِ.
وفي هذه الفَترةِ أيضًا أُلِّف كِتابُ سِيبَوَيهِ، وبذلك عرَف النِّصفُ الثَّاني مِنَ القَرْنِ الثَّاني لِلهِجرةِ جَمْعَ اللُّغةِ، وتَدوينَ الرَّسائِلِ اللُّغويَّةِ، وبِدايةَ العَمَلِ المُعجَميِّ، وبِدايةَ التَّأليفِ النَّحْويِّ. وإذا كان القَرْنُ الرَّابِعُ الهِجريُّ قد عرَف مَجْموعةً كَبيرةً مِن أعْلامِ النُّحاةِ فإنَّ نفْسَ الفَترةِ الزَّمَنيَّةِ أخْرَجتْ لنا عَددًا كَبيرًا مِنَ المَعاجِمِ اللُّغويَّةِ الَّتي تُمثِّلُ اتِّجاهاتٍ مُختلِفةً في التَّأليفِ المُعجَميِّ، وكانت حَرَكةُ تَأليفِ المَوسوعاتِ النَّحْويَّةِ مُوازيةً لتَأليفِ المَعاجِمِ المَوسوعيَّةِ، مِثلُ لِسانِ العَربِ، كما كانت حَرَكةُ تَأليفِ الحَواشي والشُّروحِ النَّحْويَّةِ مَصْحوبةً بتَأليفِ حَواشٍ على المَعاجِمِ وشُروحٍ لها، وكان عبدُ القادِرِ البَغْداديُّ (تُوفِّي: 1093هـ) بكِتابَيه: خِزانَةِ الأدَبِ، وشَرحِ شَواهِدِ مُغْني اللَّبيبِ- ظاهِرةً مُوازيةً لتَأليفِ مُرْتَضى الزَّبيديِّ لتاجِ العَروسِ شَرحًا للقاموسِ المُحيطِ، وإذا كانت كُتُبُ النَّحْوِ تَخْتلِفُ اخْتِلافًا يَسيرًا في تَبْويبِها الدَّاخِليِّ وتَرْتيبِها للمَوضوعاتِ، فإنَّ المَعاجِمَ العَربيَّةَ تُقسَّمُ مِن ناحِيةِ تَرْتيبِها للألْفاظِ الوارِدةِ فيها إلى مَدارِسَ مُختلِفةٍ، لكلٍّ منها مَنهَجُها الخاصُّ [299] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 97، 101). .

انظر أيضا: