موسوعة اللغة العربية

المبحث الخامِسُ: نَشْأةُ عِلمِ اللُّغةِ المُقارَنِ


إنَّ التَّقدُّمَ الحَقيقيَّ في عِلمِ اللُّغةِ المُقارَنِ قد بدأ في القَرْنِ التَّاسعَ عشَرَ بعد أن اكْتَشفَ الأوروبِّيُّون اللُّغةَ السَّنسِكريتيَّةَ؛ وهي لُغةُ تُراثِ الهِندِ القَديمِ، إنَّ السَّنسِكريتيَّةَ لم تَمُتْ، ولا يَزالُ بعضُ العُلَماءِ الهُنودِ يَقْرؤون نُصوصَها ويُؤَلِّفون بها، لاحَظَ اللُّغويُّون الأوروبِّيُّونَ الشَّبَهَ الواضِحَ للسَّنسِكريتيَّةِ باللُّغاتِ الأوروبيَّةِ القَديمةِ، ولا تَقْتصِرُ أوجُهُ الشَّبَهِ على طائِفةٍ مِنَ المُفرَداتِ المُتَشابِهةِ فالألْفاظُ تَنْتقِلُ في يُسْرٍ مِن لُغةٍ إلى أخرى. ولكنَّ الباحِثين ركَّزوا جُهدَهم على إيضاحِ جَوانِبِ الشَّبَهِ في بِنْيةِ اللُّغةِ السَّنسِكريتيَّةِ واللُّغاتِ الأوروبيَّةِ القَديمةِ مِنَ الجَوانِبِ الصَّوتيَّةِ والصَّرفيَّةِ والنَّحْويَّةِ، ومرَّ البَحْثُ اللُّغويُّ المُقارَنُ بعد بِدايتِه المُوفَّقةِ معَ اكْتِشافِ السَّنسِكريتيَّةِ بعِدَّةِ مَراحِلَ، مضى فيها شيئًا فشيئًا نَحْوَ اسْتِخراجِ القَوانِينِ التَّاريخيَّةِ للتَّغيُّرِ اللُّغويِّ، شليجل: F. Schlegel أوَّلُ مَنْ طالَبَ بدِراسةِ البِنْيةِ اللُّغويَّةِ للُّغةِ السَّنسِكريتيَّةِ باعْتِبارِها مُنطلَقًا للمُقارَناتِ اللُّغويَّةِ، ويُطلِقُ الباحثون الأوربيُّونَ على مَعرِفةِ الغَربِ لأوَّلِ مرَّةٍ للُّغةِ السَّنْسِكريتيَّةِ إعادةَ اكتشافِ اللُّغة السَّنسِكريتيَّةِ، رَغْمَ أنَّها كانت معروفةً بصورةٍ مطَّرِدةٍ عند عدَدٍ مِنَ العُلَماءِ الهنودِ، وأوَّلُ أوربيٍّ ذكَر في العَصرِ الحديثِ السَّنسكريتيَّةَ هو Sir William Jones 1746-94، وكان قاضيًا إنجليزيًّا في البِنْغالِ [289] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 126)، نقلًا عن كتاب فردريخ شليجل ((Uber die Sprache und Weisheit der Indier)) .
لقد درَس شليجل اللُّغةَ السَّنسِكريتيَّةَ، وكان إعْجابُه بها على نَحْوِ إعْجابِ الرُّومانتيكيِّين الألْمانِ بكلِّ شيءٍ قَديمٍ وغَريبٍ، ورأى اللُّغاتِ الأوروبيَّةَ القَديمةَ، مِثلُ الإغْريقيَّةِ واللَّاتينيَّةِ والجرمانيَّةِ، مِن أصْلٍ سَنسِكريتيٍّ. كان شليجل سَعيدًا كلَّ السَّعادةِ باللُّغةِ السَّنسِكريتيَّةِ، وكأنَّه قد تَوصَّل بها إلى طُفولةِ البَشريَّةِ وإلى اللُّغةِ القَديمةِ النَّقيَّةِ والأصْليَّةِ، وقد أحْرَزَ عِلمُ اللُّغةِ المُقارَنُ في الأجْيالِ التَّاليةِ لشليجل تَقدُّمًا مُطَّرِدًا حقَّق للبَحْثِ اللُّغويِّ دَرَجةً مِنَ الدِّقَّةِ العِلميَّةِ، وخَفَّتْ نَشوَةُ الوَلَعِ بالهِندِ وبالسَّنسِكريتيَّةِ، ووَهْمُ أنَّها هي الأصْلُ النَّقيُّ القَديمُ، كان فرانتس بوب: F. Bopp أوَّلَ مَنْ ألَّف كِتابًا جادًّا في عِلمِ اللُّغةِ المُقارَنِ، فصَدر كِتابُه: النَّحْوُ المُقارَنُ (1833-1851م)، كان فرانتس بوب يَرى الهَدَفَ مِنَ النَّحْوِ المُقارَنِ إعادَةَ تَكْوينِ اللُّغةِ الهِنديَّةِ-الأوروبِّيَّةِ الأُولى، ولم يكنْ يَرى رأيَ شليجل؛ أنَّ السَّنسِكريتيَّةَ أصْلُ كلِّ اللُّغاتِ الهِنديَّةِ-الأوروبِّيَّةِ، فحاوَلَ بوب أن يَسْتخرِجَ مَلامِحَ اللُّغةِ الهِنديَّةِ-الأوروبِّيَّةِ الأُولى اعْتِمادًا على مُقارَنةِ اللُّغاتِ الأوروبِّيَّةِ المُختلِفةِ، والمُضِيَّ مِنَ المَراحِلِ القَديمةِ إلى المَراحِلِ الأقْدَمِ في مُحاولةٍ للتَّعرُّفِ على اللُّغةِ الأقْدَمِ الَّتي صدَرتْ عنها كلُّ هذه اللُّغاتِ، وفي النِّصفِ الأوَّلِ مِنَ القَرْنِ التَّاسعَ عشَرَ كان هَدَفُ البَحْثِ المُقارَنِ التَّوصُّلَ إلى اللُّغةِ الأقْدَمِ؛ ولِذا كان البَحْثُ مُرْتبِطًا بالنُّصوصِ المُدوَّنةِ، حاولوا بَحْثَ النُّصوصِ المُختلِفةِ الَّتي وصَلتْ إليهم باللُّغاتِ الهِنديَّةِ الأوروبِّيَّةِ عبْرَ التَّاريخِ مُحاوِلينَ الوُصولَ عبْرَ أقْدَمِ هذه النُّصوصِ إلى اللُّغةِ الهِنديَّةِ الأوروبِّيَّةِ الأُولى، ولم يكنْ هناك اهْتِمامٌ جادٌّ بدِراسةِ اللَّهَجاتِ الحيَّةِ -أوَّلَ الأمرِ- ولكنَّ الباحِثينَ تَبيَّنوا بعد ذلك أهمِّيَّةَ بَحْثِ اللَّهَجاتِ الحَديثةِ في إطارِ عِلمِ اللُّغةِ المُقارَنِ، أي: إنَّهم بحَثوا اللَّهَجاتِ لا باعْتِبارِها هدفًا في ذاتِها أو مَوضوعًا مُتكامِلًا في ذاتِه، بل باعْتِبارِها أداةً تُوضِّحُ جَوانِبَ مِنَ التَّاريخِ اللُّغويِّ القَديمِ، أي: إنَّها كانت وَسيلةً لفَهْمِ الماضي.
ودخَل عِلمُ اللُّغةِ المُقارَنُ في النِّصفِ الثَّاني مِنَ القَرْنِ التَّاسعَ عشَرَ مَرْحَلةً جَديدةً خَبَتْ فيها الرُّوحُ الرُّومانتيكيَّةُ، ونزَع فيها البَحْثُ اللُّغويُّ إلى العِلميَّةِ وتَطويرِ المَناهِجِ الدَّقيقةِ في التَّصْنيفِ والتَّفْسيرِ واسْتِخراجِ القَوانِينِ الدَّقيقةِ؛ على نَحْوِ ما فعَل الباحِثون في العُلومِ الطَّبيعيَّةِ. تأثَّر عِلمُ اللُّغةِ في هذه المَرْحَلةِ بالدَّاروينيَّةِ تأثُّرًا بَعيدًا، كان اللُّغويُّ شلايشر مُتَخصِّصًا أيضًا في العُلومِ البيولوجيَّةِ، أُعْجِب بآراءِ دارون في تَطوُّرِ الكائِناتِ، وألَّف في مُحاوَلةِ نَقْلِ فِكرةِ التَّفْسيرِ التَّطوُّريِّ التَّاريخيِّ في عِلمِ اللُّغةِ كِتابًا بعُنوانِ نَظريَّةِ دارْون وعِلمِ اللُّغةِ [290] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 128)، وأشار إلى أهم كتب شلايشر: ((dic darwinische theoric und die sprachwissenschaft)) ، وقد عدَّ شلايشر نفْسَه عالِمًا طَبيعيًّا ببَحْثِ اللُّغةِ لا بوَصْفِ مَظهَرِها الخارِجيِّ، بل بتَأريخِ جُزئيَّاتِ ظَواهِرِها، وتَعْليلِ نُشوءِ هذه الجُزئيَّاتِ بقَوانِينَ ثابِتةٍ. وإذا كان عُلَماءُ النَّباتِ قد نجَحوا في تَصْنيفِ النَّباتاتِ إلى أُسْراتٍ اعْتِمادًا على بِنْيتِها ومُكوِّناتِها ووضَعوا بذلك مَجْموعةً مِن قَوانِينِ التَّغيُّرِ التَّاريخيِّ- فإنَّ شلايشر حاوَلَ أن يَتوسَّلَ بهذا المَنهَجِ في بَحْثِ اللُّغاتِ، ويُعَدُّ كِتابُ شلايشر في النَّحْوِ المُقارَنِ للُّغاتِ الهِنديَّةِ-الأوروبِّيَّةِ [291] عُنوان هذا الكتاب: compendium der verglechenden grammatik der indogermanischen sprachen, kurzer abriss einer laut-und formenlehre der indogermanischen ursprache weimar 1861. مِن أهمِّ الكُتُبِ الَّتي جعَلتْ مِن عِلمِ اللُّغةِ عِلمًا دَقيقًا يُحاوِلُ تَفْسيرَ التَّغيُّرِ بقَوانِينَ واضِحةٍ، وكان لِهذا الكِتابِ أثَرٌ مُباشِرٌ في قِيامِ مَدْرسةِ النُّحاةِ الشُّبَّانِ: Junggrammariker، وأُطلِقَت هذه التَّسميةُ على هؤلاء النُّحاةِ عندما كانوا في فَجرِ شبابِهم؛ تهكُّمًا عليهم، ثمَّ أعجِبَ بها هؤلاء الشُّبَّانُ، فأطلقوها على أنفُسِهم، وأكثَرُ هؤلاء النُّحاةِ وُلِدوا في مُنتصَفِ القَرنِ التاسِعَ عَشَرَ، مِثلُ: ولد أُوسْتُهُوف 1847م، وبُرُجْمان 1849م [292] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 129). ، ويَنْتمي إلى هذه المَدْرسةِ أهمُّ اللُّغويِّين الألْمانِ في الثُّلُثِ الأخيرِ مِنَ القَرْنِ التَّاسعَ عشَرَ والنِّصفِ الأوَّلِ مِنَ القَرْنِ العِشرينَ، وأعْلامُ هذه المَدْرسةِ لسكين: A.Leskien، وأستهوف: H. Osthoff، وبروجمان: K. Brugmann في مَجالِ عِلمِ اللُّغةِ الهِنديَّةِ-الأوروبِّيَّةِ، وتَبِعهم نولدكه: The Noldeke، وبروكلمان [293] يُنظَر: مقال محمود فهمي حجازي المنشور في مجلة الكتاب العَربي-القاهرة، أبريل 1969، بعُنوان: ((كارل بروكلمان بين التراث العَربي وعلم اللغة المقارن)). : C. Brockelman في مَجالِ عِلمِ اللُّغاتِ السَّاميَّةِ.
إنَّ مَدْرسةَ النَّحْويِّين الشُّبَّانِ أفادتْ مِنَ التَّقدُّمِ المَنهَجيِّ في العُلومِ الطَّبيعيَّةِ، وحاوَلتِ اسْتِخراجَ القَوانِينِ المُفسِّرةِ للتَّغيُّرِ اللُّغويِّ، وعُرِفتْ بالْتِزامِها الصَّارِمِ بفِكرةِ القَوانِينِ الصَّوتيَّةِ، وأفادَتْ مَدْرسةُ النَّحْويِّين الشُّبَّانِ في مَجالِ اللُّغاتِ الشَّرقيَّةِ أيضًا مِنَ الكُشوفِ الأثَريَّةِ الَّتي تمَّتْ في القَرْنِ التَّاسعَ عشَرَ، وأماطَتِ اللِّثامَ عن لُغاتٍ قَديمةٍ بائِدةٍ، ويَكْفي أن نَذكُرَ اللُّغاتِ المِصريَّةَ القَديمةَ، والآكاديَّةَ، والفِينيقيَّةَ، والعَربيَّةَ الجَنوبيَّةَ باعْتِبارِها أوضَحَ الأمْثِلةِ في الشَّرقِ، وبالإضافَةِ إلى هذا وذلك فقد كانت حَرَكةُ تَحْقيقِ النُّصوصِ القَديمةِ ذاتَ نَتائِجَ مُباشِرةٍ، فأتاحت لِلُّغويِّين نُصوصًا كَثيرةً اعْتَمدوا عليها وعلى غيرِها في بَحْثِ اللُّغاتِ، وتَوسَّلوا في هذا البَحْثِ بمَنهَجٍ دَقيقٍ يَهدُفُ عن طَريقِ القَوانِينِ التَّاريخيَّةِ إلى تَفْسيرِ العَلاقاتِ بَينَ اللُّغاتِ والمُسْتوياتِ اللُّغويَّةِ المُختلِفةِ؛ القَديمةِ والحَديثةِ في إطارِ الأُسْرةِ اللُّغويَّةِ الواحِدةِ، وفي ظلِّ هذه الظُّروفِ نشَأ عِلمُ اللُّغةِ المُقارَنُ في اللُّغاتِ الهِنديَّةِ الأوروبِّيَّةِ، ثمَّ في باقي الأُسْراتِ اللُّغويَّةِ [294] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 126- 130). .

انظر أيضا: