موسوعة اللغة العربية

المبحث الثَّالِثُ: العَربُ ومَعْرفتُهم للُّغاتِ الأجْنبيَّةِ


في كَنَفِ الحَضارةِ العَربيَّةِ الإسْلاميَّةِ كان الكَثيرُ مِنَ النَّحْويِّين واللُّغويِّين يُؤلِّفون بالعَربيَّةِ، ويَعرِفون أيضًا الفارِسيَّةَ أوِ التُّرْكيَّةَ على سَبيلِ المِثالِ؛ فسِيبَوَيهِ صاحِبُ أقْدَمِ كِتابٍ وصَل إلينا في النَّحْوِ العَربيِّ كان يَعرِفُ الفارِسيَّةَ [283] حول سيبويه ومعرفته بالفارسية، يُنظَر: ((الكتاب)) سيبويه (2/ 342). ، والسِّيرافيُّ مُؤلِّفُ أقْدَمِ شَرْحٍ وصَل إلينا على كِتابِ سِيبَوَيهِ نشَأ أيضًا في بِيئةٍ لُغويَّةٍ فارِسيةٍ، وقد نشأ السِّيرافيُّ في مِنطَقةِ جنوبِ غَربِ إيرانَ المواجِهةِ لدولةِ عُمانَ الحاليَّةِ، وكانت المِنطَقةُ الَّتي نشأ بها تَستخدِمُ الفارسيَّةَ كما تتعامَلُ مع باقي أنحاءِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ بالعربيَّةِ، ولم يكُنِ السِّيرافيُّ من العَرَبِ الذين هاجَروا إلى هذه المِنطَقةِ، بل كان أبوه فارسيًّا مجوسيًّا أسلَمَ وتغيَّر اسمُه. وتدُلُّ القرائِنُ ونصوصُ الرَّحَّالةِ الجُغرافيِّين على أنَّ سُكَّانَ هذه المِنطَقةِ كانوا يعيشون في بيئةٍ ثُنائيَّةِ اللُّغةِ حولَ سِيرافَ [284] يُنظَر: ((المسالك)) الإصطخري (ص: 148)، ((أحسن التقاسيم)) المقدسي (ص: 138)، ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 122). ، أمَّا أبو الفَرَجِ بنُ العِبريِّ المُتوفَّى 1289م فكان يَعرِفُ العِبريَّةَ، وألَّف بالسُّريانيَّةِ والعَربيَّةِ، كان ابنُ العِبريِّ مُؤرِّخًا ولُغويًّا اهتمَّ بجُهودِ النُّحاةِ العَربِ، ودرَس المُفصَّلَ للزَّمَخْشَريِّ، وألَّف في النَّحْوِ السُّريانيِّ على غِرارِ المُفصَّلِ. أمَّا النُّحاةُ اليَهودُ في الأنْدلُسِ الإسْلاميَّةِ فقد درَسوا النَّحْوَ العَربيَّ وألَّفوا نَحْوًا للعِبريَّةِ على أساسِ مَعْرفتِهم بمَنهَجِ التَّحْليلِ النَّحْويِّ عندَ العَربِ، وإلى جانِبِ هؤلاء جَميعًا كان النَّحْويُّ العَربيُّ أثيرُ الدِّينِ بنُ حيَّانَ رائِدَ التَّأليفِ في النَّحْوِ التُّركيِّ، وربَّما كان أيضًا أوَّلَ مُؤلِّفٍ في النَّحْوِ الحَبَشيِّ.
وفوقَ هذا فقد عرَف ابنُ حَزْمٍ القَرابةَ اللُّغويَّةَ بَينَ العَربيَّةِ والعِبْريَّةِ والسُّريانيَّةِ، وشبَّه هذه القَرابةَ بقَرابةِ لَهَجاتِ اللُّغةِ الواحِدةِ؛ قال ابنُ حَزْمٍ: (الَّذي وقَفنا عليه وعَلِمناه يَقينًا أنَّ السُّريانيَّةَ والعِبْرانيَّةَ والعَربيَّةَ هي لُغةُ مُضَرَ ورَبيعةَ لا لُغةُ حِمْيَرٍ، لُغةٌ واحِدةٌ تَبدَّلتْ بتَبدُّلِ مَساكِنِ أهْلِها فحدَث فيها جَرْشٌ كالَّذي يَحدُثُ مِنَ الأنْدلُسيِّ إذا رام نَغْمةَ أهْلِ القَيروانِ، ومِنَ القَيروانيِّ إذا رام نَغْمةَ الأنْدلُسيِّ، ومِنَ الخُراسانيِّ إذا رام نَغْمتَها، ونحن نَجدُ مَنْ سمِع لُغةَ أهْلِ فَحْصِ البلُّوطِ؛ وهي على لَيلةٍ واحِدةٍ مِن قُرْطُبةَ، كاد أن يقولَ إنَّها لُغةٌ أخرى غيرُ لُغةِ أهْلِ قُرْطُبةَ، وهكذا في كَثيرٍ مِنَ البِلادِ فإنَّه بمُجاوَرةِ أهْلِ البَلدةِ بأمَّةٍ أخرى تَتبدَّلُ لُغتُها تَبْديلًا لا يَخْفى على مَنْ تأمَّلَه، ونحن نَجدُ العامَّةَ قد بدَّلتِ الألْفاظَ في اللُّغةِ العَربيَّةِ تَبْديلًا، وهو في البُعدِ عن أصْلِ تلك الكَلِمةِ كلُغةٍ أخرى، ولا فَرْقَ، فنَجدُهم يَقولون في العِنَبِ العِينَب، وفي السَّوطِ أسطوط، وفي ثَلاثةِ دَنانير ثلثدا، وإذا تَعرَّبَ البَرْبَريُّ فأراد أن يقولَ: الشَّجرة، قال السَّجرة، وإذا تَعرَّبَ الجِلَّيقيُّ أبْدَل مِنَ العَينِ والحاءِ هاءً، فيقولُ مُهمَّد؛ إذا أراد أن يقولَ: مُحمَّد، ومِثلُ هذا كَثيرٌ، فمَنْ تَدبَّر العَربيَّةَ والعِبْرانيَّة السُّريانيَّةَ أيقَن أنَّ اخْتِلافَهما إنَّما هو مِن نَحْوِ ما ذكَرنا مِن تَبْديلِ ألْفاظِ النَّاسِ على طُولِ الأزْمانِ، واخْتِلافِ البُلدانِ ومُجاوَرةِ الأمَمِ، وأنَّها لُغةٌ واحِدةٌ في الأصْلِ، وإذْ تَيقَّنا ذلك فالسُّريانيَّةُ أصْلٌ للعَربيَّةِ وللعِبْرانيَّةِ معًا، والمُسْتفيضُ أنَّ أوَّلَ مَنْ تَكلَّم بِهذه العَربيَّةِ إسْماعيلُ عليه السَّلامُ؛ فهي لُغةُ ولَدِه، والعِبْرانيَّةُ لُغةُ إسْحاقَ ولُغةُ ولَدِه، والسُّريانيَّةُ بلا شكٍّ هي لُغةُ إبْراهيمَ صلى اللهُ عليه وعلى نَبيِّنا وسلَّم بنَقْلِ الاسْتِفاضةِ المُوجِبةِ لصِحَّةِ العِلمِ؛ فالسُّريانيَّةُ أصْلٌ لهما) [285] ((الإحكام في أصول الأحكام)) لابن حزم (1/ 31، 32). .

انظر أيضا: