موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّاني: نَشْأةُ الدَّلالةِ وتَطوُّرُها


يمكِنُ الوقوفُ على مرامي هذه القَضيَّةِ من خلالِ النِّقاطِ الآتيةِ:
أوَّلًا: الدَّافِعُ نحوَ استخلاصِ عِلمِ الدَّلالةِ من عُلومِ اللُّغةِ الأُخرى:
(إنَّ نشأةَ عِلمِ الدَّلالةِ لم تكُنْ نشأةً مستقِلَّةً عن علومِ اللُّغةِ الأُخرى، إنما كان يُعَدُّ هذا العِلمُ جُزءًا لصيقًا بعِلمِ اللِّسانيَّاتِ الذي كان يهتَمُّ بدراسةِ اللِّسانِ البَشَريِّ، إلَّا أنَّ عدَمَ اهتمامِ عُلَماءِ اللِّسانيَّاتِ بدَلالةِ الكَلِماتِ -كما أشار إلى ذلك (بريال)- هو الذي كان دافعًا لبعضِ العُلَماءِ اللُّغَويِّين إلى البحثِ عن مجالٍ عِلميٍّ يضُمُّ بحثًا في جوهَرِ الكَلِماتِ ودَلالاتِها؛ لكي يحدِّدوا ضِمْنَه موضوعاتِه ومعاييرَه وقواعِدَه ومناهِجَه وأدواتِه) [203] ((علم الدلالة وأصوله ومباحثه في التراث العربي)) لمنقور عبد الجليل (ص: 19). .
فـ(في حُدودِ القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ الميلاديِّ تشعَّبت الدِّراساتُ اللُّغَويَّةُ، فظهرت النَّظريَّاتُ اللِّسانيَّةُ، وتعدَّدت المناهِجُ، فبرزت (الفونولوجيا) التي اهتمَّت بدراسةِ وظائِفِ الأصواتِ إلى جانِبِ عِلمِ (الفونتيك) الذي يهتَمُّ بدراسةِ الأصواتِ المجرَّدةِ، كما برزت (الأتيمولوجيا) التي اعتنت بدراسةِ الاشتقاقاتِ في اللُّغةِ، ثمَّ عِلمُ (الأبنيةِ والتراكيبِ) الذي يختصُّ بدراسةِ الجانِبِ النَّحْويِّ، وربْطِه بالجانِبِ الدَّلاليِّ في بناءِ الجملةِ) [204] يُنظَر: ((تغيرات الدلالة ودورها في المعنى- دراسة في الحديث النبوي الشريف)) لسعدية موسى عمر، إقبال سر الختم أحمد عبد الباقي (ص: 3)، ((علم الدلالة وأصوله ومباحثه في التراث العربي)) لمنقور عبد الجليل (ص: 16). .
وبَعدَ ذلك توفَّرَ لعِلمِ الدَّلالةِ وُجودٌ مستَقِلٌّ، وإن بَقِيَت تربِطُه بعلومِ اللُّغةِ الأُخرى -وخاصَّةً الألسنيَّةَ- وشائِجُ تتجلَّى بصورةٍ واضحةٍ في مجالِ البحثِ؛ حيثُ يَبرُزُ التقاطُعُ بَينَ هذه العلومِ مُجتَمِعةً، ولكِنْ ما يميِّزُ البحثَ الدَّلاليَّ هو عُمقُ الدِّراسةِ في معنى الكَلِماتِ والتراكيبِ متَّخِذًا في ذلك منهجًا خاصًّا يتوخَّى المعياريَّةَ في اللُّغةِ والكلامِ. والعلومُ إذا اختلفت في المنهَجِ تباينت في الهُويَّةِ، وقِوامُ العُلومِ ليس فحَسْبُ مواضيعَ بحثِها، وإنَّما يستقيمُ العِلمُ بموضوعٍ ومنهَجٍ [205] يُنظَر: ((اللسانيات وأسسها المعرفية)) لعبد السلام المسدي (ص: 41)، ((علم الدلالة وأصوله ومباحثه في التراث العربي)) لمنقور عبد الجليل (ص: 22). .
ثانيًا: السِّياقُ التَّاريخيُّ لنشأةِ وتطَوُّرِ عِلمِ الدَّلالةِ
إذا تتبَّعْنا السِّياقَ التَّاريخيَّ وجَدْنا أنَّ دراسةَ المعنى في اللُّغةِ قد بدأت منذ أن حَصَل للإنسانِ وَعيٌ لُغَويٌّ [206] يُنظَر: ((علم الدلالة وأصوله ومباحثه في التراث العربي)) منقور عبد الجليل (ص: 15). ؛ فاللُّغةُ قد جذبت اهتمامَ المُفَكِّرين منذُ زَمَنٍ بعيدٍ، ولمَ لا؟ وهي عليها مدارُ حياةِ مُجتَمَعاتِهم الفِكريَّةِ والاجتماعيَّةِ، وبها قِوامُ فَهمِ كتُبِهم المقَدَّسةِ، وكان من جملةِ الآراءِ التي أوردها العُلَماءُ حولَ نشأةِ اللُّغةِ قَولُهم بوجودِ عَلاقةٍ ضروريَّةٍ بَينَ اللَّفظِ والمعنى، شبيهةٍ بالعَلاقةِ اللُّزوميَّةِ بَينَ النَّارِ والدُّخَانِ [207] يُنظَر: ((علم الدلالة)) لأحمد مختار عمر (ص: 19). .
فقد كان هذا مع عُلَماءِ اللُّغةِ الهنودِ؛ حيث كان كتابُهم الدِّينيُّ (الفيدا) مَنبَعَ الدِّراساتِ اللُّغَويَّةِ، كما كان لليُونانِ أثَرُهم البيِّنُ في بَلْورةِ مفاهيمَ لها صلةٌ وثيقةٌ بعِلمِ الدَّلالةِ؛ فلقد حاور أفلاطون أستاذَه سُقْراطَ حولَ موضوعِ العَلاقةِ بَينَ اللَّفظِ ومعناه، وكان أفلاطون يميلُ إلى القولِ بالعَلاقةِ الطَّبيعيَّةِ بَينَ الدَّالِّ ومدلولِه، وأمَّا أَرِسْطو فكان يقولُ باصطِلاحيَّةِ العَلاقةِ، وذهَب إلى تقسيمِ الكلامِ إلى كلامٍ خارجيٍّ وكلامٍ داخليٍّ في النَّفسِ، فضلًا عن تمييزِه بَينَ الصَّوتِ والمعنى، معتَبِرًا المعنى متطابِقًا مع التصَوُّرِ الذي يحمِلُه العَقلُ عنه.
أمَّا المفكِّرون العَرَبُ فقد خصَّصوا للبُحوثِ اللُّغَويَّةِ حَيِّزًا واسعًا في إنتاجِهم الموسوعيِّ الذي يَضُمُّ إلى جانبِ النَّظَريَّةِ -كالمَنطِقِ والفَلسَفةِ- علومًا لغويَّةً قد مسَّت كُلَّ جوانِبِ الفِكرِ عِندَهم، سواءٌ تعَلَّق الأمرُ بالعُلومِ الشَّرعيَّةِ؛ كأصولِ الفِقهِ، والفقهِ، والحديثِ، والتَّفسيرِ، أو عُلومِ العربيَّةِ؛ كالنَّحوِ، والصَّرفِ، والبلاغةِ، بل إنَّهم كانوا يَعُدُّون علومَ العربيَّةِ نَفْسَها وتعلُّمَها من العُلومِ الشَّرعيَّةِ؛ ولذلك تفاعلَت الدِّراساتُ اللُّغَويَّةُ مع الدِّراساتِ الفِقهيَّةِ، وبنى اللُّغَويُّون أحكامَهم على أصولِ دِراسةِ القرآنِ والحديثِ والقراءاتِ، وقالوا في أمورِ اللُّغةِ بالسَّماعِ والقياسِ، والإجماعِ والاستصحابِ، تمامًا كما فَعَل الفُقَهاءُ في معالجةِ أمورِ عُلومِ الدِّينِ [208] يُنظَر: ((فنون التعقيد وعلوم الألسنية)) لريمون طحان (ص: 25)، ((علم الدلالة وأصوله ومباحثه في التراث العربي)) منقور عبد الجليل (ص: 15- 16). .
ثالثًا: الدَّوافِعُ الدِّينيَّةُ عِندَ المُسلِمين نحوَ رعايةِ عُلومِ اللُّغةِ عامَّةً وعِلمِ الدَّلالةِ خاصَّةً:
لم يكُنْ حِرصُ العَرِبِ على العربيَّةِ وتشدُّدُهم في المحافظةِ عليها إلَّا رغبةً منهم في حِفظِ لُغةِ القرآنِ؛ ليظَلَّ مفهومًا مقروءًا متدارَسًا على مدى الدَّهرِ؛ فزاد الإقبالُ على دراسةِ القرآنِ واللُّغةِ والشِّعرِ، وبدأت حركةٌ كُبرى لجمعِ اللُّغةِ من البوادي، ورحَل من أجلِ ذلك العُلَماءُ، وعادوا بما اجتمَع لديهم من كلامِ العَرَبِ، حتى امتلأت به صُحُفُهم وخزائِنُهم، وهكذا كان القرآنُ دافعًا لكثيرٍ من العُلَماءِ للاطِّلاعِ على اللُّغةِ، وتحمُّلِ المشاقِّ في سبيلِ جمعِها، ومعرفةِ المزيدِ من أسرارِها، وتحديدِ معاني مفرداتِها، والإلمامِ بفُنونِها المتنوِّعةِ [209] يُنظَر: ((ضحى الإسلام)) لأحمد أمين (1/310). .
فالعَربيَّةُ لها ظَرفٌ لم يَتوفَّر لأيِّ لُغةٍ مِن لُغاتِ العالَمِ؛ ذلك أنَّها ارتَبطت بالقُرآنِ منذُ أربعةَ عشَرَ قَرنًا، ودُوِّنت بها العُلومُ الإسلاميَّةُ الَّتي كان مِحوَرُها هو القُرآنَ الكَريمَ، وقد كفَل اللهُ له الحِفظَ ما دام يَحفَظُ دِينَه، فقال عزَّ وجلَّ: إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ، ولولا أنَّ اللهَ شرَّفها فأنزَلَ بها كِتابَه لأمسَتِ العَربيَّةُ الفُصحى لُغةً أثَريَّةً تُشبِهُ اللَّاتينيَّةَ، ولَسادَتِ اللَّهَجاتُ العَربيَّةُ المُختلِفةُ، وازدادت على مرِّ الزَّمانِ بُعدًا عنِ الأصلِ الَّذي انسَلخت منه [210] يُنظَر: ((التطور اللغوي)) لرمضان عبد التواب (ص: 12). .
وكما أنَّ اللُّغةَ تَخضَعُ لحَياةِ الأمَّةِ، وتَنمو بنُموِّها، وتَتطوَّرُ بتَطوُّرِها، فيَنشأُ مِن هذا النُّمُوِّ تَغيُّرٌ واختِلافٌ بين لُغةِ عَصرٍ ولُغةِ العَصرِ الَّذي سبَقه- فألفاظُ الشَّريعةِ كذلك؛ لم تَتكوَّن مرَّةً واحِدةً، بل مرَّت بأطوارٍ مُتعدِّدةٍ، وهي في نَشأتِها مُصاحِبةٌ للتَّنزيلِ، ثمَّ أخَذت في نِطاقِ التَّوسُّعِ والنُّمُوِّ [211] يُنظَر: ((فقه النوازل: قضايا فقهية معاصرة)) لبكر أبو زيد (1/140). .
وقد بدأ التَّحوُّطُ على القُرآنِ فيما وضَعه أميرُ المُؤمِنينَ الإمامُ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ مِن مَعالِمِ النَّحوِ، حينَما دخَل عليه أبو الأسوَدِ الدُّؤَليُّ فوجَد في يدِه رُقعةً، فسألَه عنها، فقال أميرُ المُؤمِنينَ: إنِّي تَأمَّلتُ كَلامَ العَربِ فوَجدتُه قد فسَد بمُخالَطةِ هذه الأعاجِمِ، فأردتُ أن أضَعَ شيئًا يَرجِعون إليه، ويَعتمِدون عليه، وإذا الرُّقعةُ فيها مَبادِئُ هذا العِلمِ، وجاء فيها: الكَلامُ كلُّه: اسمٌ وفِعلٌ وحَرفٌ؛ فالاسمُ: ما أنبأ عن مُسمًّى، والفِعلُ: ما أنبأ عن حَرَكةِ المُسمَّى، والحَرفُ: ما أنبأ عن مَعنًى ليس باسمٍ ولا فِعلٍ، وهذه إشارَةٌ أُولى، وتَحديدٌ دَقيقٌ لِهذه الأقسامِ، وفي النَّصِّ إشارَةٌ إلى أنَّ اللَّحنَ في قِراءَةِ القُرآنِ كان هو السَّببَ المُباشِرَ لوَضعِ النَّحوِ العَربيِّ لضَبطِ قِراءَةِ القُرآنِ [212] يُنظَر: ((البيان والتبيين)) للجاحظ (2/219). .
وقد قام أبو الأسوَدِ بنَقطِ كَلِماتِ المُصحَفِ الشَّريفِ عندَما فسَدتِ السَّليقةُ العَربيَّةُ، فوضَع شيئًا يَقيسُ عليه العَربُ كَلامَهم؛ فكان أوَّلَ مَن أسَّس العَربيَّةَ، وأنهَج سَبيلَها، ووضَع قِياسَها ... ذلك حين اضطَرب كَلامُ العَربِ [213] يُنظَر: ((طبقات فحول الشعراء)) للجمحي (1/12). [214] يُنظَر: ((شبكة الألوكة)) نشأة الدلالة وتطورها، لسامح عبد السلام محمد: https://cp.alukah.net/sharia/0/68099 .
رابعًا: اهتِمامُ الأصوليِّينَ والفُقَهاءِ المُسلِمين بعِلمِ الدَّلالةِ
لمَّا كانت علومُ الدِّينِ تَهدُفُ إلى استنباطِ الأحكامِ الفِقهيَّةِ، ووَضْعِ القواعِدِ الأصوليَّةِ للفِقهِ؛ اهتَمَّ العُلَماءُ بدلالةِ الألفاظِ والتَّراكيبِ، وتوسَّعوا في فَهمِ معاني نصوصِ القرآنِ والحديثِ، واحتاج ذلك منهم إلى وضعِ أُسُسٍ نظريَّةٍ؛ فالأبحاثُ الدَّلاليَّةُ في الفِكرِ العَرَبيِّ التُّراثيِّ لا يمكِنُ حَصرُها في حَقلٍ مُعَيَّنٍ من الإنتاجِ الفِكريِّ، بل هي تتوزَّعُ لتشمَلَ مساحةً شاسِعةً من العُلومِ، يتحاوَرُ فيها المَنطِقُ وعلومُ المُناظَرةِ وأصولُ الفِقهِ والتفسيرُ والنَّقدُ الأدبيُّ والبيانُ [215] يُنظَر: ((علم الدلالة وأصوله في التراث)) لمنقور عبد الجليل (ص: 5). .
وكان البَحثُ في دَلالاتِ كَلِماتِ اللُّغةِ العَربيَّةِ ممَّا تَنبَّهَ إليه اللُّغويُّون القُدَماءُ، يَهدي إلى ذلك الأعمالُ العِلميَّةُ المُبكِّرةُ عندَهم، وما ضَبطُ المُصحَفِ الشَّريفِ بالشَّكلِ إلَّا دَليلٌ على ذلك؛ فتَغييرُ ضَبطِ الكَلِمةِ يُؤدِّي إلى تَغييرِ وَظيفَتِها، وهذا يَترتَّبُ عليه تَغييرٌ في مَعناها، كما أنَّ البَحثَ في عُلومِ العَربيَّةِ لازِمٌ في فَهمِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ولَقِي الدَّرسُ الدَّلاليُّ اهتِمامًا بالِغًا منذُ بِدايةِ البَحثِ اللُّغويِّ عند العَربِ؛ لأهمِّيَّتِه في مَعرِفةِ دَلالاتِ الألفاظِ [216] يُنظَر: ((الخصائص)) لابن جني (2/146). .
(ولقد عَقَد الأصوليُّون أبوابًا للدَّلالاتِ في كُتُبِهم، وتناولت موضوعاتٍ؛ مِثلَ: دلالةِ اللفَّظِ، دلالةِ المنطوقِ والمفهومِ، تقسيمِ اللَّفظِ من حيثُ الظُّهورُ والخفاءُ، والعمومُ والخُصوصُ، والتَّخصيصُ والتَّقييدُ) [217] يُنظَر: ((المدارس اللسانية المعاصرة)) لنعمان بوقرة (ص: 23). .
أمَّا الشَّافِعيُّ فإنَّه كان يَدعو إلى ضَرورةِ الإلمامِ بالعَربيَّةِ؛ لأنَّ أصحابَ العَربيَّةِ أخلَقُ بتَأويلِ مَعاني القُرآنِ والسُّنَّةِ وفَهمِها، وأصحابُ العَربيَّةِ جِنُّ الإنسِ؛ يُبصِرون ما لا يُبصِرُ غيرُهم [218] يُنظَر: ((المدخل إلى علم أصول الفقه)) لمعروف الدواليبي (ص: 76). ، وقد كان ذا اطِّلاعٍ واسِعٍ بعِلمِ العَربيَّةِ، وطُرقِ تَأديةِ المَعاني مِن غيرِ لَبسٍ، وهذا ظاهِرٌ مِنَ المَباحِثِ الدَّلاليَّةِ الَّتي أثارَها في كِتابِه: الرِّسالَة، ومِن ذلك البابُ الَّذي عقَده عنِ الاختِلافِ بين الأحادِيثِ في رِسالَتِه، مُثبِتًا أنَّ اتِّفاقَ العِباراتِ لا يَعني اتِّفاقَ المَدلولاتِ، يقولُ: (ويَسُنُّ بلفظٍ مَخرَجُه عامٌّ جُملةً بتَحريمِ شيءٍ أو بتَحليلِه، ويَسُنُّ في غيرِه خِلافَ الجُملةِ؛ فيُستَدَلُّ على أنَّه لم يُرِد بما حرَّم ما أحَلَّ، ولا بما أحَلَّ ما حرَّم) [219] ((الرسالة)) للشافعي (ص: 214). [220] يُنظَر: ((شبكة الألوكة)) نشأة الدلالة وتطورها، لسامح عبد السلام محمد: https://cp.alukah.net/sharia/0/68099 .
خامسًا: اهتِماماتُ البلاغيِّينَ
التي تمثَّلت في دراسةِ الحقيقةِ والمجازِ، وفي دراسةِ كثيرٍ من الأساليبِ كالأمرِ والنَّهيِ.. وفي نظريَّةِ النَّظْمِ للجُرْجانيِّ [221] ((علم الدلالة)) لأحمد مختار عمر (ص: 214). . أمَّا قضايا الترادُفِ والأضدادِ والمُشتَرَكِ اللَّفظيِ، فكانت أيضًا موضِعَ اهتمامٍ وخِلافٍ؛ قال بعضُهم بوجودِ الترادُفِ على أساسِ اتِّفاقِ المعنى بَينَ كلمتَينِ، وأنكر بعضُهم ذلك بوجودِ الأضدادِ بأن تدُلَّ الكَلِمةُ الواحِدةُ على الشَّيءِ ونَقيضِه؛ كدَلالةِ (الجَونِ على الأبيضِ والأسوَدِ)، وقال بعضُهم بوجودِ المُشتَرَكِ، وأنكر بعضُهم ذلك [222] ((البحث اللغوي)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 22). . '
ولقد التَفَت علماؤنا إلى أهمِّيَّةِ السِّياقِ في تحديدِ الدَّلالةِ ودورِها في الحَدَثِ اللُّغَويِّ، فلا نجِدُ أُصوليًّا ولا لُغَويًّا إلا وقد أشار إلى ذلك عند كلامِه عن الدَّلالةِ [223] ((علم الدلالة يسن النظرية والتطبيق)) لأحمد نعيم الكراعين (ص: 86). .
سادسًا: عنايةُ المتكَلِّمين والفلاسِفةِ بعِلمِ الدَّلالةِ
فقد اعتَنى الفارابي بالألفاظِ، فصنَّفها ووضَع لها عِلمًا خاصًّا سمَّاه: (عِلمَ الألفاظِ)، الذَّي عدَّه مِن فُروعِ عُلومِ اللِّسانِ الَّتي قسَّمها إلى سَبعةِ أقسامٍ، وهي: عِلمُ الألفاظِ المُفرَدةِ، وعِلمُ الألفاظِ المُركَّبةِ، وعِلمُ قَوانينِ الألفاظِ عندَما تكونُ مُفرَدةً، وقَوانينُ الألفاظِ عندَما تُركَّبُ، وقَوانينُ تَصحيحِ الكِتابةِ، وقَوانينُ تَصحيحِ القِراءةِ، وقَوانينُ الشِّعرِ [224] يُنظَر: ((إحصاء العلوم)) للفارابي (ص: 159). .
ودِراسةُ الفارابي للألفاظِ لا يُمكِنُ تَصوُّرُها بمَعزِلٍ عنِ الدَّلالةِ، فلا وُجودَ لألفاظٍ فارِغةِ الدَّلالةِ في عِلمَيِ المَنطِقِ والفَلسفةِ، إنَّما الألفاظُ ودَلالاتُها وَجهانِ لعُملةٍ واحِدةٍ، وقد قسَّم الفارابي الألفاظَ الدَّالَّةَ إلى ثَلاثةِ أقسامٍ: الاسمُ والفِعلُ والأداةُ -أيِ: الحَرِفُ- وإذا كانت دَلالةُ الاسمِ والفِعلِ واضِحةً، فإنَّ دَلالةَ الأداةِ قد يَكتَنِفُها غُموضٌ، ويَشرَحُ الفارابي في كِتابِه: (الحُروف) هذه المَسألةَ، ويُفيضُ البَحثَ فيها؛ ففي مَقامِ حَصرِه لاستِخداماتِ الحَرفِ (ما) يقولُ: يُستعمَلُ (ما) في السُّؤالِ عن شيءٍ مُفرَدٍ؛ فالحُروفُ ليست لها دَلالةٌ في ذاتِها، إنَّما قِيمَتُها الدَّلاليَّةُ فيما تُشِيرُ إليه، واللَّفظُ لا يدُلُّ على ذاتِه، إنَّما يدُلُّ على المُحتوى الفِكريِّ الَّذي في الذِّهنِ، وفي ذاتِ الإطارِ يَشرَحُ الفارابي استِعمالاتِ لفظِ (مَوجود) فيقولُ: (المَوجودُ لفظٌ مُشترَكٌ يُقالُ على جَميعِ المَقولاتِ، والأفضَلُ أن يُقالَ: إنَّه اسمٌ لجِنسٍ مِنَ الأجناسِ العاليةِ، على أنَّه ليست له دَلالةٌ على ذاتِه) [225] يُنظَر: ((إحصاء العلوم)) للفارابي (ص: 166). .
كما يُحدِّدُ ابنُ سينا ماهيَّةَ اللَّفظِ المُفرَدِ بالنَّظرِ إلى دَلالتِه، فما كانت دَلالتُه واحِدةً لا تَتجزَّأُ فهو اللَّفظُ المُفرَدُ، بحيثُ إذا تَجزَّأتْ دَلالتُه لم تُفصِحْ عنه، وتَحوَّلت إلى دالِّ غيرِه. ويَشرَحُ ابنُ سِينا هذا بقولِه: (اللَّفظُ الدَّالُّ المُفرَدُ هو اللَّفظُ الَّذي لا يُريدُ الدَّالُّ به على مَعناه أن يدُلَّ بجُزءٍ منه البتَّةَ على شيءٍ) [226] ((منطق المشرقيين والقصيدة المزدوجة في المنطق)) لابن سينا (ص: 31). .
وتناوَل ابنُ سِينا تعيينَ العَلاقةِ بَينَ اللَّفظِ والمعنى من جوانِبَ ثلاثةٍ:
دَلالةُ المُطابَقةِ والتَّضمُّنِ والالتِزامِ؛ فإذا كان الانتِقالُ بواسِطةِ العَقلِ مِنَ الدَّالِّ إلى مَدلولِه، لعِلمِه بعَلاقةِ الوَضعِ، فكلَّما تَحقَّق مَسموعُ اسمٍ ارتَسم في الخَيالِ مَدلولُه؛ فالدَّلالةُ عندئذٍ دَلالةٌ وَضعيَّةٌ، تَمنَعُ مِن وُقوعِ الالتِباسِ بين الدَّلالاتِ الثَّلاثِ؛ لأنَّه قد يُطلَقُ اللَّفظُ ولا يُعنى به مَدلولُه المُطابِقُ له، كما إذا أطلقنا لفظَ: (الشَّمسِ) وعَنَينا به (الجِرمَ) كانتِ الدَّلالةُ بينَهما مُطابِقةً، وإذا عَنَينا به (الضَّوءَ) كانتِ العَلاقةُ بينَهما تَضمُّنًا)، وتدخُّلُ الوَضعِ وتَوسُّطُ العُرفِ الأصليِّ يَمنَعُ انتِقاضَ الدَّلالاتِ بعضِها ببعضٍ.
ويُورِدُ ابنُ سِينا أمثِلةً يُوضِّحُ فيها أقسامَ الدَّلالةِ الثَّلاثةَ؛ فدَلالةُ المُطابَقةِ هي التَّطابُقُ الحاصِلُ بين اللَّفظِ وما يدُلُّ عليه، كالإنسانِ؛ فإنَّه يدُلُّ على الحَيَوانِ النَّاطِقِ.
أمَّا دَلالةُ التَّضمُّنِ، فهي ما يَتضمَّنُه اللَّفظُ مِن مَعانٍ جُزئيَّةٍ تَدخُلُ في ماهيَّتِه.
أمَّا دَلالةُ الالتِزامِ، فهي تَحتاجُ إلى أمرٍ خارِجيٍّ لعَقدِ الصِّلةِ بين الدَّالِّ ولازِمِه، ويقولُ ابنُ سِينا مُعرِّفًا ذلك: (أصنافُ دَلالةِ اللَّفظِ على المَعنى ثَلاثةٌ: دَلالةُ المُطابَقةِ، ودَلالةُ التَّضمُّنِ، ودَلالةُ الالتِزامِ) [227] ((منطق المشرقيين)) لابن سينا (ص: 37). ، وهي دَلالاتٌ تَجمَعُ الأنْساقَ كلَّها.
ثمَّ نَجدُ الغَزاليَّ يُقسِّمُ الألفاظَ مِن حيثُ إفرادُها وتَركيبُها إلى ثَلاثةِ أقسامٍ: ألفاظٌ مُفرَدةٌ، ومُركَّبةٌ ناقِصةٌ، ومُركَّبةٌ تامَّةٌ؛ فالمُفرَدُ عنده لا يَخرُجُ عن تَصوُّرِ مَن سبَقه مِنَ العُلَماءِ، كالفارابي وابنِ سِينا، في قولِه: (المُفرَدُ وهو الَّذي لا يُرادُ بالجُزءِ منه دَلالةٌ على شيءٍ أصلًا حين هو جُزؤُه؛ كقولِك: عِيسى وإنسان، فإنَّ جُزأَي عِيسى؛ وهُما: (عي وسا)، وجُزأَي إنسان؛ وهما: (إن وسان)، ما يُرادُ بشيءٍ منهما الدَّلالةُ على شيءٍ أصلًا) [228] ((معيار العلم في فن المنطق)) للغزالي (ص: 49). .
ومِن خلالِ ما سبَق يتبَيَّنُ لنا أنَّ البحثَ في مدلولاتِ ألفاظِ اللُّغةِ يَضرِبُ بجُذورِه العتيقةِ إلى أعماقِ تاريخِ اللُّغةِ ذاتِها، وتنزُّلُ القرآنِ باللِّسانِ العَرَبيِّ المُبِينِ كان نقطةً فاصلةً، ونَقلةً نوعيَّةً في تاريخِ عُلومِ هذه اللُّغةِ، ومِن بَينِها عِلمُ الدَّلالةِ الذي ازدهر ونما وتطوَّر على أيدي عُلَماءِ المُسلِمين على اختلافِ عُلومِهم وفنونِهم التي تخدُمُ جميعُها نصوصَ الوَحيِ الشَّريفِ؛ تفسيرًا وتأويلًا وتقعيدًا واستنباطًا، وكلُّ ذلك من خلالِ دَلالاتِ الألفاظِ والتَّراكيبِ [229] يُنظَر: ((شبكة الألوكة)) نشأة الدلالة وتطورها، لسامح عبد السلام محمد: https://cp.alukah.net/sharia/0/68099 .

انظر أيضا: